مواضيع اليوم

شرعية الحكومة السعودية على المحك (الجزء الثاني)

محمد سرتي

2010-09-03 20:07:34

0

شرعية الحكومة السعودية على المحك (الجزء الثاني)
محمد سرتي

قال تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) وقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين).
لم يحظ شعب بالخصوصية الدينية والاحتفاء الإلهي الذي حظي به بنو إسرائيل في جميع الكتب السماوية وعلى رأسها القرآن. لقد استحوذ هذا الشعب على الغالبية الساحقة من القصص القرآني، وصاغ الله من تاريخهم ودقائق تفاصيل سيرتهم معظم آياته وخطاباته القرآنية ليجعل منهم المحور الأبدي الخالد الذي تدور حوله جميع المواعظ والدروس والعبر المقدسة إلى يوم القيامة. من أجلهم دمر الله أقوى دولة عظمى، حول نهر النيل إلى دم، وأمطر حجارة من نار على رؤوس المصريين، وسلط الجراد لينسف محاصيلهم ويدمر اقتصادهم بالكامل، وقتل أسماكهم ومواشيهم وبكور أبنائهم الذكور وابتلاهم بالأمراض والضفادع والزلازل وحجب عنهم نور السماء ليجعل نهارهم كقطع الليل المظلم كل ذلك انتصاراً منه تعالى لبني إسرائيل.
من أجل بني إسرائيل شق الله سبحانه وتعالى البحر وأغرق أقوى جيش على وجه الأرض في ذلك الزمان، من أجلهم أمر سبحانه السحاب أن يتجمع فوق رؤوسهم ويظللهم في حلهم وترحالهم، أنزل عليهم في وسط الصحراء القاحلة طعاماً من السماء طيباً مباركاً فيه؛ المن والسلوى التي لم يتذوق طعمها شعب في هذه الدنيا غيرهم، وعندما عطشوا شق لهم الصخر إلى نصفين وأنبع لهم من باطن الجبل ماءً عذباً فراتاً لا مقطوع ولا ممنوع.
من أجلهم نزل الله بذاته على جبل سيناء وكتب بيده ألواح وصاياهم ولم يبعث من بعد موسى نبياً إلا منهم عدا محمد صلى الله عليه وسلم.
اصطفاهم سبحانه بكتابه المقدس، وخصهم بحمل كلماته حتى باتوا يعرفون بأهل الكتاب وأهل الذكر، وباتت الشعوب لا تنظر إليهم إلا بكل احترام وتقدير وتقديس لما رأوا من كرامتهم ومنزلتهم وخصوصيتهم عند ربهم، فكانوا يلقبونهم بأهل الله أو شعب الله.
كانوا كلما حادوا عن الطريق يبعث الله لهم نبياً يدعوهم للتوبة والعودة والإنابة، وهو أمر لم يفعله الله مع أي شعب آخر، وكأنه سبحانه لم يكن يعنيه إيمان شعب في هذه الدنيا كما كان يعنيه إيمانهم، ولم يكن يهتم بإصلاح أحد اهتمامه بإصلاح بني إسرائيل، بل وحتى القرآن الذي نزل بلسان العرب كان الله يخاطب فيه بني إسرائيل بكثافة وإلحاح، وبأسلوب أكثر ليناً وترغيباً من أسلوب الخطاب الموجه لقريش نفسها.
قال تعالى: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) أي ألا يكفي قريشاً كي يؤمنوا بأن هذا القرآن منزل من عند الله أن يروا علماء بني إسرائيل أنفسهم الذين هم حملة كتاب الله وأهل ذكره يصدقون على صحة ما ورد فيه من أخبار وقصص وعقيدة توحيدية؟! (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه، أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) (وإنه لفي زبر الأولين) (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك).
وعندما حاججت قريش النبي بأن الله كان عليه أن يرسل لهم ملكاً رسولاً كي يكون في ذلك آية لهم ومعجزة كافية لإقناعهم بأن القرآن من عند الله وليس من اختراع محمد، رد عليهم سبحانه بقوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) وأهل الذكر هنا هم أهل البينات والزبر، أي علماء بني إسرائيل.
وبمعنى آخر: كان المقياس الوحيد الذي يحدد من خلاله القرشيون مدى صحة نبوءة الأنبياء من عدمها هو مدى توافق أخبار أولئك الأنبياء مع الثابت الصحيح من أخبار التوراة بتفاصيلها التي لا يعلمها إلا علماء بني إسرائيل، وأنه كان عرفاً سائداً في ذلك الزمان وحقيقة يسلم بصحتها العرب دون جدال مسألة اصطفاء الله لبني إسرائيل وتفضيلهم على العالمين بصرف النظر عن جميع أخطائهم؛ بل وبصرف النظر حتى عن كفرهم المؤقت بعقيدة التوحيد ولجوئهم الظرفي لعبادة الأصنام (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين).
أجمعت الكتب السماوية دون استثناء على أن اصطفاء الله لبني إسرائيل هو اصطفاء عرقي جيني لسلالة بيولوجية محددة بعينها (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ولكن ترى هل كشف لنا الله سبحانه وتعالى عن حكمته من وراء هذا الاصطفاء؟
بعد بداية عصر التاريخ بحوالي ألف عام ظهر شعب فريد من نوعه يختلف في ثقافته عن بقية شعوب العالم اختلافاً جذرياً، إنه الشعب العبراني (الخاي بور بالآرامية أو الخابيرو بالمصرية القديمة) الذي حدد المؤرخون زمن ظهوره الفاعل على الساحة التاريخية بأوائل الألف الثاني قبل الميلاد.
يتكون مصطلح "خاي بور" من شقين أو كلمتين: خاي بمعنى أخ أو صديق أو خوي، وبور بمعنى صحراء أو بر. فخاي بور أو خيبر أو خابر تعني ابن الصحراء أو "مخاوي البر" وهي صفة كانت تطلق على رعاة الإبل الذين كانوا يتنقلون في الصحراء العربية التي تبدأ حدودها الشمالية من الجزيرة الفراتية عند النهر الذي سمي باسمهم (نهر الخابور) وتنتهي جنوباً في وادي حنيفة، وتمتد شرقاً حتى الدهناء (دانا أو دان أو ديدان وتعني بالعبرية الأرض المنخفضة) وغرباً حتى وادي القرى عند القرية التي سميت باسمهم أيضاً (خيبر). ثم تطور هذا اللفظ إلى "عابر" وجمعها "عبريين" أو "عبرانيين".
تميز العبرانيون بنفورهم الفريد من الاستقرار والتشبث بالمكان، فبالرغم من الحضارات العظيمة التي كانت تحيط بهم من كل جانب؛ البابلية والآشورية والكنعانية والفينيقية والمصرية، إلا إنها لم تشكل لهم إغراءً حقيقياً يدفعهم للتخلي عن حياة البداوة، صحيح أنه كان منهم أسراً متحضرة هاجرت إلى بابل وآشور، وأخرى شبه متحضرة استقرت حول ضفاف الخابور ولقبوا بالآراميين، إلا إن نسبتهم كانت ضئيلة جداً بالمقارنة مع من ظل منهم متمسكاً بحياة الرعي متنقلاً بإبله بين صحاري السماوة والنفود لا يكاد ينزل مكاناً حتى يغادره إلى غيره.
عاش العبرانيون بفضل عزلتهم بعيداً عن أنظار التاريخ، وظلت ثقافتهم –عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم وقناعاتهم وتفاصيل حياتهم- يلفها الغموض والضبابية فلم يكتب عنهم المؤرخون ولم تذكرهم مسلات الأمم التي كانت تحيط بهم ونقوشاتهم حتى دخلت الألفية الثانية قبل الميلاد عندما أراد الله أن يعرفهم على العالم ويعرف العالم عليهم. خرج العبرانيون فجأة إلى العالم يبشرون بدين لم تسمع به الأمم ولم تألفه، يحملون عقيدة غريبة عجيبة اسمها عقيدة التوحيد تدعو لعبادة إله ليس ككل الآلهة، إله لا يمكن رؤيته أو لمسه أو التمسح به أو تصويره وتمثيله ووضعه في هيكل أو معبد للطواف حوله وحرق البخور. إله بدا للناس وكأنه غير موجود، وبدا العبرانيون وكأنهم يدعون الناس لعبادة اللاشيء، فالله هو الإله الوحيد الذي لا يمكن تصوره كشيء مادي، والناس لا يؤمنون إلا بالمادة.
وبالرغم من الغموض الذي صاحب الظهور التاريخي للحركة العبرانية إلا إن المؤرخين أجمعوا على حقيقتين ثابتتين: أولاهما أن الشعب العبراني كان في ذلك الوقت أكثر الشعوب بداوة على الإطلاق، والثانية هي أن التاريخ الإنساني المكتوب لم يتعرف على ملة التوحيد إلا من خلال العبرانيين، أي منذ بزوغ عصر الكتابة برز العبرانيون كأول شعب على وجه الأرض اعتنق هذه العقيدة وبشر بها وتكفل بحملها وسدانتها إلى الأبد. وهنا بدا جلياً مدى الارتباط بين عقيدة التوحيد الخالص وبين البداوة الصرفة؛ بداوة رعاة الإبل. فالانتخاب الإلهي للعبرانيين لم يكن عشوائياً بل مبنياً على أسس ثقافية، وبمعنى آخر: انتخب الله ثقافة الصحراء كي تمثل إرادته وعدالته وعقيدته في الأرض، كي تهيمن على بقية الثقافات وتحكم الحياة الفكرية في هذا الكوكب، كي تكون خليفة الله على بقية البشر.
