في كل كتاباتي عن مصر التي كان جلُّها يدور حول الاطاحة بالطاغية البائد ظل مقالان فقط، منذ سنوات، يحملان حُلمين لم يتحققا، وبدا أنهما شرطان للتهنئة الكبرى!
الأول حمل عنوانَ ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك)، والثاني( أحلم بحبل المشنقة حول عنقك!).
كان من المفترض أن يعلن اللواء عمر سليمان والرجل الذي خلفه(!) تنحي مبارك عن الحُكم، ثم تنعقد إثر الإعلان وقائعُ المُحاكمة الكبرى والتي لو تحقق العدلُ فيها لألتفَّ حبلٌ غليظ حول عُنق مبارك، واستراحت بعده أرواحُ كل الشهداء الذين قضوا في سنوات حُكمه الأغبر، والقاتم، والسادي،واللصوصي، والعفن، ولعل الذاكرةَ لا تزال تحتفظ بصور آخر الشهداء الذين لم يكن الربيع قد غادر أعمارَهم حتى جاءت رصاصات الغدر في ميدان التحرير.
عواجيز الفرح يحاولون مع انتصار الثورة سرقتـَها، والزعم بأن دماء الشهداء تساوت مع ما تحقق من مطالب شبابية، ولهذا تجد نفس الوجوه القديمة بأقنعة جديدة في الصحف والمجلات التي كانت لسانَ القصر، وكرباج السلطة، وشاهد الزور.
إن أي يوم يمر في مصر ما بعد الثورة، ولا يزال مبارك خارج قفص الاتهام هو جريمة وقحة في حق ثورة 25 يناير، وهو مهانة لأرواح الشهداء، وأن أي محاكمة للعصابة وغض الطرف عن زعيمها هي خيانة للثورة ولمصر .
مصر المستقبل كما أتمناها ليست تلك التي يتنازع مِلكيتها سلفيون وإخوان ومباركيون جُدد ومنافقون زعموا أنهم تابوا في ميدان التحرير.
عندما اختفى الشيطان ما بين 25 يناير و 11 فبراير من صدور أبناء الشعب كان في الواقع يُعِد نفسَه لمرحلة الدخول في التفاصيل، ثم عاد بثوب جديد، طائفي وعنصري ومذهبي وعقائدي، فانفصل الهلال عن الصليب بعد التحام طاهر ونقي، وبدت مطالبُ المسلمين والأقباط دينية فتضاءل الوطن، وصغرت قامته، وضعفت مقاومته، وأضحى مستقبل مصر، صاحبة أنقى وأعظم ثورات العصر، محصوراً في معرفة مصير امرأتين، وفي معرفة النسبة المئوية لطائفتين في المناصب الكبرى كأن عاصمة أم الدنيا هي بيروت!
لصوصُ الثورة يرتدون كل الأثواب في وقت واحد، ورأس الأفعى تمكنت وهي في شرم الشيخ من انتاج ذيول صغيرة متناثرة، وقرار تصفية البلطجية والمجرمين والدمويين يقف حجر عثرة لكي تنتصب مصر، وتقف من جديد.
لا مستقبل بدون أمان، وعندما تستطيع طفلة في الرابعة عشرة من عمرها أن تسير بدون خوف من منزلها وتخترق الشوارع ليلا متوجهة إلى بيت أو صيديلية أو مستشفى أو زيارة مُلحّة لأقارب، فهنا تستطيع أن تقول بأن مصر بخير.
لا مستقبل بدون قضاء عادل وسريع يُنهي في أهم مشروعات العصر البتَّ في ملايين القضايا المُعلقة، واصدار الأحكام بدون تلكؤ، أو تأجيل، أو تسويف، أو الانصياع لتلاعبات المحامين، فالعدالة المؤجلة ظلم حاضر، والمحاكم البطيئة كأجهزة التعذيب تماما، والقضية النائمة جريمة بكل المعايير.
لا مستقبل بدون الغاء النظام المتخلف والجاهل والعفن في الانتخابات البرلمانية القائم على الدوائر، فهذا النظام يأتي بمهرجين ليمثلوا الأمة، وبهلوان تحت قبة البرلمان، وأنصاف أميين ليصنعوا تشريعات تعود بالوطن إلى الوراء.
كيف يمكن لشخص جاهل وذي سطوة قبائلية أو عشائرية انتخبه أعضاء دائرة في قرية مجهولة أن يناقش قضايا الزراعة والصناعة والتلوث والكتاب والتعليم والبحث العلمي والحريات والسياسة الخارجية وبراءات الاختراع وحقوق الإنسان وحروب المياه والقضايا الالكترونية و ...
