في مقال سابق بعنوان " قيم للتبشير وسياسة تدجيل. الاتحاد الأوروبي مثلا" اشرنا لتعدد المعايير في الخطاب السياسي الغربي والاتحاد الأوروبي بشكل خاص, فيما يتعلق بالسياسات الخارجية الخاصة بالعالم الثالث, العربي منه على وجه الخصوص, والى أن المتغير الوحيد في السياسات عبر الزمن لم يكن الجوهر وإنما الأسلوب. الطريقة. فمكيافيلي بقي مكيافيلي. وأصبح تلامذته نسخا أقل أصالة وأكثر انتهازية بأساليب عصرية ــ رب تلميذ فاق معلمه ــ وبقيت الغاية تبرر الواسطة. وبقي فصل السياسة عن الأخلاق قائما, ولكن مع زيادة عمق واتساع هذا الفصل.
الأنظمة العربية التي ورثت الاستعمار, تسلقا على تضحيات الشعوب بالأرواح وبكل ما تملك. واستغلالا للآمال التي كانت تحدوها باستقلال يوفر لها الحرية والكرامة, ومستقبل أفضل لها وللأجيال القادمة من أبنائها وأحفادها. هذه الأنظمة, ورقصا على تلك الآمال, توصلت إلى السلطة, بطرق اختلفت من قطر لآخر,فاحتكرتها وجعلتها أداة قمع واستغلال وإرهاب.
حاول القابضون عليها, ابتداء, بناء أنظمة سياسية على نحو ما هو معمول به في الدولة المستعمرة. فأُعلنت دساتير "عصرية" بهدف تنظم الدولة الناشئة والسلطات فيها. وقبل بعضهم بالتعديدية الحزبية صراحة أو مواربة , وشكلوا مجالس نيابية, وهيئات قضائية, و مجالس وزراء... ورفض البعض الآخر منهم أي تفكير بالسماح لظهور الرأي الأخر بآي شكل من الأشكال منظما أو فرديا.
بعد الاستقلال بفترة وجيزة جدا دخل اللعبة السياسية, في العديد من تلك "الدول", من هم ليس من أهل السياسة ولا من جهابذتها, لا تكوينا ولا خبرة ولا ثقافة. الضباط. فافسدوا السلطات التي احتكروها وأفسدت السلطات من كان منهم, بداية, أصحاب نوايا سليمة, وتطلعات صبيانية, وحماسة عاطفية. ثم تتالت الانقلابات وما جلبته ورسخته من دكتاتوريات عسكرية وأنظمة قمع, موروثة ومستحدثة, بأساليب وطرق وإمكانيات كان كثيرا ما يتورع عنها الاستعمار نفسه. وانتشرت ثقافة التخوين والاتهام, والإعدام, والسحل, والتعذيب, وهتك المحرمات, ودوس الكرامات, والإقصاء, وما تبعها من خوف ورعب كان وما زال وسيبقى أثره كبير في تكوين نفسية الإنسان العربي أينما كان, حتى في المغتربات.
لم يكن لدى الأنظمة الناشئة تلك من قيم للتبشير بها فأساليب وصولها للسلطة واحتكارها لم يكن يدخل بأي شكل من الأشكال في منظومة القيم. وإنما كان همها البحث عن المشروعية المفقودة. فوجدتها. شعارات. شعارات تعرف إنها للطرح فقط. وأنها في تركيبتها وذهنيتها كأنظمة اعجز من تحقيق أي منها حتى ولو أرادت.
القضية الفلسطينية بماسيها المستمرة, منذ النكبة والى اليوم,دخلت في حملة الشعارات وتحولت إلى قضية شعارات . أصبحت الشعار الأساس الذي يلجأ إليه رافعه ليستمد منه كل مشروعية, وكل المشروعية. فأي انقلاب لم يعلن أن هدفه الرئيس ليس الوصول للسلطة وإنما تحرير فلسطين عبر استلام السلطة؟. وأي قمع للإنسان العربي ليس فيه شيء من شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة؟. وأي خراب اقتصادي لم يبرر بالإنفاق للإعداد للمعركة؟. وأي حاكم لم يدع رهن نفطه وثرواته من اجل التحرير, وتحرير القدس بشكل خاص, وإعادة الفلسطينيين لفلسطين وفلسطين للفلسطينيين؟. وأي حاكم لم يأخذ هذه المهمة على عاتقه وحده بفلسطينيين أو بدونهم؟. وأي نزاعات بين الأنظمة العربية, ولو كانت شخصية بحتة, لم يكن في أسبابها المعلنة بعض من فلسطين, أو من فلسطينيين, أفرادا أو منظمات وفصائل؟. وأي خلاف أو صراع أو اقتتال فلسطيني فلسطيني لا يد لنظام عربي فيه؟.
