كثير من الامور قد تدفعنا الى الاتفاق في الرأي مع السيد باسكال بونيفاس مدير المعهد الفرنسي للدراسات الدولية والاستراتيجية في اتهامه لمجلة شارلز ابدو "بأنها تلجأ لاستفزاز المسلمين بالسخرية من رسولهم، كلما تدنت معدلات توزيعها"..وبالفعل,فان الارقام تتحدث عن بيع 75 ألف نسخة من العدد الذي حمل الرسوم المسيئة للرسول الكريم(ص) وهذا ما لم يحصل منذ مدة طويلة, وان الرغبة في الاستفادة "من وضع استثنائى فى العالم الإسلامى"قد يكون الهدف من النشر خصوصا واننا لا نستطيع تجاوز التوقيت الانتهازي لهذه السخرية عندما نقارب المسألة من خلال مبدأ حرية التعبير..
فالرغبة في زيادة معدلات التوزيع ,واستثمار الظرف الراهن الذي فرضته تداعيات عرض الشريط الشائن في تحقيق المزيد من الانتشار قد تكون من المعطيات التي كانت وراء الاقدام على نشر الرسوم في هذا الوقت بالذات,ولكن السؤال هنا عن مدى صحة اضافة عام رد الفعل الى قائمة الاسباب التي قد تكون وراء نشر مجلة "تيتانيك"الألمانية ،لرسوم ساخرة جديدة تظهر فارسا عربيا ملتحيا على رأسه عمامة وبيده سيف، وهو يحتضن قرينة الرئيس الألمانى السابق,وهل نستطيع ان نلوم رئيس تحرير المجلة ليو فيشر في وصفه تلك الرسوم بانها تمثل "ردا حقيقيا على الاحتجاجات غير المتصورة فى العالم الإسلامى"وهو يرى سفارة بلاده تتعرض للهجوم والاقتحام من قبل عشرات المحتجين الغاضبين الذين داسوا على علم المانيا ورموزها السيادية قبل ان يضرموا النار في المبنى, بسبب شريط مهلهل انتج وصور وبث على بعد افق ومسافات ومحيط شاسع من الاراضي الالمانية..
فعلى الرغم من ان الدولة الالمانية اعلنت عن رفضها الواضح للفيلم المسيء وعلى اعلى المستويات,ابتداءً من وزير خارجيتها جيدو فسترفيلله الذي عد أن الفيلم المسىء للرسول (صلى الله عليه واله وسلم) "سخيف ومثير للاشمئزاز" الى وزير التنمية والتعاون الدولي الألماني ديرك نيبل الذي قال "مثل هذا الفيلم لا ينبغي عرضه"وان " رد فعل الحكومة الألمانية تجاه الفيلم المسيء أنها في حالة من الاستياء منه، وتحاول بشتى الطرق القانونية المتاحة بمنع عرض الفيلم المسيء للإسلام في ألمانيا"وليس انتهاءً بميشيل بوك السفير الألماني بالقاهرة ,الذي اعلن قيام الحكومة الألمانية بمنع القس الأمريكي تيري جون من دخول اراضيها ,نقول, على الرغم من ذلك , فان سفارتهم في الخرطوم انتهكت وحرقت في محاولة لاستنساخ الهجوم الغوغائي المدبر والمبرمج لـ"شبيحة" التيار السلفي الجهادي في بنغازي ضد السفارة الامريكية.
لا اوهام لدينا في ان اليمين المتطرف الذي يسعى الآن بتماوت رخيص الى عرض الفيلم كاملا انما هو يتقنع بالدعوة الى حرية التعبير لتمرير مخططاته الخاصة ,الا اننا يجب ان نقر بان هناك العديد من المواقف التي صدرت من التيارات التي تولت طلاق فتيل الحركات الاحتجاجية قد مهدت الطريق الى هذه الغاية,وان تصعيد الهياج الى حد الاساءة الى الممثليات السياسية الاجنبية, والتغاضي عن تقاطع مثل هذه التفلتات مع كافة القيم والاعراف والمواثيق الدولية وتعارضها التام مع ما تقتضيه اصول الضيافة والاحترام الكامل للبعثات الدبلوماسية الاجنبية وحصانتها والمسؤولية الاخلاقية والقانونية تجاه امنها وسلامتها قد يكون ارضية اكثر من ملائمة لاستدراج ردود افعال اكثر قسوة ومهانة لكرامة ومشاعر المسلمين.
اننا لا نستطيع ان نطالب الآخر بان يتفهم غضبنا من الأساءة الى الرسول الكريم ونحن نغض النظر عن تعاليمه والرمزية العالية التي يمثلها في احترام العهود وتأمين الرسل والمعاهدين والوفود, ويلحق بهم اللاجئون والمبتعثون والمقيمون ودورهم ومعابدهم ومدارسهم وأعراضهم وأموالهم..
كما اننا لن نستطيع ان نطلب من الآخرين ان يتعاطفوا مع قضايانا ونحن ما زلنا نضع الجوائز-الململلة مما استل من افواه الفقراء- على الرؤوس وننظر لايديولوجيا تقوض الحدود والجغرافيا وكل ما هو قائم نحو فرز ملتبس للعالم الى فسطاطين في خضم نزاع افنائي مستدام لا نملك فيه سلاحا ولا قوة الا بعض الكتب العتيقة وصراخ الدعاة على منابر الكراهية والاقصاء.
لن نجرؤ على ان ننتظر من الآخرين احتراما لرموزنا ونحن نسيء يوميا الى انبياء ورموز الديانات الاخرى ممن لا خوف عليهم ولا يحزنون في كتابنا الكريم وهم اخوة لنبينا"لا نفرق بين احدٍ منهم"..
ان الجميع يعلم-ومن ضمنهم الغرب-ان الحرائق التي استعرت في الشوارع المسلمة لم تكن وليدة فورة غضب لحظوي بقدر ما كانت نتيجة شحن طائفي متقادم كان ينتظر اقل من هذا الشريط المدان لينطلق هرجا وزعيقا ورايات سود,وان الخطل الاكبر هو في تصور بعض القائمين على دعم وتمويل وتسويق الانفلات الامني الكبير الذي يتشظى على طول وعرض المشهد السياسي والاجتماعي العربي والاسلامي ان التاريخ والراهن المعاش من ايامنا هو محصلة خطية باتجاه واحد نحو متبنيات واحلام-بل قد يكون اوهام- حركات وتيارات الاسلام السياسي,وان العالم سيتواطأ مع السلفية في اتخاذه دور المتلقي للصفعات والكراهية والزعيق لحين يأذن الله لجنود الحق بأن يرثوا الارض وما عليها من غنائم وسبايا شقر حسان.
ان الحكمة تقول انه يجب ان نتوقع من الغرب المتضجر من تكرار استهداف بعثاته الدبلوماسية ان تبدر منه بعض ردود الافعال التي تتجاوز التصريحات وبيانات الاسف والاستنكار, وانه قد يكون من المفيد ان نستمع جيدا الى رأي السفير الالماني الذي دعا الى"تطبيق ثقافة الحوار بين الناس، ونشر الوعي لديهم بتاريخ الإسلام، وتصحيح صورة الرسول محمد"لكي نستطيع ان نحافظ على صورة مجتمعاتنا المسلمة مما قد يكون معه ممكنا ان نجد في العالم من يقف معنا تجاه التجاوزات التي تنتهك سمعة وكرامة الاسلام والمسلمين..
التعليقات (0)