كارثة مصر ستكون، لا قدر الله، في نظام الانتخابات البرلمانية بصورته تلك، ولافتات يرفعها معاقون ذهنيا في الأزقة والحواري والشوارع والميادين، فينجح من لا يستحق في دائرة، وينزوي مصري مثقف وموسوعي ومخلص لأنه ليس على قائمة دائرة انتخابية ولا ينتمي لفئة أو عمال أو فلاحين.
البرلمان الوحيد الذي أراه، في قناعاتي الشخصية، هو ترشيح كل نقابة أو كلية أو معهد عال أو مؤسسة تربوية أو تعليمية أو علمية أو ثقافية أو اجتماعية لواحد أو اثنين مشهود لهما بالكفاءة والعلم والنزاهة والنشاط، فإذا اجتمع لديك أربعة أو خمسة آلاف، تقوم لجنة محايدة باختيار ألفين، ثم تتولى لجنة ثانية اختيار ألف من الباقي، ثم لجنة ثالثة تختار العدد النهائي.
لن تكون هناك كوتة نسائية أو قبطية أو بهائية أو فئوية أو مجموعة من رغبات رئيس الدولة، فكل هذه الاختيارات تصبح لاحقا زيتا يُصـَبّ فوق النار، وأنا على يقين بأن برلمانا بالطريقة التي أصفها، وأتمناها، سيقفز، تشريعيا، بمصر عشرات السنين إلى الأمام، ولن يعرف عضوٌ جالس بين اثنين مذهبَ، ودينَ، وعقيدة، وأيديلوجية، وحزب، وانتماء أي منهما، وهنا تصبح مصر لنا وفوقنا و حُبنا، ويمكنك أن تنشد بكل ثقة ويقين: بلادي .. بلادي .. لكِ حبي وفؤادي.
لا مستقبل قبل تغيير كل القوانين المصرية الموروثة عن عهود سابقة، وازالة المعوقات لتصبح حياةُ الناس سهلةً ومبسطة، وينتهي عصر التوقيعات التي صنعها موظفون موميائيون فجعلوا منها جحيما للأرملة والموظف ومُتلقي المعاش الشهري، فتخرج من مكتب إلى آخر، ويلقي بك موظف إلى زميل له، ويطلب منك الأخير العودة مرة أخرى ولو كلفك هذا مشقة السفر من البحر إلى النهر.
لا مستقبل بدون بريد سريع، وأمين، تتأكد منه أن الرسالة التي أُرسلت إليك صباح أمس ستصلك حتما قبل ظهر اليوم التالي، وهذا يحتاج لادارة ذكية، وميزانية ضخمة لجيش من السيارات الصغيرة والموتوسيكلات، وحساب عسير من الادارة لأي مركز بريد لا يتحول إلى خلية نحل.
لا مستقبل بدون نظام صحي غير مخترَق من البيروقراطية، وأن تكون هناك قوانين مُلزِمة تجعل سرقة الأعضاء في المستشفيات جريمة كالقتل العمد، وأن يكون توفر الدواء الصالح مهمة الدولة.
ينبغي تسريح كل العاملين في الجمارك المصرية برمتها، وتعيين شباب صغير السن بأجور عالية بعد كورسات لنصف عام لتعلم مباديء الضرائب والغرامات والتمييز بين المسموحات والممنوعات، والابتسامة وجعل التثمين عملية سلسة وسريعة.
لا مستقبل بدون اعتبار مهربي المخدرات وتجارها أعداء للبشرية ولمصر، وأن التهريب هو اعلان حرب ضد الوطن، وتجفيف المنابع، وعلاج المدمنين، وازالة كل غرزة أو مقهى يتجمع فيها متعاطو ومهربو السموم البيضاء وأخواتها.
تعديل الدستور بموافقة الثلثين لا يعني ثباتا سماويا له، فتغييره، إن عاجلا أو آجلا، وفقا لمصالح الشعب ومستقبل يجب أن يكون هدفا لا نحيد عنه.
تلك هي بعض خواطري أهديها إلى شباب ثورة 25 يناير على الفيسبوك، فإن تبنوّها وجعلوا أكثرها أو بعضها ورقة عمل ومطالب في اعتصام مليوني في ميدان التحرير ، فربما تساهم في اكتمال نجاح الثورة العظيمة.
ترى أي جماعة على الفيسبوك ستتبناها؟
وسلام الله على مصر.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 27 مارس 2011
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)