لكونها متاحة للجميع,نضطر للاستعانة مجددا بالويكيبيديا لنعرف حرية الرأي بانها"الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية"..وبالتأكيد نحن مع ذلك وبالثبات الذي يبرره انتماؤنا الانساني الاعم والاشمل.. ولكننا كذلك نتفق مع ميشال فوكو برفضه الحرية كمقولة مجردة،وفي جداله بانها ليست سوى صورة معبرة عن علاقة بين الحاكم والمحكوم..اي انها بحاجة الى تقنين قد لا يتوافق بالضرورة مع الاطلاق الذي يراه بعضهم كمرادف حتمي لتحقيق الحرية,ورغبة في السيطرة على التفلتات التي قد تصاحب فورات الحرية غير المحسوبة دعت معظم المجتمعات البشرية الى وضع محددات صارمة لحرية التعبير في قوانينها ودساتيرها.
وهذا ما يجعلنا نطمئن الا اننا لا نقوم بالحجر على حرية التعبير,من خلال رفضنا وادانتنا لاستخدام هذا الحق في الاساءة الى متبنيات الآخر في منتهياتها العليا, وتقديم الافكار من خلال مثل هذا النص الهزيل المغرق في النيل من مشاعر المسلمين الذي يمثله الشريط الامريكي المسيء للرسول الكريم(ص) والذي لا يمكن عده الا كحفلة طويلة من الضحالة والاسفاف والفحش الرخيص في القول والصورة والاداء المقزز المقذع المريع ..
لا جدال في حق الفرد الأولي في أن يعبر عن رأيه,وان لا سقف هناك للمواضيع التي له ان يناقشها, وحقه في ان يستخدم الدراما والسينما او أي من الوسائل الاخرى في الترويج لما يؤمن به, ولا جديد في ان الاديان هي الاكثر عرضة للاختلاف لكثرة وتعدد الروايات والمثابات التي يستند لها الفكر الديني في اثبات تحصله على الحقيقة المطلقة حد التناقض, ولكن تبقى هناك مساحة متفلتة عن التمييز تتداخل فيها الحدود بين حرية الرأي والقذف والتشهير تحتم على من يتصدى لهذه الامور ان يتحلى ببعض الضبط الذاتي -ان لم يكن الحياء-في تناوله لتلك القضايا الشائكة..
قد وقع الضرر بالفعل,ولم يفشل المستثمر العقاري سام باسيل في تجارته,بل قد تكون هذه المرة هي الاكثر مردودا خلال مضاربته الطويلة بتحويله هذا الشريط الباهت الضحل المقرف الى آزمة وجثث وشوارع محترقة وكم هائل من الاحقاد قد تعجز مئات الاشرطة"الحقيقية" عن تبديدها في ظل هذه السلاسة التي تتوفر لهذه الجرائم الممعنة في الولوغ في المقدسات,ولا نستطيع ان ننكر ان مشاهدة هذا الشريط ستؤدي حتما باي كان الى نفس المشاعر التي تعتمل في صدور الناس التي تملأ الشوارع..ونثق ان هذا العمل وصناعته الفجة الرديئة قد نجح في ايصال رسالته بالنفخ في رماد الكراهية القاتل, ونجح في جر الشارع المختطف بشعارات التقاطع مع الآخر الى المنطقة التي يراد بها وضع المسلم الغاضب امام المواطن القبطي المتهم سلفا بالتواطؤ مع الغرب(الكافر)ضد حلم الانبياء بالدولة الاسلامية النقية..
فقد يصعب على الجميع الآن ان يقف في صف رفض المعطيات التي توفرها مثل هذه الممارسات المدانة اخلاقيا من خلال تسويقها كمؤشر على وجود ما يمكن عده تطرفا دينيا اصيلا ضاربا في جذورالثقافة الغربية,وهو الامر الذي قد يلاقي الكثير من الهوى في نفوس بعض النخب الدينية الاسلامية لأسباب عديدةلا تخفى، أهمها ما يرتبط بادامة الخصومة الأيديولوجية التقليدية وحسابات المنافسة الفكرية مع الآخر..
وقد تكون الذخيرة التي قدمها هذا الشريط المسيء مبررا كافيا لربط هذه الاحداث المؤسفة مع التأثير المتعاظم للفكر المعادي للاسلام في العالم الغربي, وتقديم صك براءة للحركات الجهادية الاسلامية من خلال التنظير لارهاب مسيحي غربي اصيل, واحالته الى عدائية مسبقة متجذرة في عمق الثقافة الغربية حد استعادة ادبيات وخطاب الحروب الصليبية في تفسير هذا التعشق ما بين الغرب والعداء للاسلام, وحينها لن يكون لكل هذا الرفض القبطي عالي الصوت لهذا الشريط المدان أي قيمة امام الاستعادة المرضية للتراث المتقادم من الكراهية التي بنيت عليها العلاقة الملتبسة ما بين ابناء المكونات المتعايشة في مجتمعاتنا..
لا نستبعد-ان لم نؤكد-ان التحقيق الذي سيلي الاحداث التي يضطرم بها الشارع المسلم المستفز ستسفر عن صورة معتمة لرجل دين ما في احدى الزوايا الضبابية تناظر الظل الداكن للقس تيري جونز وموريس صادق,وان هناك من اقنع الشباب الغاضب بان الذب عن اسم الرسول الاعظم(ص) وسمعته لن تكون الا بالضغط على الزناد لتطهير الارض والانفس مما لا يزدره هذا الشيخ,كما فعل ذلك الكاهن المسخ الذي لا يختلف فعله عن-ان لم يتجاوز- الحناجر الزاعقة على منابر الاقصاء والكراهية التي لطالما دعت الاله لكي يبطش بالآخر المختلف عقائديا..
انها ازمة بالفعل..وهي تشتد مع هيمنة الاكليروس الديني المعتمد على الانغلاق التام على المتبنيات العقائدية على المشهد المأزوم بثقافة التخطئة الكاملة للآخر والترويج لسمو ورفعة ونقاء الذات,مما يبشر بمزيد من التراجع المنهك للجهد السياسي والثقافي للمجتمع,لصالح التنظيمات الراديكالية التي تتطابق ممارساتها مع ما تقتات عليه في عالمها الآني المعاش اكثر مما تتنادى به من خلفيات وسلفيات فكرية..
بلا كثير أمل في الاستجابة ..ندعو الى تجريد هذه الاعمال المدانة من الغطاء الديني او الثقافي..وقد يكون الاكثر صوابا هو العمل على تنقية مجتمعاتنا من مثل هذه اللوثات التي قد توفر ارتداداتها بعض الفجوات التي من الممكن ان يتسلل من خلالها المزيد من الالتباسات التي تشكل علامة فارقة لايامنا التي نعيش ونعتاش بها ولها وعليها..
التعليقات (0)