فجر اكتشاف ويلهاوزن ثورة نقدية غير مسبوقة نتج عنها سيل من النظريات التي تطعن في المصداقية الحرفية للنص التوراتي، لينتهي أغلب الباحثين اليوم إلى الاعتقاد بأن الديانة اليهودية ليست سوى تحوير شكلي للوثنية الكنعانية القديمة رغم ارتدائها ثوباً توحيدياً مزيفاً، بل وذهب بعضهم للقول بوجود جذر ميثولوجي كنعاني أو بابلي لكل قصة من القصص التوراتي. هنا برزت على السطح نظرية ألت حول الاستيطان التدريجي للعبرانيين في أورشاليم والتي تكذب قصة استيلاء داوود عليها بالقوة، حيث يعتمد ألت في دعواه على عدم وجود أي دليل يشير لحدوث ثورة ثقافية في المدينة إبان بداية العصر الحديدي، وأن العقائد والطقوس بل والعادات والأنظمة الكنعانية انتقلت –تقريباً- بحذافيرها إلى المجتمع العبراني لتجد لنفسها مكاناً وثيراً بين دفتي التوراة، مما ينفي فكرة حدوث احتلال عسكري تصحبه هيمنة ثقافية عبرانية على المجتمع اليبوسي، ويؤكد على أن النزوح العبراني إلى أورشاليم كان سلمياً وتدريجياً، وأن ثمة تعايش وتلاقح واندماج ثقافي قوي حصل بين المجتمعين العبراني واليبوسي، وأدى لنشوء هذه الديانة الهجينة التي نسميها اليوم باليهودية.
ولكن ربما يفيد البحث العلمي مما طرحته سابقاً حول استحالة دراسة التاريخ كمادة مستقلة منفصلة تماماً عن تجلياتها الحسية وتجسداتها العملية الحاضرة والمتمثلة في السلالة الحية لشخوصها ورموزها، خصوصاً إذا احتفظت هذه السلالة بنفس القالب الثقافي التاريخي الذي انحدرت منه وانبثقت عنه. وإذا كان ثمة منطقة من التاريخ تنطبق عليها نظريتنا حرفياً فهي تاريخ العبرانيين الذين لا تزال سلالتهم الحاضرة تحتفظ بنفس القالب الثقافي الذي لم يتغير أو ينتابه التآكل مع الزمن، حيث لم يحدث أن غادرت هذه السلالة صحراءها بل ظلت تمارس أقصى درجات التشدد والتزمت في التمسك بجميع مفرداتها الثقافية الأولى طيلة تلك الآلاف من السنين وحتى يومنا هذا. ولعل من أبرز ما يؤكد استمرارية الاتصال الثقافي لديهم هو شعورهم الاستثنائي بالكرامة وعزة النفس، والذي يتمظهر بقوة في نفورهم الشديد من المدنية باعتبارها أكثر ما يرمز إلى السخرة والاستعباد وإذلال النفس وفقدانها لقيمتها المعنوية، وهو المظهر الذي ظل يصاحب العبرانيين منذ ظهورهم على وجه الأرض، والذي نجده يتجسد بحذافيره اليوم في رعاة إبل الصحاري الشمالية بجزيرة العرب.
لقد أثبتت هذه الظاهرة فساد نظرية ابن خلدون وتهافتها حول البداوة والحضارة، خصوصاً ذلك الجزء الذي يؤكد فيه بأن "التمدن غاية للبدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها، ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى قياد المدينة، وهكذا شأن القبائل المتبدية كلهم". ولنا أن نسائل ابن خلدون: لماذا لم ينقرض البدو إذاً؟ إذا كانت البداوة هي طور بدائي متخلف من أطوار الإنسانية، وإذا كان البدوي قد خرج لتوه من طور القردة فهو حديث عهد بانتصاب القامة حيث لا زال يعيش في مرحلة متأخرة من أطوار الهوموسابين، وإذا كانت سنة النشوء والترقي تستلزم تلاشي الأطوار المتخلفة تماماً من الوجود لتتحول بأكملها إلى أطوار أرقى فأرقى وهكذا، وإذا كان قانون الطبيعة التطوري ينص على أن أطوار البداوة لا يمكن أن تبقى كما هي إلى الأبد، فهي تسعى بشكل حثيث ودؤوب إلى غاية أسمى وأرقى، وإذا كانت المدنية هي هذه الغاية التي لا مفر منها، فلماذا لا نزال اليوم نرى صحاري النفود والدهناء والسماوة وبادية الشام تعج برعاة الإبل الذين مازالوا يحتفظون بنفس تفاصيل بداوتهم منذ أكثر من أربعة أو حتى خمسة آلاف عام، متشبثين بصحرائهم وعاضين عليها بالنواجذ رغم كل المدنيات التي مرت على المنطقة بكل ما كانت تشكله لهم من إغراءات مادية للهجرة والاستقرار المكاني، ابتداءً من المدنية السومرية وانتهاءً بكل ما يمثله ظهور البترول من إغراءات؟!