قال تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) منذ البدايات الأولى لتواجد الجنس البشري على ظهر الكوكب؛ وتحديداً في الجيل الأول الذي تناسل من آدم وحواء قسم الله تعالى البشر إلى قسمين منفصلين متضادين ومتنافرين: قسم الرعاة وقسم المدنيين، ثم اختار سبحانه القسم الأول ليقود الثاني. اختار الله ثقافة الصحراء لتكون خاصته فقربها إليه واصطفاها وباركها وتقبل قربانها ولم يتقبل من الآخر. وقد وردت هذه القصة أكثر تفصيلاً في التوراة في سفر التكوين 4-1 "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين......ثم عادت وولدت أخاه هابيل. وكان هابيل راعياً (يمثل ثقافة الصحراء) وكان قايين مزارعاً (يمثل ثقافة الاستقرار الجغرافي والتحضر) فقدم قايين من أثمار الأرض قرباناً للرب. وقدم هابيل قربانه من أبكار غنمه وسمانها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر".
ومباشرة بعد حادثة الطوفان أعادت التوراة تأكيدها على هذا الاصطفاء الإلهي عندما قسم الله البشر هذه المرة إلى ثلاث عرقيات مختلفة تمثل كل منها ثقافة مختلفة، فسام بن نوح الذي وصفته التوراة بأنه أبو العبرانيين كان يمثل ثقافة البداوة الخالصة، بداوة رعاة الإبل، ويمثل يافث ثقافة الآريين، أما حام فكان يمثل ثقافة الحاضرة أي ثقافة السخرة والعبودية وينحدر من صلبه تلك الشعوب الذين بلغوا الغاية في المدنية والتحضر آنذاك والذين وصفتهم التوراة بالعبيد (كوش ومصرايم وفوط وكنعان) حيث نقرأ العبارات التالية في نفس السفر (تكوين 9-12) "وشرب (نوح) الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وذهب وأخبر أخويه، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال ملعون كنعان؛ عبد العبيد يكون لإخوته. وقال مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم".
إنه لمن أقوى الدلائل على مصداقية هذه القصة إبرازها لأهم العناصر التي تميز ثقافة الصحراء عن ثقافة الحاضرة؛ إنه الحياء، وخصوصاً عندما يتعلق بمسألة اللباس وستر العورة. ولو استطاع العالم فهم هذه القضية جيداً لما واجه الناس صعوبة في إدراك الحكمة الإلهية من وراء هذا الاصطفاء.
إن ظاهرة اللباس هي الظاهرة التي يتفرد بها الإنسان دون بقية المخلوقات، فهو الكائن الوحيد الذي يستحي من منظر جسده عارياً ليس فقط أمام الناس بل حتى أمام نفسه، فحتى عندما ينفرد الإنسان بنفسه داخل خبائه حينما لا يراه أحد نجده يحافظ على إبقاء عورته مغطاة أن تقع عليها عينه. إن التفسير الوحيد لهذه الظاهرة يكمن في نظرية القطيعة الوجودية بين أقنومي الشخصية الإنسانية، فالإنسان هو الوحيد بين المخلوقات البيولوجية الذي يشعر بنوع من القطيعة بينه وبين جسده، فهو الوحيد الذي يقرف من مخرجات جسده كبوله وبرازه وعرقه ومخاطه وريح جوفه، بل ويقرف أيضاً من رائحة طعامه بعد أن يشعر بالشبع، ترى ما سر هذا السلوك التنصلي من الإنسان تجاه وجوده البيولوجي؟
قال تعالى: (فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون. يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون. يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون).
كيف أصبح نزع اللباس هو الانعكاس المباشر للخطيئة؟! بل هو المظهر الأبرز وربما الوحيد للتعبير عن السقوط في أحضان الشيطان!
لقد جعل الله اللباس رمزاً ظاهرياً يدل على رفعة الإنسان وتساميه فوق عالم المادة وتنصله من الانتماء لهذا العالم بما في ذلك جسده كجزء من هذا العالم، وهي مسألة ضرورية كون الإنسان لم يخلق كمجرد مواطن في هذا الكوكب بل كخليفة لله في أرضه وممثل لإرادته عليها، وهذه المهمة تتطلب نوعاً من الشعور النفسي بالقداسة والعظمة والروحانية والتعالي، وهذا الشعور لا يمكنه التعايش مع إحساس الإنسان بانتمائه إلى عالم الحيوان وامتلاكه لجسد بيولوجي نجس.
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) إذاً الهدف النهائي للشيطان هو نزع اللباس، وكما تمكن قديماً من إخراج آدم من الجنة بعد نجاحه في نزع لباسه؛ هو الآن يحاول الإبقاء على هذا اللباس منزوعاً لدى أبناء آدم كي يحول دونهم ودون العودة إلى الجنة.
(ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) في هذه الآية نستطيع أن نتحسس بعداً أنطولوجياً يكمن في هذا اللباس؛ فنزع اللباس هو بمثابة إلغاء القطيعة بين الإنسان وجسده، وحسب التعبير القرآني الكريم هو انكشاف الإنسان على سوءته، وهو ما يعني رفع الحجاب الحاجز بين البعد الروحاني المقدس والبعد البيولوجي الحيواني في شخصية الإنسان.
(ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما) نلاحظ هنا أن المسألة –في أساسها- لا تتعلق بالخجل الاجتماعي، إنها قضية شخصية بالدرجة الأولى، فاللباس الأول لم يكن الغرض منه مواراة سوءة آدم عن الناس؛ بل عن نفسه، كان بمثابة الحاجز النفسي الذي يحول دون اطلاع الإنسان على نقطة ضعفه الوحيدة؛ جسده، وكان نزع اللباس بمثابة انقشاع ذلك الحاجز النفسي، وكانت تلك هي الصدمة النفسية الأولى التي واجهها الإنسان عندما أدرك أن جزءًا من شخصيته ينتمي إلى عالم الحيوان، وهي الحقيقة التي لم يشأ الله ابتداءً أن يكشفها لهذا المخلوق حتى لا تصاب معنوياته بالإحباط، ووريت عنه ابتداءً حتى لا تتحطم مشاعر القدسية والطهر والفضيلة في نفسيته، حتى لا تنهار ثقته بنفسه وبسموه الروحاني عندما يكتشف أن النجاسة والوضاعة والدونية الحيوانية قد باتت جزءً من شخصيته (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما).
في مقابل ذلك نجد الإرادة الإلهية تتجه بقوة نحو تعميق هوة القطيعة النفسية بين أقنومي الوجود الإنساني -الروح والجسد- ليجعل الله سبحانه وتعالى تلك القطيعة هي الوسيلة الأم لتقديس هذا الكائن وتمجيده وتعظيمه ووضعه في منزلة من الكرامة والشرف ترتفع به ارتفاعاً فلكياً عن مستويات بقية المخلوقات. فمن خلال تلك القطيعة المقدسة تتم مواراة الجزء الحيواني –الجسد- من شخصية الإنسان وعزله خلف سواتر الحجب والتهميش داخل المشهد الوجودي العام لشخصيته، الأمر الذي يحجم دور الجسد ويقصيه إلى أبعد حد ممكن عن مواضع صنع القرار المصيري داخل الكيان الوجودي للشخصية الإنسانية. وعلى قدر نجاح الإنسان في إقصاء هذا الجسد وتحجيم دوره السياسي داخل الكيان الوجودي العام لشخصيته تتحول دفة القيادة السياسية إلى أقنومه الآخر –الروح- التي هي في الأساس نفخة من روح الله (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما).
وإذا كان اللباس هو الانعكاس الظاهري للقطيعة الوجودية بين أقنومي الشخصية الإنسانية؛ فإن التعبير الباطني عن هذه القطيعة يتمثل في ذلك الشعور الداخلي لدى الإنسان بالسمو والتعالي على طبيعته البيولوجية، وهو الشعور الذي نصطلح على تسميته لغوياً بـ "الشرف" أو "الكرامة" (Dignity). وبالرغم من غموض هذا المفهوم "الكرامة" وعجز اللغة المنطوقة عن التوصل لتعريف دقيق ومحدد له؛ إلا أنه في سياق سعينا لتقريبه إلى أذهاننا يمكننا المجازفة بالقول: إن الكرامة هي تلك السلوكيات التي يعبر الإنسان بها عن تبرئه من جزئه الحيواني، أو بمعنى آخر: هو إعلان الإنسان من خلال سلوكياته أن أقنومه الروحاني هو السائد والمسيطر والمهيمن هيمنة مطلقة على شخصيته الوجودية، وهو بذلك يتنصل من تبعات انتماء الأقنوم الآخر إلى عالم الحيوان. وأهم تلك السلوكيات على الإطلاق هو اللباس.
