الشاعر فقط يستطيع أن يُحوِّل السُّكرَ إلى طاقة خلاَّقةٍ مُبدعة؛ و ليس الشاعر ذلك الذي يتعامل مع اللغة فقط ويأتي بقصائد لكنه أيضا ذلك الذي يحيا بشكل شعري. يلوذ الشاعر في أغلب الأوقات بالسكر ولكنه ليس سكيرا وهو ليس ذلك الكحولي النهم ؛ إنه يهرع إلى الخمر ليس ليموت بها أو يموت فيها ولكن ليحيا على غير شاكلة سابقة . السُّكْر طاقة روحية متوهجة تبدأ عملها في لحظة هي بين عالم علوي وعالم سفلي ؛ تبدأ عملها بهدوء لتتحوَّل شيئا فشيئا إلى دوَّامة تتسلَّق موجات الهواء لتغير مزاج المناخ الراكد والخامل . تحوِّل حالة السُّكر الألوان مشبعة بأكثر من دلالة ويتحوَّل الضوء مسافات من حزن شفيف وصمت جارح وبهاء مسكر ؛ فتتحرك ملكة الخيال تتروَّى بطاقات متجددة ذات توهج فريد لتنعتق هذه الملكة وتجعل لها أجنحة تحلق بعيدا ؛أبعد من التخوم لكأنها شلالات من معادن نادرة تتمُّ إذابتها بنار التجلِّي. وإذ يلج الشاعر حالة الليلى يتحوَّل إلى كائن شفاف ؛ إلى جوهرة أكثر صفاء.
لا يشرب الشاعر لينسى وهو لايشرب ليهرب.
هو الوحيد الذي يمارس قداس الشُّرب بشكل طقوسي بارع. فالخمر عنده لحظة بوحٍ.
السكران هو الذي ينطق بكل مكتومقال الحلاج
يهرِّب الروح والجسد من حصارات الزمن والمكان.
لامكان ولازمان للسكران وقد اقتنص لحظة العبور من الصمت إلى الغناء ؛ من الحزن إلى الفرح من الفقدان إلى اللقيا من الموت إلى الحياة من الشلل إلى الشطح.
كيف لايغني ولايشطح ولايفرح من أطلَّ على السرّْ وخاض فيه ؛ سرُّ الحياة الحرية وليس بإمكان أحد أن يحلق حرا خفيفا متخففا من كل أثقال الأرض إلا بمصافحة الآخر المدسوس ؛ المغيب فيه ؛ المختنق بأوهام العيش ؛ ثمة مسافة كبرى بين الحياة والعيش.
العيش اكتفاء بالقليل البسيط ؛ المحدود؛ المتواضع؛ بالوهم الكثير والضجيج الفارغ.
الحياة امتلاء وذهاب إلى أقصى الحدود وأبعد التخوم ؛ تسريح لطاقات الجسد الخفية وتفعيل لكائنات الروح المهدودة بفعل الزمن؛ تسريح للذاكرة وترويح عن العاطفة وتهوئة للحلم المغدور بأفجار كاذبة.
اشرب فإنَّ الليل يعقبه فجر ستظمأ في دياجيههتف البياتي
السكر تجربة في الحياة لن يغنم منها غير من أدركه نورها.
كأن كاساتنا والليل معتكر سرج توقد في محراب شماس. تغنَّىأبو نواس
ليس كلُّ من شربها سكران وليس كلُّ من سكر بها غنم من لذّتها وليس كلُّ من عرف لذّتها؛ أشرقت فيه أنوار التجلِّي؛ الخمرة سرٌّ لن يدركه غير من أدركه حبُّ الحياة حرًّا طليقا.السكر تجربة حياة في سبيل اقتناص لحظة صفاء ؛وقبسة توهُّج في عتمة ما يُتحيَّل إنه ضوء ؛ ليس للسكر وقت ؛إنها خارج الوقت طالما إنها تخلق إيقاعها وحدها على عكس ما درج عليه الناس من تفتيت الزمن إلى ثوان ودقائق وساعات؛وإنما وقتها كيف تسري في جسم شاربها؛حتى أنه يمكن تعديل الزمن حسب تشرُّب الخلايا لما تعتق من بنت الكروم.
كأن مشيتها في جسم شاربها تمشِّي الصُّبح في أحشاء ظلماءِهكذا صاح ديك الجنِّّ
والخمرة ؛خمرة كيفما كان لونها أو شكلها أو رائحتها ؛ هي الفاتحة ؛البادهة؛ المُشرقة؛ البهية؛ المنيرة ؛ المُشعَّة ؛ المتوهِّجة؛ المكرَّمة؛ لا فرق تعددت أسماؤها ولكنها واحدة.
الخمر وإن تقادم عهدها خمر ولكن تتبدل الأكواب.هكذا أجهش نزار قباني
وليس كل من شربها يعرفها ويعرف اسمها ولكن من عرف اسمها عرف كيف يشربها وانفتح له بابها فسار في دروبها ولن يخشى من التعثر ولو صادفته في طريقها أعاصير البعث وأهوال القيامة.
يا لسرها؛ لا تبوح بطعمها لغير من ذوَّبه عشقها؛ هذا الذي مهما شرب ويشرب لن يسكر وكلما زاد منها اتضحت الرؤيا وبان له ما لا يُرى وتبصَّر موضعه في الوقت؛ لن يفتقد وعيه الحدسي.
أنت مثل الإسفنج تشرب كل حانات العالم ولا تسكروبهذا بكىمظفر النواب
مهما شرب لن يسكر ولن يفتقد إدراكه بما حوله لأنه لا يأتي الخمرة للسكر ولن يأتيها هربا أو للانشغال بغيرها؛فهو يأتيها شفا بها وبما قد تمنحه من جليل الرؤيا ولذلك هو
ي تهيَّأ لها مثل تهيُّؤه للصلاةصاح أبو هريرة صاحب محمود المسعدي
لا؛ هو لا يجلس إليها بشكل إداري منضبطا لما تتطلبه اللياقة الاجتماعية في شكل احتفالية ساذجة؛ نعم يحتفل الشاعر بكاسات الليلى ولكنه ليس على طرائق الولائم حيث يكثر اللحم والشحم واللغط والإسراف على حساب اقتناص لحظات التجلِّي الخاطفة.
فهو إذ يأتي الكأس إنما ليقتنص ما لم يره بعينيه وما لم يلمسه بجوارحه ومالم يتذوقه بلسانه وما لم يدركه بعقله.
هاهو ذا يترنَّح يتمايل ولا يسقط
الليل دولته والنجوم جنده
والقمر تاجه
متكئا على زوجته
تعود به إلى الدار
ولا دار له
غير بيت القصيدة
طالما إن القصيدة زوجته
وهي وحدها التي تُسكره
وتجعل من روحه عربدة في زمن الموت.
التعليقات (0)