نحن هنا في هذه المنطقة من العالم بالتحديد؛ لا نستطيع إقناع أنفسنا بنظرية ابن خلدون هذه إلا في حالة واحدة: إذا بلغ بنا شعورنا بالنقص حداً يدفعنا للبحث عن أي وسيلة للتفاخر على الغرب، حتى لو اضطررنا إلى القول: "أيها الغربيون لا تتفاخروا علينا بإلحادكم، فأول من وضع أسس الإلحاد هو شخص منا اسمه ابن خلدون".
خرج علينا قبل أعوام شخص من آل البيت يدعى أحمد الشقيري، فجمع طلاب إحدى المدارس في طابور طويل ليطلب منهم تقبيل رأس عامل النظافة البنغالي. كانت نظريته في ذلك هي أنه عندما تجف آبار النفط سيضطر السعوديون للسفر إلى بنغلاديش كي يعملوا عمال نظافة، إذاً يجب علينا من الآن تلطيف الأجواء مع البنغلاديشيين كي لا يعاملونا بقسوة عندما تدور علينا دائرة الزمن. لا شك إنها نظرية ذكية تنم عن بعد نظر، ولكن يبدو أن هذا الشريف لم يذاكر التاريخ جيداً رغم تبجحه المستمر بـ "إقرأ".
إن عمر النفط في هذه البلاد لم يتجاوز –كثيراً- الستين عاماً، وقبل ستين عاماً كان القحط والجفاف وشظف العيش والفقر وضيق ذات اليد الذي يعاني منه رعاة إبل النفود يفوق بأضعاف مضاعفة هذا الذي يعانيه اليوم البنغلاديشيون والهنود والجاوة والتكارنة واليمنيون والمصارية والفلسطينيون والمغاربة، ولكن لم يذكر التاريخ عن أحد من أبناء هذه الصحراء أنه عمل زبالاً تحت كفالة أحد البنغلاديشيين أو الهنود أو أرسل زوجته لتعمل خادمة في منزل أسرة جاوية، أو ذهب يدلل على ابنته في صنعاء ليزوجها بأكثر من رجل في آن واحد كي يطعم بقية إخوتها من مهورها، أو أرسل زوجته لتعمل راقصة في شارع الهرم أو داعرة تتصيد السواح في أسواق غزة وبيت لحم وعمان وبغداد، أو نادلة في إحدى كباريهات الدار البيضاء أو بيروت بحجة الفقر وضيق ذات اليد، حتى لو دفعت به كرامته وعفته وعزة نفسه إلى الموت جوعاً.
قبل ستين عاماً عندما كانت بنات آل البيت المغربي يأتين من مدينة فاس إلى أسواق الندوة وعكاظ وفي أيديهن أطباق الكسكسي الشهية فيتصيدن لها الذواقة من بين أثرياء الحجاج أو أبناء الفاتحين الجدد؛ كانت راعيات إبل النفود تفضلن الموت جوعاً داخل خيام الشرف والعفة والكرامة على أن تأكل إحداهن من ثدييها.
قبل ستين عاماً عندما كانت البيوتات المكية والمدنية تعج بالخادمات الجيزانيات والعسيريات والصبيان الغمد والقحاطين والحروب والجهنان؛ كان الحاج النجدي يأتي إلى مكة ماشياً على قدميه الحافيتين وهو في أتم الاستعداد أن يعود ماشياً عليهما أيضاً دون أن يقبل على نفسه العمل بالسخرة لدى أحد اللقطاء الأثرياء من مبتوري الأصل عديمي المنبت؛ حتى لو مات في طريقه جوعاً.