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير)، فاللباس الظاهري والريش ليس سوى انعكاس سلوكي لذلك الأصل النفسي للقطيعة الوجودية بين الروح والجسد، بمعنى أن اللباس الظاهري لا يعني شيئاً ما لم ينبثق من ذلك الأصل النفسي الذي سماه الله سبحانه وتعالى بلباس التقوى، فهل لباس التقوى –إذاً- هو الكرامة، والكرامة هي لباس التقوى؟ إذا كانت التقوى هي الفضيلة فهل الفضيلة شيء آخر غير الترفع والتسامي والتعالي فوق شهوات الجسد وغرائزه الحيوانية؟ أليست تلك الغرائز التي يشترك فيها الجسد البشري مع نظيره الحيواني هي السبب الوحيد لجميع الشرور والمفاسد والجرائم بل والمتاعب والآلام المختلفة في هذا العالم؟
إن جميع الدوافع السلوكية التي تحكم عالم الحيوان مصدرها هذا المربع الغرائزي: الجوع والجنس والبقاء والتكاثر، وهي نفس الغرائز التي تسيطر على الجسد البشري لتجعله يشترك مع الحيوانات في نفس دوافعهم ومحفزاتهم السلوكية بل وتطاحناتهم وصراعاتهم على سطح الأرض: الصراع من أجل الطعام والجنس والأمومة والبقاء. ولكن الصراع من أجل الكرامة لا يمكن العثور عليه إلا في عالم الإنسان فقط، لأنه الصراع الوحيد الذي لا علاقة له بالجسد، ليس نابعاً من الطبيعة البيولوجية الحيوانية للإنسان، إنه صراع من أجل الفضيلة، لذلك نجد الإنسان في سبيل دفاعه عن كرامته لا يضحي فقط بغرائز جسده وشهواته الحيوانية بل وبوجود هذا الجسد من أساسه، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يقدم على الموت دفاعاً عن كرامته وشرفه.
لو تأملنا في مفهوم الكرامة لدى الإنسان وما ينبثق عنه من مفاهيم أخرى تدور في فلكه كالمروءة والنخوة والعزة والتعفف والشجاعة والكرم والصدق والأمانة ومكارم الأخلاق لوجدناها جميعاً تصب في اتجاه التعالي على الجسد وملحقاته، التضحية بشهواته وغرائزه الحيوانية، والثورة على جميع مظاهر الرضوخ والانقياد لمتطلباته البيولوجية. إنه إعلان انتصار الروح وتربعها على جميع مراكز السلطة داخل الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية بعد إزاحة الجسد عن تلك المراكز. إنه لباس التقوى؛ ذلك الحجاب النفسي الحاجز بين الأقنومين والذي يجب أن يبقى متيناً صامداً يحول دون اختلاطهما وتمازجهما، فهو المعول الذي لا يفتأ يزيد في أخدود تلك القطيعة النفسية عمقاً واتساعاً، والذي يمكن تشبيهه بالتوتر السطحي (Surface tension) الفاصل بين الماء والزيت داخل الإناء الواحد بحيث لا يسمح لأي منهما بالتمازج مع الآخر، فيبقى الماء ماءً خالصاً والزيت زيتاً خالصاً. إن اختلاط الروح بالجسد يفقدها طهرها ويدنس أرومتها ويعكر صفاءها وينال من سموها وقدسيتها، عندها لن تصبح تلك الروح معياراً حقيقياً للفضيلة بعد أن تتغير طبيعتها وتفقد مصداقيتها المرجعية، إنها وظيفة الكرامة أو لباس التقوى أو التوتر السطحي: أن يبقى الماء ماء والزيت زيتا داخل هذا الإناء.
إن الصراع الذي يدور داخل إطار الذات الوجودية للشخصية الإنسانية الواحدة –بصفتها الفردية- ما هو سوى نموذج مصغر لكافة الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية -بمعناها الشمولي- بين الجماعات البشرية التي عاشت وتعيش على هذا الكوكب منذ خلقه الله وحتى نهاية العالم. داخل الإطار الوجودي الذاتي لكل فرد هنالك محاولة مستميتة لكل من الأقنومين لانتزاع السلطة من الآخر وإقصائه عن مراكز صنع القرار، فبينما يحاول الأقنوم الروحاني المقدس إجبار الجسد على الانسحاب والتقهقر والانزواء والتقوقع والتحجم خلف جدار الكرامة العازل –لباس التقوى- يحاول الشيطان –في المقابل- إحداث ثغرة ما في هذا الجدار أو شق في هذا اللباس تتمكن من خلاله حيوانية الجسد من التسلل إلى داخل نطاق الطرف الآخر والنيل من سلطته السيادية على الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية بغرض المشاركة في صنع القرار السياسي داخل تلك الشخصية؛ بل وربما اختطاف ذلك القرار بشكل كامل. إن انتصار الجسد –الذي هو رمز الخطيئة، رمز الشر، ورمز الحيوانية- مرهون بانتصار الشيطان في نزع الأسلاك الحدودية الشائكة التي تفصل بين الأقنومين وتحطيم ذلك الحاجز النفسي الذي أقامته الروح ليحول دون انكشافها على حقيقة طالما هربت من مواجهتها: وهي أن لها شريكاً حيوانياً نجساً يشاطرها نفس الغرفة الوجودية (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما).
ولتصور ملابسات هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً ينبغي التأمل في تلك المصطلحات التي نتفق جميعاً على تعاكسها المطلق وتعارضها وتضادها مع مفهوم الكرامة والشرف والتقوى، مصطلحات مثل: الكذب والنفاق والرياء والخيانة والغدر والغش والاحتيال والمراوغة والنذالة والبخل والجبن والجشع والطمع والأنانية والانتهازية والاستغلال، لنجدها تعبر بشكل صارخ عن انتصار الجسد وهيمنة غرائزه الحيوانية على الكينونة الوجودية للشخصية الإنسانية، ولكنها لم تعد الآن إنسانية بعد أن سيطرت عليها غرائز الحيوان؛ الجسد. إننا نجد جميع تلك الصفات والسلوكيات الخسيسة تتمحور أنطولوجياً حول مربع الغرائز البيولوجية: الجوع، الجنس، البقاء، والتكاثر. بينما نجد "الكرامة" وملحقاتها تقف موقف العدو اللدود لجميع أضلاع هذا المربع.
إن إعجازية الرمز الدلالي في قصة أبناء نوح الثلاثة تكمن في إبرازها لحقيقة الاختلاف الفطري بين البشر في تعاطيهم مع قضية اللباس، وبالتالي في مدى شعورهم بالتآلف النفسي مع أجسادهم البيولوجية واستعدادهم الفطري لتقبل حقيقة انتمائهم لعالم الحيوان. لقد أظهرت القصة حقيقة انقسام البشر في ذلك إلى قسمين: قسم تعامل مع انتمائه البيولوجي ببراجماتية واستسلام للأمر الواقع باعتباره واقعاً يستحيل تغييره أو حتى معاندته وتحديه، حيث التنصل من هذه الحقيقة لا يعني سوى الموت والفناء المادي، وقد تمثل هذا القسم في حام الأب الأول للحضارة والمدنية (أبو الكنعانيين أو أبو العبيد) والذي قدمته القصة في صورة من فقد الحياء ولم يعد منظر العورة المكشوفة يثير اشمئزازه على العكس من أخويه وخصوصاً سام الذي ركزت عليه القصة تركيزاً استثنائياً باعتباره يرمز للبداوة الخالصة (أبو العبرانيين) وهي الثقافة التي تختلف تماماً وتتعارض مع ثقافة المدينة فيما يتعلق بتعاطيها مع قضية اللباس وستر العورة.
قديماً كان اللباس هو رمز العزة والسيادة، وكان العبيد يمشون في الشارع شبه عراة، سواء الرجال منهم والنساء. واليوم لم يتغير هذا الواقع كثيراً، فكلما استغرق المجتمع في الحضارة والمدنية كلما تحرر أفراده من لباسهم وتراخوا في ستر عوراتهم، فالمدينة هي رمز السخرة والعبودية، بالرغم من أنهم يسمونها اليوم بـ "الوظيفة" إلا أن تغيير المسمى لم ينل من الجوهر شيئاً.
إنها ليست مجرد خرقة تلقى على الجسد، بل هو معنى أكثر عمقاً، إنه الحياء، إنه خجل الإنسان من كينونته البيولوجية وتنصله من انتمائه الحيواني. إن الكرامة هي معاندة هذا الواقع وتحديه، هي تصرف الإنسان عكس ما تمليه عليه حيوانيته؛ جسده.
إن العبد (الموظف) الذي يرضى على نفسه أن يتم تسخيره كالدابة وترويضه كالبهيمة في مقابل لقمته (شهوة بطنه) نجده مع الزمن يبدأ في التحرر من ملابسه على قدر ما يفقد من كرامته؛ على قدر ما تزداد قناعته بشخصيته البيولوجية (الحيوانية) رسوخاً.