أليست هي قضية العرب الأولى؟ ألا تستحق حملة من الشعارات تتسع لتتلاقى هنا وتتنافر هناك. شعارات هنا, يطرحها أصحاب الرؤوس الحامية الأكثر وطنية ووحدوية من الجميع, تدعو, من اجل التحرير, لوحدة عربية شاملة من المحيط إلى الخليج فورا. معتبرة كل افتراء على الوحدة الشاملة الفورية تلك افتراء على القضية. وأن الوحدة المنقوصة هي تكريس للقطرية ــ وكأن الوحدة كانت قائمة ثم تجزأت وتكرست في أقطار كما هو عليه الحال الآن ــ.
وشعارات هناك, من أصحاب الرؤوس الأقل "حماوة" و سخونة, تقبل بوحدة جزئية, وحتى بين قطرين أو أكثر, في انتظار نضوج الظروف ــ مع محاولة استعجال النضوج بالتآمر هنا وهناك وهنالك, وتدبير الفتن والانقلابات ـ.
ترتيب الأولويات والمتأخرات في الشعارات: الوحدة والحرية والاشتراكية, أم الحرية والاشتراكية والوحدة, أم الاشتراكية والوحدة والحرية, أسال وحده سيولا من الدماء في القطر الواحد, وادخل الآلاف في السجون, وشرد وهدد وتوعد. و سود وحده مئات الآلاف من صفحات الصحف, واحتل كل وسائل الإعلام, وسطح مناهج التعليم, وزور التاريخ, وأقحم الموسيقى والغناء في موشحات تهليل وتطبيل وتزمير ... كما أدخل الأنظمة في صراعات فيما بينها, وصنفها: رجعية عميلة متآمرة. يمينية عفنة وأخرى اقل عفونة. تقدمية علمانية يسارية. يسار واقعي ويسار طفولي. وحدوية وانفصالية..
صراع شعارات دام عقودا, وأضاع من عمر الشعوب عقودا, ترتب عليه ونتج عنه تقهقر في المجال الاجتماعي, والاقتصادي, والثقافي, والفكري, والتربوي. تراجع وتخلف امتد عقودا, وسيمتد أخرى. وكان من الأسباب الرئيسية في الهزائم العسكرية أمام إسرائيل واحتلال أراض لم تكن إلى حينها محتلة.
أنظمة رفعت كل الشعارات في كل الاتجاهات, ولكنها لم ترفع يوما شعارا واحدا ــ مع علمها بان الشعار العربي ككاذب الشعر العربي خيال في خيال ــ يتعلق بالتنمية والتطور ورفع مستوى معيشة المواطنين. كما لم يشر أي منها لبناء دولة القانون والمؤسسات وحقوق الإنسان, والتوجه نحو بناء الديمقراطية واحترام الحريات العامة والفردية, أو ما يشير للمواطن وكرامته وحقوقه في المواطنية في الدولة القطرية أو دولة الوحدة المزعومة. فهذه شعارات مخيفة حتى ولو كانت للتعليق على الجدران واللافتات, وعلى أعمدة الكهرباء, والأزقة, والساحات. ومجرد التلفظ بها قد يفتح العيون على آفاق توجَب إغلاقها إلى الأبد.
سوف لا نستطرد في ذكر الشعارات المطروحة منذ الاستقلال والى يومنا هذا, والتي لم ينظم بعضها أو أي منها في برامج سياسية وأهداف إستراتيجية جادة قابلة للتطبيق أو للعمل من أجلها. فقد فقدت مع الزمن مصداقيتها كأوراق رابحة في يد طارحيها وتجارها.