إن أغرب أنماط البطالة وأشدها تفرداً في العالم هي البطالة السعودية، ففي الوقت الذي يظل الملايين من أهل هذه البلاد دون عمل بعد التخرج؛ نجد عدد العمال الوافدين يفوق ثلث سكان المملكة. لا يوجد في المملكة –البتة- شيء اسمه "قلة في الوظائف" أو "فقر بسبب البطالة"، هنالك أسباب أخرى للفقر السعودي ليست البطالة من ضمنها، فالبطالة عندنا اختيارية، ليست مفروضة علينا فرضاً، لا يوجد لدينا عاطل عن العمل بسبب عدم توفر الوظيفة، بل ولا يوجد بلد في الدنيا يعاني من فائض مهول في الوظائف المتاحة كبلادنا، ولكن المشكلة –إن جاز تسميتها بالمشكلة- هي أن ثقافة الصحراء تحرم على أبنائها أن يقعوا نملاً كي يأكلوا عسلا.
لا يوجد عدناني أصيل يقبل على نفسه أن يتلقى الأوامر والنواهي من ديوث مصري أو مغربي أو لبناني أو فلسطيني حصل على منصب المدير التنفيذي بفضل مجهودات زوجته فوق أسرة أعضاء مجلس الإدارة، وإذا كانت حملة وزير العمل لسعودة الوظائف الوضيعة ستحظى بنجاح ملموس جداً في الحجاز وعسير والشرقية؛ فإن الفشل الذريع سيكون حليفها في نجد.
وإذا كان هذا هو حال رعاة إبل اليوم فما بالك بحال أجدادهم قبل آلاف السنين، الذين كانوا أشد تزمتاً وتعصباً وتشدداً في تشبثهم بكرامتهم وأنفتهم وعزة نفوسهم. أليس من المضحك ما يقرره الباحثون بأن جميع العبرانيين قد هاجروا إلى أورشاليم زمن سليمان، واختلطوا بسكانها الأصليين (الكنعانيين) وتمازجوا وتعايشوا واندمجوا معهم وتحولوا عن بكرة أبيهم إلى مدنيين خلص بعد ما أغرتهم بهارج المدينة وأغواهم ترفها ونعيمها وسحرتهم ثرواتها؟! ألا يجب على البحث العلمي الآن إعادة ترتيب أوراقه وأفكاره وثوابته بعدما أثبت السعوديون الخلص أن العبراني الأصيل لا يتنازل عن كرامته مقابل أموال الدنيا، وأن ثقافة السخرة (المدنية) هي أبشع أنواع التنازل عن الكرامة والشرف؟
يقولون إن المنتصر هو دائماً من يكتب التاريخ، ولكن في حالة العبرانيين انعكست الآية، فالعبد الكنعاني المهزوم هو الذي كتب عنهم تاريخهم، لأن السيد العبراني المنتصر كان قديماً –وظل حتى عهد قريب- أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولنا أن نتخيل كيف يمكن أن يكتب العبد الخسيس والمهزوم الحاقد تاريخ أسياده الذين أذلوه وظلوا يستعبدونه على مدار حقبات هذا التاريخ، لنا أن نتخيل كيف سيحاول الجبان الحاقد أن يصب جام فجوره في الخصومة تجاه أسياده بتزويره لتاريخهم وتدنيسه لسيرتهم عندما يكون هو وحده القادر على كتابة هذا التاريخ عنهم.
قبل ثلاثة آلاف عام كان أغلب من يجيد القراءة والكتابة في الجزيرة العربية هم كهنة المعابد مما أضفى على الكلمة المكتوبة طابعاً لاهوتياً مقدساً، كانت الكتابة غالباً ما ترتبط بالسحر والشعوذة وتستخدم استخداماً طلسمياً خاصاً لأغراض التبرك والصلوات للآلهة والأجرام واستدعاء الأرواح واستجلاب المنافع ودفع المضار والشرور إلى آخره. وفي أرض كنعان كان الكهنة يلقبون بـ "الأحبار" حيث "حبر" بالكنعانية تعني "كاتب"، وعندما فتح العبرانيون أرض يبوس أصبح حبرها الأعظم "صادوق" هو الكاتب (الحبر) الخاص لداوود ومن ثم سليمان، وهو أيضاً كبير كهنة الهيكل والذي يملك وحده صلاحية كتابة التوراة التي لم تكن في ذلك الوقت مكتوبة، بل متداولة شفهياً بين العبرانيين، فالبدو ليس من عاداتهم كتابة تراثهم مهما كان مقدساً.