عندما تمحورت شخصية المدني حول جسده وأصبح لا يرى لنفسه وجوداً خارج حدود الجسد؛ أصبح مربع الغرائز البيولوجية مسيطراً على شخصيته الوجودية بشكل مطلق، مما أدخله في حالة من القلق الدائم على سلامة جسده وبقائه، وعندما تتفاعل الغرائز البيولوجية مع هذا القلق الوجودي يتحول القلق بالضرورة إلى حالة جبن مرضي خالع يسيطر على جميع جوانب حياته الفكرية والسلوكية، فلا تجد همه ينصب فقط على إشباع غريزة الجوع الآنية بقدر ما يسعى لاجتثاثها من مخيلته إلى الأبد فيلجأ لتكديس الثروات وتخزين كميات من الطعام تكفيه مدى الحياة، ولا تجده فقط يهرب بجسده من مواقف الخطر الحاضرة بل يبذل المستحيل كي يبقي جسده في مأمن أبدي عن جميع مظان الخطر المستقبلية وذلك ببناء الأسوار حول موقع سكنه واتخاذ القلاع والحصون وتدعيم جدران بيته وتضمين الأبواب بالأقفال والتحامي بأصحاب النفوذ والحرس ورجال الأمن وغير ذلك. لذلك كانت الزراعة –ابتداءً- أفضل وسيلة للعيش بالنسبة لكائن كهذا باعتبارها الوسيلة الأكثر أماناً، فمعها لا يضطر لخوض المغامرات بحثاً عن رزقه، لا يضطر للترحال والتنقل عبر البراري القاحلة وسبر أغوار الغابات الموحشة بحثاً عن فريسة يصطادها أو ثمرة يقطفها أو حشائش تتغذى عليها مواشيه، فالزراعة تضمن له الاستقرار والتحامي بالمكان واتخاذ القلاع والحصون والاختباء خلف الأسوار المنيعة والأبواب المتينة.
إذاً لم يكن باستطاعة ذلك الكائن التغلب على قلقه الوجودي تجاه فناء جسده إلا بحمايته من الأخطار، ولم يكن أمامه وسيلة لتحقيق ذلك سوى الاستقرار الجغرافي والتحامي بالمكان، وبالتالي كان عليه ابتكار وسيلة لتحصيل قوته من بقعة جغرافية ثابتة حتى لا يحتاج للتنقل والترحال، وكانت تلك الوسيلة هي الزراعة.
إن هذا القلق الوجودي هو أهم ما يميز الكائن الحضاري عن بقية المخلوقات، فالحيوانات لا تعاني هذا النوع من القلق بنفس القدر، حتى تلك الشبيهة بالإنسان في قدراتها العقلية والبدنية كالقردة، والتي تملك القدرة على بناء حضارة شبيهة بحضارته، إلا أن فقدانها لهذا النوع من القلق جعلها لا تبالغ كثيراً في خوفها على أجسادها من الفناء، الأمر الذي منحها قدراً من الشجاعة الوجودية التي نلمس آثارها في تلك الروح الإيثارية والتعاونية داخل مجتمعات القردة، بينما نجد روح الأنانية والفردية والانتهازية وحب التملك هي السائدة لدى المخلوق الزراعي، وهذه الروح القلقة هي التي أنتجت حضارة الإنسان وشيدت مدنياته، فافتقاده للأمان الجسدي لم يدفعه فقط للتشبث بالأرض والتمترس بالمكان بل وللعمل المستمر على ابتكار الوسائل المختلفة التي تجعل من ذلك المكان أكثر أماناً ورفاهية.
على العكس من إنسان الصحراء الذي أبرز للعالم من خلال مبالغته الشديدة في اللباس مدى عمق القطيعة بينه وبين جسده؛ لا نستطيع أن نعثر في المقابل على هذا النوع من القطيعة لدى مخلوق المدينة، وهو أمر يظهره ميل هذا الأخير نحو التعري والتخفف من لباسه وانعكاسات ذلك على عناصر ثقافته الأخرى: سلوكياته وأخلاقياته العامة، قناعاته، توجهاته الفكرية، عقائده اللاهوتية، أساطيره، وحتى أمثاله الشعبية، والتي تظهر جميعها مدى تعلقه بكينونته البيولوجية وانكفائه على ذاته المادية وقلقه العصابي من فنائها، فهو لا يرى لنفسه وجوداً خارج إطار تلك الذات، ولا تستطيع مخيلته أن تصور له أي شكل من أشكال الوجود خارج قالب المادة.
في أرض كنعان القديمة يستوقفنا ذلك الهوس العصابي لدى المدنيين الأوائل بحفظ جثث موتاهم، فالأهرامات لم يتم تشييدها كقصور بل كمقابر، ولم يبرع المصريون في مهارة كبراعتهم في تحنيط الموتى، وعند زيارتنا لآثار العلا ومدائن صالح والبتراء تصيبنا الدهشة عندما نشهد مدى تراخيهم في بناء مساكنهم التي لم تصمد أمام عوامل التعرية كثيراً؛ في مقابل مبالغتهم الشديدة في تشييد تلك القبور التي نحتوها في الصخر نحتاً والتي لا تزال شاهدة أمامنا حتى اليوم على شدة تعلقهم بأجسادهم الحيوانية لدرجة عجزت معها مخيلتهم أن تصور لهم شكلاً من أشكال الحياة بعد الموت خارج إطار الجسد.
إن خوفه من الموت ينبع من قلقه على فناء جسده المادي، وهو وتر يجيد الكهنة العزف عليه بمهارة، ومن خلاله يستطيعون استعباد هذا الكائن بطريقة أكثر سهولة من استعباد الحيوان. إن كل ما يلوح له كوسيلة لخدمة بقاء الجسد وديمومة بقائه حتى فيما بعد الموت ليشكل في نفس الوقت وسيلة طيعة لاستعباده، من هنا ينبع تعلقه الشديد بالأرض كوسيلة لتوفير الأمن الغذائي المستدام، ومن خلال هذا التعلق تمكنت الأرض من استعباده وتسخيره لخدمتها حتى بات مستعداً للتضحية بكل شيء من أجل الأرض، وهو استعداد لم يتوفر لدى الحيوان نفسه، فالحيوان يعطي الأرض بقدر ما يحصل منها على ما يشبع حاجاته البيولوجية الآنية، أما الكائن الحضاري فيعطيها حتى من حاجاته الآنية ويضحي من أجلها بشهواته الحاضرة لأنه يرى فيها المصدر المستقبلي بعيد المدى لتوفير الأمن الغذائي المستدام، هو لا يفكر في تلبية نداء غرائزه الآنية وإشباع حاجاته البيولوجية الحاضرة فقط بل ما يقلقه هو ديمومة هذا الإشباع، إنه يرى في فناء جسده فناءً لشخصيته الوجودية ككل، لذلك فهو يعمل جاهداً على إبعاد شبح هذا الفناء عن مخيلته وذلك بانكبابه على توفير أكبر قدر من مقومات بقاء هذا الجسد لأطول مدة زمنية ممكنة، بل وديمومة هذا البقاء حتى فيما بعد الموت.
من أشهر الأمثال الشعبية الدارجة لدى الشعوب المتحضرة قولهم: "قع نملة وكل عسل". والنملة في هذا المثل ترمز إلى الضآلة، ليس ضآلة الحجم فحسب بل جميع أشكال الضآلة التي من الممكن تصورها: ضآلة القيمة والمقدار، ضآلة الطبع والسلوك، ضآلة الفكر، ضآلة المبادئ والقيم والأخلاق إلى آخره. فالغاية عندهم هي الاستمرار في أكل العسل دون انقطاع، هي الحرص على ديمومة بقاء هذا الجسد والحيلولة دون قيام أية احتمالية لانقطاع الغذاء عنه مستقبلاً، وهي غاية تبرر عندهم كل وسيلة مهما كانت ضئيلة ووضيعة وحقيرة.
قع نملة وكل عسل، ففي سبيل العسل يصبح مقدساً كل عمل تقوم به، يصبح مقدساً أن تعمل صبياً أجيراً عبداً مسخراً يستخدمك كائن من كان في خدمته كما يستخدم حماره ودابته، يصبح مقدساً أن تبيع عرضك وشرفك وكرامتك فضلاً عن مجهوداتك العضلية والعقلية والنفسية في سبيل تكديس المزيد من العسل الأبيض لليوم الأسود، يصبح مقدساً أن تبيع وجبة عشائك للجائع المحتاج إذا استطعت أن تساومه على جوعه لتبتز آخر ما تبقى لديه من أموال.