وإنما يمكن القول بأنه مع اعتقاد الأنظمة المذكورة إنها اكتسبت وللأبد مشروعية بالقدم والأقدمية وبسقوط حقوق الطعن فيها بالتقادم, وتم فرض النفس على الشعوب, فان فن صياغة الشعارات والتعبئة لها وحولها لم يعد ضرورة قائمة. فتحول تلقائيا, على سبيل المثال, شعار الوحدة العربية إلى شعار الحفاظ على الوحدة الوطنية لكل قطر. أي أن يبقى كل قطر محافظا على وحدته ولو لحين. وتحول شعار تحرير فلسطين كل فلسطين إلى القبول, والتهافت على القبول, بالأرض مقابل السلام, قبل طرح الورقة التي قد تكون الأخيرة في جعبة التنازلات, السلام مقابل السلام, والاعتراف المتبادل, بار ض أو بدونها.
على تلك المشروعية, المفترض إنها أصبحت مكتسبة ولا رجعة عنها بقوة الأمر الواقع, بدأ يُؤسس لمشروعية مستقبلية لأبناء الزعماء ــ وابن الزعيم زعيم ــ قبل مغادرتهم الآمنة لهذا العالم إلى العالم الآخر, وذلك لضمان مواصلة المسيرة, ولتكون التركة بأياد أمينة.
وعليه فقد فبدأ جيل جديد من الشعارات للظهور بفجاجة ودون فن هذه المرة, يدعو للتوريث الضرورة, لزعماء الضرورة القادمين, المضمونة أصولهم وفروعهم. فمن تعرف خير ممن تجهل. والمبارك خير ممن لا بركة فيه أو حوله, أو بركته في أحسن الأحوال غير مجربة. وان يُترك في الأمة سيف للإسلام, بعد رحيل زعيم العروبة والإسلام, خير لها من تبقى بلا سيف معروف ومجرب, وبلا رماح... لم يستهجن احد ذلك من امتنا, وان استهجنه فبقلبه وهو أقوى الإيمان وقمته.
كل هذا كان جرى ويجري تحت سمع وبصرــ وإن لم نقل بتواطؤ كامل حتى نتجنب تهمة نظرية المؤامرة ــ دعاة القيم من الساسة الغربيين, قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة. ودولة القانون والمؤسسات. المستنكرين باسم القيم نفسها ــ فقط حينما تزكم رائحة شواء الأجساد البشرية كل الأنوف ــ وفقط إن اقتضت مصالحهم الاستنكار, والساحبين استنكاراتهم فقط عند إشباع تلك المصالح. يفرضون حصارا حين يشاءون ويرفعونه حين يشاءون." يشيطنون" نظاما إلى حين, ويعودن "لاستيعابه" وإدخاله من الباب العريض في النظام الدولي بعد حين . إنها سياسة التجارة بالقيم هناك, المقابلة لاحتراف لعبة الشعارات هنا.
تحت شعارات الأمس الكبيرة سحقت شعوب المنطقة العربية التي فقدت كل مقومات الشعوب, وفقدت اللحمة الوطنية الصحيحة, واستفحلت النزعات الدينية, والطائفية والعرقية. العراق مثلا. وفي ضل شعارات اليوم, المتواضعة في الطرح والخطيرة جدا في النتائج, سيسحق ويقمع من لم يطله السحق أو القمع بعد.
سلَمت تلك الشعوب باللعبة وعرفت أصولها, معترفة بأنها لم تعد هي صاحبة السيادة, ولم تكنها أصلا, وتركتها لحكامها, لترضى بدور الرعية التابعة تبعية مطلقة لمن أصبح يعتبرها مكونة من رعاع مجرد رعاع يؤمرون فينفذون. ويساقون لصناديق الاقتراع لتجديد البيعات بالولاء المطلق.
وقبلت بان القدسية لم تعد للأوطان, ولا الولاء لها, ولا التضحيات من أجلها, وإنما من اجل سادة تلك الأوطان ومالكيها والمتصرفين بها حاضرا, وراهنيها للمجهول مستقبلا بإرادتهم المنفردة.
بعض التشخيص السريع والموجز المقدم أعلاه لا يعني منا التيئيس. ولا تعني القسوة في طرح بعض الوقائع والتذكير بها تطاولا على شعبونا. فالشعوب قد تستكين لوقت أو لبعض الوقت ولكنها لا تموت. وإلا لبقي تاريخ البشرية دون تغيير. وبقيت الحقوق المغتصبة مغتصبة. وبقي الطغاة والمستبدون حيث كانوا. وبقيت الشعوب رعايا.
د. هايل نصر
التعليقات (0)