راهن صادوق على أمية العبرانيين، وعلق آماله على ضعف الذاكرة الشعبية، على السرعة العجيبة التي تنسى بها الأجيال تاريخها غير المكتوب، وبطبيعة الحال لم يكن غير الأحبار (الكتبة) من بإمكانهم إعادة صياغة هذا التاريخ بشكل مرحلي ومتدرج يراعي مقدار الضعف والقوة في ذاكرة كل جيل على حدة، تلك كانت فحوى اكتشاف العبقري ويلهاوزن.
ولكي يضمن صادوق عدم تسرب محتويات الكتاب وأسرار كتابته وإعادة كتابته عبر الأجيال إلى خارج دائرة العصابة الكهنوتية الكنعانية؛ اخترع لنفسه –بداية- نسباً عبرانياً مقدساً حيث ادعى انحداره من نسل السبط لاوي "ليفي"، ودس بين نصوص الكتاب نصاً يحرم على غير أبناء لاوي امتهان مهنة الكهنوتية (الأحبار) لتصبح سدانة التوراة وأمانة سرها محصورة في ذرية صادوق الكنعاني إلى الأبد، ومنذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا لا يستطيع أحد امتلاك شرعية كتابة التوراة وتفسيرها وتعليمها وإقامة الطقوس التعبدية والتصدر للفتوى والقضاء سوى آل البيت الصادوقي الذين باتوا يلقبون بـ "اللاويين"، وبات كبارهم يلقبون بالحكماء (الحاخامات) ويعتبرهم اليهود في مقام الأنبياء، علماً بأن يهود اليمن –جميعهم- يزعمون انتسابهم لهذه السلالة، وعلى رأسهم آل النهاري القريبين جداً من آل الحكمي (الحاخامي)، وعلماً بأن القبيلتين (النهاري والحكمي) باتوا يزعمون الآن انتسابهم لآل البيت النبوي!
اليوم؛ تعتبر أسرة النهاري من أعيان الأسر الحجازية التي تحظى بتقديس شعبي كبير على اعتبارهم من آل البيت النبوي، ويشغل أفراد هذه الأسرة العديد من المناصب القيادية ويتمركزون في الكثير من مواضع التأثير وصنع القرار المصيري بل وتحريك الرأي العام الشعبي وتوجيهه كيفما ومتى أرادوا، فمنهم القضاة ورجال الدين ورجال الأعمال وأصحاب مناصب كبرى في الشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة، ومنهم كتاب وصحفيين ومنشدين ومطربين إلى آخره. وتنتشر فروع الأسرة –خارج الحجاز- في اليمن والمغرب وغيرها، أما الفرع الآخر فهو الفرع الإسرائيلي الذي ينتمي إليهم "مشولام نهاري" عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب شاس.
وبمنتهى الاستهبال يستميت نهاروة الحجاز في نفي أي صلة قرابة تربطهم بنهاروة إسرائيل، فيحاولون إقناع الناس بأنه مجرد تشابه أسماء! ولكن أغرب ما في "تشابه الأسماء" هذا هو أن كلا الأسرتين (الحجازية والإسرائيلية) ترجعان في الأصل إلى محافظة يمنية تسمى "ريمة" ولهم فيها رباط لا يزال قائماً حتى اليوم باسم "رباط النهاري"، وفي نفس الرباط كان أجداد الأسرتين يعيشون جنباً إلى جنب، في نفس المنزل، قبل أن يقرر شطر الأسرة أن يتحولوا إلى "آل بيت نبوي" ويهاجروا إلى الحجاز، بينما بقي الشطر الآخر لاويين حتى هاجروا إلى إسرائيل.
بإمكاننا أن نتفهم كيف يتحول اليهودي إلى عالم فاضل صالح تقي ورع من خيرة المؤمنين إذا ما اعتنق الإسلام عن قناعة ثم حسن إسلامه، ولكن أن يتحول اليهودي بمجرد نطقه بالشهادتين إلى سيد من آل البيت؛ فهو الأمر الذي لا يمكن لعقل بشري –أو غير بشري- استيعابه البتة.
ترى كيف كانوا يحصلون على وثائق النسب "الشريف"؟
..............يتبع
التعليقات (0)