إن مفهوم الكرامة لدى المدني يختلف جذرياً عنه لدى ابن الصحراء، ويكمن هذا الاختلاف في نظرة كل منهما نحو كينونته الوجودية بشكل عام، ونحو جسده بشكل خاص، هل الجسد جزء هامشي ملحق بالأنا؛ أم هو الأنا ذاتها؟ هل الجسد مطية لي يعمل في خدمتي أم العكس هو الصحيح؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تمر من خلال أسئلة أكبر؛ وهي: لماذا أنا موجود؟ هل أتيت إلى هذه الدنيا حاملاً معي رسالة وجودية مسؤولة؛ أم أنا مجرد موجود بيولوجي فحسب، ويجب أن أتعامل مع هذا الواقع كما هو؛ أي بصفتي البيولوجية المحضة؟
إن مشاعر الإنسان وعواطفه تجاه الآخرين؛ تجاه كل ما هو خارج عن ذاته المادية لتدل على أنه ليس بيولوجياً بقدر ما هو أثيري هيولي متعدد الأبعاد فوقي الأصل رباني الرسالة، تدل على امتلاكه لذات ماورائية مسئولة هي أكثر ضخامة وعظمة من ذاته المحسوسة، وأن بيولوجيته هي أكثر الأجزاء ضآلة في كينونته الوجودية لدرجة تجعله مستعداً للتضحية بمتطلبات بقائه المادي بدافع من مسؤوليته الوجودية الربانية تجاه الغير، أو على الأقل هكذا يجب أن يكون في هيئته الفطرية الخام، وبناء عليه فإنه على قدر ما يمتلكه وما لا يمتلكه من تلك المشاعر والعواطف يتحدد مدى إنسانيته ومدى بيولوجيته، ولكنه عندما يفقد تماماً شعوره بالآخرين وتعاطفه مع ما هو خارج عن ذاته المادية، وعندما تتمحور جميع مشاعره وعواطفه حول بقائه البيولوجي فقط؛ عندها تصبح كثير من الحيوانات أكثر إنسانية منه، أليست هذه بالتحديد هي حال أصحاب "قع نملة وكل عسل" "اليد التي لا تستطيع أن تدوسها فعليك أن تبوسها" "الرجل لا يعيبه سوى جيبه" "التجارة شطارة" "القانون لا يحمي المغفلين" وما إلى ذلك من هذا القبيل؟
ربما يمكننا الآن تفهّم سبب تعلق المخلوق الزراعي بنظام الكهنوت الديني رغم خلو هذا النظام من أي معنى أخلاقي وافتقاده لأي مشروع اجتماعي إصلاحي، إنه الرهاب العصابي تجاه فقدان الجسد، فهذا المخلوق المسكين لا يرى نفسه سوى جسداً محضاً، ولا يرى في فناء الجسد سوى فناءً تاماً لذاته، لذلك نجده يتعلق تعلقاً مرضِيّاً بأي مصدر يحقق له نوعاً من الأمان المادي والحماية الحسية، إن تعلقه الشديد بالمكان يندرج تحت هذا المعنى، وكذلك هو الحال بالنسبة للكاهن الذي يملك قدرة على منح البركات وإنزال اللعنات التي تظهر آثارها الحسية مباشرة على حياة جسده بشكل مادي ملموس.
إن القلق الوجودي من شأنه أن يهبط بالإنسان الحضاري خلقياً إلى مرتبة أدنى من الحيوان عندما يجعله على أهبة الاستعداد لفعل أي شيء في سبيل صيانة وجوده المادي، إن النتيجة لا تنحصر فقط في سلوكيات الأنانية والنفعية والانتهازية والاستغلال، بل تأخذه إلى أبعاد أكثر عمقاً عندما نجده لا يكتفي بالاختباء حول الأسوار المنيعة للمدينة بل يبحث عن أسوار أكثر منعة وديمومة، وأكثر قدرة على منحه ضمانات مستقبلية بالحماية من المجهول، كتلك التي يوفرها له السحرة والكهنة. هنا ينتهي به المطاف لأن يصبح أكثر المخلوقات البيولوجية قابلية للاستعباد، خصوصاً من قبل الكهنة والسحرة الذين لا يحتاجون في سبيل استعبادهم المطلق والكامل له إلى بذل أي مجهود سوى العزف على وتر قلقه الوجودي.
إن عقيدة التوحيد الخالص ليس بمقدورها الصمود داخل أسوار المدينة ولا تستطيع التعايش مع نفسية العبيد وثقافتهم. إن القلق الوجودي المسيطر على كيان المدني قد جعل منه كائناً مادياً صرفاً لا يعترف إلا بقانون المصلحة والمنفعة الآنية، أخلاقه تجارية، وكذلك عقيدته وفكره ونفسيته وأيديولوجياته العامة، إنه لا يبحث في الدين إلا عما يخفف من قلقه تجاه فنائه البيولوجي، وهذا النوع من الكائنات لا ينتظر منه الإيمان بإله غير مادي، بعقيدة لا تزيد في رصيده البنكي ولا تضيف إلى حياته من المتع والمكاسب الآنية ما يجعله يشعر بالأمان تجاه ديمومة بقائه الجسدي. الدين والعقيدة بالنسبة له ليست سوى عقود تجارية؛ صفقات اقتصادية لا تحددها سوى دراسة الجدوى، والإله بالنسبة له ليس سوى بقرة حلوب ولود تعطيه أضعاف ما تأخذ منه، أما الأخلاق والقيم والمبادئ السامية فهي بالنسبة له ترف فكري لا مكان لها إلا في المناسبات الخطابية، والمعاني المجردة كالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء والمروءة وغيرها هي بالنسبة له ضروب من الدروشة والغباء، وأدوات لمضيعة الوقت والجهد، فلا يجوز تداولها إلا في أوقات الفراغ، أما الإله الذي يدعو إلى مثل تلك المعاني هو بالنسبة للمدني إله الدراويش والمغفلين، من الغباء عبادته ومن غير المجدي اقتصادياً تقديم القرابين إليه. إن المدني لا يحتاج إلى إله يعبده ويحترمه ويقدسه لذاته، ولكن إلى إله يمكن استغلاله والاستفادة منه اقتصادياً، هو لا يحتاج إلى عقيدة تضحوية مسؤولة تثقله بالتزاماتها، بل كل ما يحتاجه المدني هو مارد محبوس داخل مصباح علاء الدين أو عفريت من خدام خاتم سليمان. إن إله المدينة هو الإله الذي يدفع كاش، هو ذاك الذي تظهر أرباح عبادته مباشرة في كشف الحساب، وهذا النوع من الآلهة هو ما يبحث عنه المدني لدى الكهنة والسحرة والأولياء القادرين على منح البركات لمريديهم وكتابة التمائم والتعاويذ وإتقان تقنية البصق في وجوه الممسوسين والمحسودين.
إن الساحر أو الكاهن هو في نظر المدني أكثر قداسة من الله –تعالى الله علواً كبيراً- حتى لو ادعى المدني غير ذلك وتظاهر باعتناقه لعقيدة التوحيد، فالصلاة لأشخاص الكواكب وهياكلها هي بالنسبة له أعظم فائدة وأجدى نفعاً من عبادة الله، فالله لا يدفع كاش، بل إنه سبحانه يدخر لعباده من الأجر والثواب في الآخرة أضعاف ما يعجل لهم به في الدنيا، وهذا النوع من الاستثمار لا يتناسب مع الثقافة المادية النفعية للمجتمع المدني. إن أكثر ما يجتذب المستثمر المدني هي صفقات الربح السريع والآني والمباشر والمحدد والمعلوم، لذلك فإن عبادة الكواكب (السحر والكهانة) هي أكثر الأديان رواجاً في مجتمع المدينة.
إن المدني لا تعنيه شخصية الإله بقدر ما تعنيه المردودات المادية العملية المباشرة لعبادته، هو لا يعبد هبل لأنه يحترم هبل بل لأن هبل دفع له مقداراً من الكاش لم يحصل على مثله من الله، وإن قداسة الساحر في المدينة تنبع من قدرته الخارقة على التنفيذ الفوري والعملي والملموس لمطالب زبائنه ورواده مهما كانت طبيعة تلك المطالب والرغبات، في الوقت الذي لا يضمن فيه أولئك الزبائن نفس القدر من المردود المادي الملموس لدعواتهم التي يرفعونها إلى الله.
إن السحر والمدنية توأمان سياميان لم يحدث أن انفصلا على مدار التاريخ، إن أول مدنية في التاريخ لم تنشأ إلا على أكتاف السحر، فالسومريون لم يكونوا سوى سحرة ومشعوذين، وحكام المدن السومرية لم يكونوا سوى كهنة لمعابد الكواكب والأجرام السماوية، ولم تكن المدن السومرية سوى فاتيكانات لأولئك الكهنة، فقبل شروعهم في بناء أي مدينة من مدنهم كانوا أول بناء يشيدونه هو زقورة تلك المدينة، أي معبد كواكبها، وكانوا يختارون له أعلى تلة في المدينة، ويشيدونه كأفخم وأضخم وأقوى بناء فيها، ثم بعد ذلك يتم بناء بقية المباني والمساكن في محيط ذلك المعبد بحيث لا يزيد ارتفاع أي منها عن ارتفاع الزقورة.
وظلت معابد الكهنة والسحرة أهم معالم المدينة على مدى التاريخ، وظل المدني عاجزاً عن تخيل أي نوع من العلاقة بينه وبين الله إلا من خلال الوسائط والوسائل المادية الملموسة، الحجرية منها والبشرية، وظلت العبادة في نظره مقتصرة على مفهوم التبرك والكهنوتية، أما التوحيد الخالص فهو مسألة تفوق قدرة المدني على الاستيعاب. إن عقيدة التوحيد هي عقيدة العزة والكرامة، لا يقدر على حملها غير الأعزاء، ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليضع أمانته في يد العبيد.
إن استغراق المدني في قلقه الوجودي تجاه فناء جسده وتعلقه المرضي بكينونته المادية جعله في حاجة دائمة إلى مصدر حماية سريعة وآنية ضد الأخطار والتهديدات الوجودية، مصدر من شأنه توفير نوع من الطمأنة المباشرة والفورية لهذا القلق، فهو لا يملك الشجاعة الكافية لمواجهته منفرداً، إنه من المستحيل على نفسية كهذه أن تكتفي بالله مصدراً وحيداً لتوفير هذا النوع من الحماية والطمأنينة التي لا تحتمل التأخير والانتظار، لذا يجد هذا الكائن المسكين صعوبة بالغة في كبح جماح نفسه أن تتخذ مع الله إلهًا مادياً يملك قدرة سحرية على الاستجابة الفورية والتدخل السريع.
وعلى العكس من الكائن الحضاري؛ لا نجد ذلك النوع من القلق الوجودي مسيطراً على إنسان الصحراء، وهو ما يتضح من خلال جميع سلوكيات هذا الإنسان الفريد ومفرداته الثقافية: المروءة، النخوة، الشهامة، الوفاء، الأمانة، الشجاعة، التراحم والتعاطف، التواسي والتكافل، الاحترام والتقدير، العزة والإباء والترفع والتعفف، الصدق والإخلاص والوضوح والشفافية، وغيرها من المفردات التي تظهر نوعاً من التعالي على الوجود المادي؛ والشعور بالمسؤولية تجاه هذا الوجود في ذات الوقت، إنها تحمل رسالة وجودية فريدة من نوعها، تتداخل فيها المتضادات وتتمازج المتناقضات بطريقة لا تقبل الخضوع للتنظير المنطقي.
عندما اختار البدوي العيش في الصحراء بكل ما فيها من أخطار وتحديات فإنه كان مدفوعاً بذلك الحجم الهائل من الكرامة التي سيطرت على كينونته الوجودية وشكلت أكبر دافع نفسي يحكم قناعاته ويوجه سلوكياته، فاختار التضحية بهذا الجسد وملحقاته على العيش في ظل ثقافة العبودية داخل المدينة. أبت عليه كرامته أن يكون عبداً للأرض بل سيداً عليها، وتعالت همته وعزة نفسه فوق حاجة جسده إلى الراحة والأمان ما دامت كرامته وحريته هي الثمن لتلك الراحة ولذلك الأمان. لقد اختار إنسان الصحراء حياته بمحض إرادته، لم تفرضها عليه الظروف البيئية الخارجية، بل طبيعته النفسية الداخلية. لقد كانت صحراؤه محاطة من جميع أطرافها بالأماكن التي تصلح للاستقرار الجغرافي: الأنهار وأحواضها الخصبة، والبحار بأسماكها الوفيرة ومرافئها التجارية المترفة، ولكنه رفض جميع تلك السجون الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية بالرغم من جميع عروضها المغرية لجسده وغرائزه الحيوانية، وقرر العيش حراً طليق الروح في أكثر البيئات قسوة وخطراً وتهديداً لسلامة جسده وبقائه.
إن الكرامة أو الشرف في مفهوم الإنسان الفطري (إنسان الصحراء) هي أن لا تكون حيواناً، أن لا تعيش كحيوان، أن تتنصل من انتمائك لعالم الحيوان وتعلن تبرؤك من شخصيتك البيولوجية. أو بمعنى آخر: الشرف هو كل عمل يُظهر من خلاله الإنسان فوقيته على عالم المادة بما في ذلك جسده كجزء من هذا العالم، يعلن قدرته على احتواء هذا العالم دون الانغماس فيه، يعلن ربوبيته لعالم الحيوان لا مواطنته فيه، يعلن انعتاقه من سلطة الجسد، وتحديه لقوى غرائزه، ورفضه الخضوع لندائه البيولوجي، وعدم خوفه من فنائه وتلاشيه، يعلن أن شخصيته الحقيقية أعظم سمواً وعلواًُ ورفعةً من أن يحويها ويحدها ويمثلها جسد حيواني.
عندما نحاول أن نفهم فينومينولوجية الكرم البدوي من خلال تصرف إنسان الصحراء تجاه غريزتي الجوع والبقاء؛ يستوقفنا ذلك التداخل المدهش بين اتجاهين سلوكيين متناقضين ينزع أحدهما لإنكار الذات المادية والآخر للانغماس فيها، ولكن البدوي استطاع أن يصهرهما بأعجوبة داخل بوتقة واحدة. عندما يتنازل البدوي عن آخر وجبة لديه في بيئة لا توفر لسكانها من الغذاء قدراً يفوق كثيراً ما تأخذه منهم؛ فإنه في هذه الحالة يمارس نوعاً من إنكار الذات المادية والعمل على تجويعها وإفنائها بطريقة قد تبدو شبيهة بأسلوب التصوف الهندي، إلا إنه في ذات الوقت لا ينقطع عن العمل البدني الدؤوب والمضني في سبيل تحصيل رزقه وتوفير متطلبات وجوده المادي. إنها معادلة مستحيلة الحل، فعلى قدر انكبابه الشديد وانشغاله الدائم بإثبات ذاته المادية نجده لا يلبث أن يتخلى عن تلك الذات وينكرها عند أول موقف يواجه فيه خياراً بين ذاته والآخر، أي عندما يوضع في موقف مسؤولية تجاه الآخرين فإنه يذهب في تحمله لتلك المسئولية إلى حد إنكار الذات التي ما كان لينكرها في غياب هكذا موقف.
في خيمة الضيافة نستطيع أن نتلمس بوضوح ذلك التعالي فوق كل من غريزة الجوع وغريزة البقاء لدى البدوي، فبرغم الظروف المعيشية شديدة القسوة التي من المفترض أن تجعل من البدوي شخصاً بخيلاً شديد الطمع والأنانية، شخصاً شديد الحرص على كل لقمة طعام يملكها نظراً لندرة الطعام والشراب وصعوبة الحصول عليهما في تلك البيئة القاحلة المقفرة، إلا أنه في خيمة الضيافة لا يكتفي البدوي بتقديم الفائض عن حاجته من الطعام والشراب لضيوفه، بل ولا يكتفي بمجرد اقتسام وجبته الحاضرة مع أولئك الضيوف، بل نجده يقدم لهم صفوة مخزونه الاستراتيجي من الغذاء. قد نجد البدوي يقتات لفترات طويلة على منتجات الألبان فقط، ولا يذوق اللحم إلا في المناسبات، خصوصاً إذا كانت إبله قليلة العدد وليس من السهولة تعويض إحداها إذا ما تم ذبحه أو فقدانه، إلا أنه في خيمة الضيافة يحرص كل الحرص على أن لا تكون وجبة ضيوفه خالية من اللحم، مهما كلفه الأمر.
إننا أمام حالة وجودية فريدة لا يمكن وضعها داخل إطار ميتافيزيقي، فالبدوي هنا لا يمارس نوعاً من التصوف الفلسفي الهندي الذي ينزع أصحابه نحو الإنكار المطلق للجسد وغرائزه والانسحاب الكامل من الحياة المادية، بل على العكس من ذلك؛ فالبدوي إنسان في غاية النشاط والحيوية والمثابرة في السعي وراء الرزق، ولا أدل على ذلك من ترحاله الدائم في الصحراء ونفوره الأبدي من الاستقرار والاستكانة والتشبث بالمكان والالتصاق بالأرض، فالتمترس الجغرافي هو عين الجبن والكسل، وهذه الصفات لا مكان لها في حياة البدوي وثقافته.
إن البدوي لا يحصل على لقمته إلا بشق الأنفس، فوجبة طعام البدوي تكلفه كثيراً جداً، ولكنه بالرغم من ذلك لا يبخل بها عن أي محتاج أو عابر سبيل، بل ولا يتردد هنيهة في تقديمها بكل أريحية وطيب خاطر وسلامة نفس لكل من تقوده قدماه إلى أعتابه كائناً من كان. وفي المقابل نجد المدني الذي لا يبذل من الجهد في الحصول على رزقه معشار ما يبذله البدوي؛ إلا إنه يحرص على ذلك الرزق أشد الحرص ويبخل به حتى عن أقرب الناس إليه.
إنه شكل فريد من أشكال التعامل مع القلق الوجودي ذلك الذي يبرز في سلوكيات ابن الصحراء جميعها على الإطلاق، يبرز من خلال شجاعته الفائقة في مواجهة مواقف الموت والفناء الجسدي أثناء القتال والقنص واقتحام الأخطار والأهوال بأنواعها كجزء من حياته اليومية؛ ومن خلال ترفعه وتعاليه على غرائزه البيولوجية الأساسية والذي يظهر أكثر ما يظهر في سلوكيات الكرم والتكافل والإيثار، ومن خلال تلك الروح التضحوية الأسطورية التي تنبع من جميع مفرداته الثقافية كالمروءة والشهامة والنخوة وغيرها.
هنا ليس باستطاعتنا أن نصف هذه الحالة بأنها مجرد حالة تحرر من القلق الوجودي تجاه الذات المادية على غرار التصوف الهندي ومذاهبه الغربية كالأبيقورية والرواقية والأفلوطينية وغيرها، إنها حالة من الشعور المفرط بالمسؤولية تجاه الطبيعة والحياة لدرجة لا يسعنا التعبير عنها إلا بمصطلح "الربوبية"، أي الشعور بالقوامة على هذا الكون.
لا يستطيع العيش دون أوثان سوى شخص بلغت به الشجاعة الوجودية حداً لا يحتاج معه للتحامي بالمكان والتمترس بالأرض، شخص ينظر إلى بقائه المادي كوسيلة لا غاية، بل ويعتبر هذه الوسيلة أكثر حقارة من أن يضحي بكرامته من أجلها، وأي تضحية بالكرامة أكثر من الوثنية، من أن يسجد الإنسان لكائن مادي طلباً للحماية والأمان وبدافع من قلقه تجاه فناء جسده، وهو النوع من الجبن والذل والعبودية التي لم يقبلها الحيوان على نفسه حتى اليوم.
لقد خلق الله الكائن المدني على هذه الشاكلة لحكمة عظيمة، فلولا العبيد لما بنيت الحضارات. إن تشييد المدنيات العظمى عبر التاريخ لم يكن يحتاج إلا للقليل من السادة والكثير جداً من قطعان العبيد المسخرين، فالعبد قد منحه الله قدرة على الصبر تفوق قدرة الحمار، بالإضافة لموهبته في الطاعة العمياء التي تفوق بها على جميع الحيوانات، كل ذلك نتيجة لقلقه الوجودي على فناء جسده بسبب الجوع أو انقطاع الراتب الشهري، ومن خلال هذا الراتب يمكنك أن تدفع العبد ليس فقط للعمل بل ولعبادة رب العمل وآلهة رب العمل وآل بيته، لذلك فشلت جميع المدنيات في الاحتفاظ بعقيدة التوحيد داخل أسوارها صافية نقية لمدة تزيد على الثلاثة قرون.
وكما خلق الله سبحانه وتعالى العبيد من أجل البناء (masonry) خلق شعباً آخر لا علاقة له بالبناء والحضارة، مهمته الوحيدة حمل رسالة التوحيد، الرسالة التي لا يستطيع حملها سوى شخص تجرد من جميع أشكال العبودية للمادة، وبقي كذلك إلى الأبد.
قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمّهن، قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريّتي، قال لا ينال عهدي الظالمين) لم يحدث أن عقد الله سبحانه وتعالى مع أحد من خلقه سوى إبراهيم عهداً صريحاً واضح اللهجة قطعي الدلالة كهذا، مرسومٌ إلهيٌ أبديٌ بتعيين إبراهيم رئيساً أعلى لمجلس إدارة البشرية إلى يوم القيامة. إني جاعلك للناس أي لكافة الناس؛ لجميع البشر الذين يسكنون الأرض بصرف النظر عن عرقياتهم وألوان بشرتهم ولغاتهم وثقافاتهم وقومياتهم وحضاراتهم ومناطق تواجدهم الجغرافي.
لقد قدم لنا القرآن إبراهيم كنموذج أعلى للثقافة العبرانية الخالصة، لذلك أبرز الله سبحانه وتعالى أهم عناصر هذه الثقافة في شخصيته، وهي الشجاعة الوجودية المطلقة التي لا يمكن توفرها في أي شعب آخر سوى رعاة إبل السماوة والنفود، ثم بين الله أنه قد اختار إبراهيم ليكون حبيبه وخليله دون العالمين في إشارة منه سبحانه إلى اختياره لهذا الرمز الثقافي، رمز البداوة الخالصة، ليكون ممثلاً له في الأرض ومعبراً عن ملته ومجسداً لإرادته وعدالته وشاهداً وإماماً ومهيمناً على كافة الثقافات الأخرى.
لم يقدم القرآن إبراهيم كرسول عادي مثل باقي الرسل، بل ولا كإنسان عادي على الإطلاق، لقد قدمه الله لنا كشخص بلغ به الإخلاص والصدق مع النفس مبلغاً يخرج عن حدود الطبيعة البشرية، مبلغاً يفوق قدرة العقل البشري على مجرّد تصوّره. إنه الرسول الوحيد الذي قدّم له القرآن كباحث عن الحقيقة، كرجل اكتسب إيمانه بعرق جبينه، كرجل انتزع الحقيقة انتزاعاً من وسط أكوام الأباطيل التي كانت تحيط بها، كرجل عبد جميع الكواكب، وسجد لجميع الأصنام، وبحث وتأمل في جميع العقائد قبل أن يختار أصدقها وأفضلها وأصوبها اختياراً مبنياً على قاعدة التجربة والبرهان، مبنياً على قاعدة الشك المؤدي لليقين. سأل جميع الأسئلة وسمع جميع الإجابات قبل أن ينطق بحكمه النهائي حول أهمّ وأخطر قضية في حياته، قضية الإيمان، القضية التي لم يقبل بتاتاً إخضاعها لقاعدة المنفعة، لقاعدة الوراثة، لقاعدة الأغلبية، لقاعدة "مع الخيل يا شقراء". لقد فضّل إبراهيم الكفر الصريح على الإيمان المزعزع، إما أن أؤمن أو لا أؤمن، لم يكن للنفاق والرياء في قلب إبراهيم مكان، لم يجعل إبراهيم لحياته هدفاً سوى العثور على الإيمان الكامل، الإيمان الراسخ، الإيمان الذي يطمئن له قلبه، ويقتنع به عقله، ويقشعرّ له بدنه، وتنهمر له دموعه دون توقّف، الإيمان الذي يستحق منه أن يضحّي بكل شيء من أجله، فهذا النوع النادر من البشر لا يرى لحياته أي معنى إن لم يضحّ بها من أجل قضية عظمى، وأي قضية أعظم من قضية الإيمان. قال تعالى: (فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلمّا أفل قال لا أحبّ الآفلين. فلمّا رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالّين. فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلمّا أفلت قال يا قومِ إني بريء مما تشركون. إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)
لم يصور القرآن إنساناً أكثر صدقاً في إيمانه وإخلاصاً لعقيدته وغيرة على ملة التوحيد من إبراهيم، وما صورت قصص الأنبياء قط رسولاً في صورة تظهره أكثر شجاعةً في مواجهة الباطل، وإقداماً في محاربة الشرك والكفر والنفاق، وفدائية وبطولة وتضحية بالنفس في التصدي لأعداء الله من إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
خرج إبراهيم وحيداً ليس معه أحد، خرج فتى صغير السن في أور الكلدانيين، معقل الكفر والشرك العالمي، خرج في بلاد النمرود، أكثر الملوك كفراً وبطشاً وتحدياً لله على وجه الأرض، خرج عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بمفرده لا يحمل سوى إيمانه في صدره وفأسه على كتفه متوجهاً إلى الزقورة التي كانت أضخم معبد للأصنام على وجه الأرض في ذلك الزمان، وبمفرده حطّم جميع تلك الأصنام التي لم يكن تقديس السومريين لها أقلّ من تقديس القرشيين لهبل وجماعته، ولم ينكر فعلته تلك بل وقف أمامهم بكل فدائية وبطولة وشجاعة يصرخ في وجوههم بأعلى صوته: (أفرأيتم ما تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون. فإنهم عدوٌ لي إلا ربّ العالمين).
دفع إبراهيم ثمن صدقه غالياً، فقد حفروا له حفرة كبيرة ملؤوها بكل ما استطاعوا جمعه من نيران، ثم حملوه إليها ولسان حالهم يخاطبه قائلاً:
ما الذي جنيته من وراء بحثك عن الحقيقة؟ ماذا استفدت من كل هذه القصة؟ ألم تكن فينا معززاً مكرماً قبل هذا؟ رزقك مكفول ومقامك محفوظ!
ألم يكن حريٌّ بك أن تضع رأسك مع الرؤوس وتترك عنك الشطط والشذوذ؟ أما كان من الأجدر أن تلتزم مسار قومك إن آمنوا آمنت وإن كفروا كفرت، إن عبدوا صنماً عبدته معهم وإن أكلوه لم تفتك وليمتهم؟
من أنت حتى تقف وحدك في مواجهة مدينة بأسرها؟ من أنت حتى تعارض وحدك كل هذه الحشود من الرأي العام؟ هل سمعت يوماً عن شجاعة غلبت كثرة؟
أنظر إلى أين قذفت بك حكمتك؟ وإلى أي هاوية يحملك إيمانك وإخلاصك وصدقك المزعوم! أما كان من الأجدر أن تكذب عندما يكون الكذب فضيلة، وتنافق عندما يكون النفاق وجاهة، وتعربد عندما تكون العربدة أسمى درجات الطهر والشرف، وتصلي لجميع أصنام المدينة طالما كانت هي الصلاة الوحيدة التي تقام في جماعة؟
إن هذه الدرجة من الصدق مع النفس لا يمكن للمدنيين فهمها، لذلك ظل العبرانيون غرباء عن العالم طيلة تاريخهم وحتى يومنا هذا. ومن هنا تتضح لنا الحكمة الإلهية في تخصيص هذا الشعب لقيادة العالم فكرياً وعقائدياً وثقافياً، أما العبيد فقد تخصصوا فقط في البناء (masonry).
قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات فأتمّهن، قال إني جاعلك للناس إماماً، قال ومن ذريّتي، قال لا ينال عهدي الظالمين)
نحن لا نفهم من القرآن سوى أن الله أراد أن يجعل من أبناء إبراهيم مجتمعاً ثقافياً نموذجياً تقتدي به جميع أمم الأرض، مجتمعاً معيارياً مثالياً تضبط بقية الشعوب ثقافاتها وسلوكياتها وقناعاتها على منواله، لذلك مركزهم الله سبحانه وتعالى في تلك البقعة الجغرافية التي تلتقي فيها جميع فصائل الكائن البشري، وتهوي إليها أفئدة ولد آدم على مدار العصور والأزمان دون توقف.
ما نفهمه من القرآن هو أن الله أراد أن يقيم في هذه البقعة المركزية من العالم مؤسسة فكرية عالمية تعمل بطريقة آلية على إمامة البشرية، على قيادة الإنسانية وتوجيهها وضبطها وتقويمها فكرياً وسلوكياً، على إدارة الحياة الثقافية في هذا الكوكب إلى الأبد. لم يجعلها الله سبحانه وتعالى مؤسسة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية صرفة، ولكنه صممها لتكون مؤسسة ثقافية بالدرجة الأولى، نموذجاً سلوكياً عملياً تتجسد فيه معايير الإنسانية تجسداً تطبيقياً واقعياً.
اصطفى الله تعالى العبرانيين من بين البشر، وأبناء إبراهيم من بين العبرانيين، وأقامهم للناس في هذه البقعة بالتحديد ليوجه من خلالهم رسالته الثقافية إلى البشرية، ليقدّم من خلال سلوكياتهم النموذج السلوكي المثالي الذي ينبغي على بقية الخلق محاكاته، ليقدّم من خلال أخلاقياتهم وقيمهم ومبادئهم وعقيدتهم وقناعاتهم الفكرية ذلك القالب الأخلاقي المعياري الذي يجب على بقية أمم الأرض وشعوبها أن تضبط أخلاقياتها على أساسه، لذلك كان العهد بين الله وبين أبناء إبراهيم في القرآن عهداً مشروطاً، وشرطه الوحيد هو الالتزام بملة أبيهم إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، الالتزام بسلوكه وأخلاقياته، الالتزام بعقيدته، بمبادئه، بقناعاته، الالتزام بصدقه مع نفسه ومع ربه، بشجاعته في الحق وتمسكه به واستماتته في الدفاع عنه، الالتزام باستقامته، بصراحته، بأمانته، بكرمه وعفة نفسه، بنخوته وشهامته، ومتى ما تراخى أحد أبناء إبراهيم في هذا الالتزام أو أخل بهذا الشرط فإن الله سيستثنيه مباشرة من العهد (قال ومن ذريّتي، قال لا ينال عهدي الظالمين).
قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) فأنتم يا أبناء إبراهيم قد اجتباكم الله أي اصطفاكم أي اختاركم دون بقية الأمم والشعوب لتكونوا شعبه المصطفى أي المختار الذي يمثل بأخلاقياته، بسلوكياته، بعقيدته، وبإنسانيته النموذج الثقافي المعياري للمجتمع الإنساني الكامل، والتجسد العملي التطبيقي لشريعة الله ونظامه الاجتماعي المقدس، والمؤشر القياسي العالمي لمقدار استقامة الشعوب أو انحرافها عن قانون الله، والممثل الحسي الوحيد لإرادة الله في إدارة الكوكب. لذلك زرعكم الله في منتصف هذا الكوكب لتكونوا شاهداً عالمياً منتصباً في مركز الكون، مركزاً دولياً للمراقبة والتوجيه والتقييم والإدارة الثقافية، مشهداً كونياً أبدياً تقتدي وتأتم به جميع فصائل الكائن البشري. ولكي تكونوا أهلاً لهذه المسؤولية عليكم أن تلتزموا ملة أبيكم إبراهيم إلى الأبد: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين. ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون) (وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
يعيش اليوم في العالم قرابة الملياري وربع المليار مسيحي ويهودي، أي ما يربو على ثلث سكان الأرض تأسست عقائدهم على قضية الشعب المختار، اصطفاء الله لأبناء إبراهيم كي يكونوا خاصته وأبناءه وأحباءه ومختاريه الأطهار دون بقية البشر، وهي قضية تستند إلى صريح نصوص التوراة والإنجيل ولا يوجد عليها خلاف بين أي من فصائل اليهود والنصارى ومذاهبهم مع اختلافها. إلا أن جميع هؤلاء –دون استثناء- يتناولون هذه القضية بمفهومها الكهنوتي المحض، وينكرون –أو يتنكرون- لبعدها الثقافي الذي مازالت تعبر عنه تلك النصوص بكل وضوح.
يعتقد أبرز الباحثين التوراتيين أمثال ألت ورايت وألبرايت وجوتولد ومندنهال أن الثورة الثقافية العظمى التي صاحبت الظهور التاريخي للعبرانيين تتمثل أولاً في العقيدة التوحيدية الخالصة والمختلفة تماماً عن عقائد الشعوب المحيطة بهم، وثانياً في طغيان الثقافة البدوية على ثقافة المدينة بعد تمكن العبرانيين من الهيمنة السياسية على المدن والقرى الكنعانية المتحضرة، وبناءً عليه يرى ألت أن أنجع وسائل النقد التاريخي للنص التوراتي تتمثل في الدراسة البنيوية لهذا النص بغرض التفريق بين ما يعبر عن ثقافة الصحراء وعقيدة التوحيد الخالص؛ وبين تلك العناصر الثقافية المدنية –وخصوصاً الكنعانية منها- التي تسربت إلى المجتمع العبراني مع الزمن بفعل طول إقامة الإسرائيليين بين ظهراني الكنعانيين واختلاطهم بهم عرقياً وثقافياً، وأبرز هذه العناصر عبادة البعل وقوانين الزراعة والحضارة والتمدن.
وإذا ما أردنا الاستناد إلى نظرية ألت في نقدنا الديني للنص التوراتي يصبح بإمكاننا التفريق بسهولة بين النصوص الأصيلة التي لا تزال تحتفظ بقداستها ومصداقية نسبتها إلى الله، وبين تلك التي تعرضت للتحريف والتزوير أو تم إقحامها عنوة داخل الكتاب المقدس كي تخدم الأغراض السياسية لكتبتها، فالأولى هي تلك التي تبشر بعقيدة التوحيد الخالص من جهة وبثقافة الصحراء من جهة أخرى، أما الثانية فهي التي تروج –بطريقة أو بأخرى- لثقافة كنعان وعقائدهم الوثنية. في هذا السياق لا يسعنا سوى تصنيف ما ورد في سفر التكوين حول حكاية أبناء إسحاق ضمن الفئة الثانية:
"وكان اسحق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجة رفقة بنت بتوئيل الآرامي.......فحبلت رفقة امرأته. وتزاحم الولدان في بطنها........فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر. فدعوا اسمه عيسو. وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب. وكان اسحق ابن ستين سنة لما ولدتهما. فكبر الغلامان وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان البرية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام! فأحب اسحق عيسو لان في فمه صيدا. وأما رفقة فكانت تحب يعقوب. وطبخ يعقوب طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت. لذلك دعي اسمه إدوم. فقال يعقوب بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو ها أنا ماض إلى الموت. فلماذا لي بكورية. فقال يعقوب احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس. فأكل وشرب وقام ومضى........وحدث لما شاخ اسحق وكلّت عيناه عن النظر انه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له يا إبني: فقال له: هاأنذا. فقال: إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي. فالآن خذ عدتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيّد لي صيدا. واصنع لي أطعمة كما أحب وأتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم اسحق مع عيسو ابنه. فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدا ليأتي به. وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلا. ائتني بصيد واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتي. فالآن يا إبني اسمع لقولي في ما أنا آمرك به. اذهب إلى الغنم وخذ لي من هناك جديين جيّدين من المعزى. فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب. فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته. فقال يعقوب لرفقة أمه هوذا عيسو أخي رجل اشعر وأنا رجل أملس. ربما يجسّني أبي فأكون في عينيه كمتهاون واجلب على نفسي لعنة لا بركة. فقالت له أمه لعنتك عليّ يا إبني. اسمع لقولي فقط واذهب خذ لي. فذهب واخذ واحضر لأمه. فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر. وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى. وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها. فدخل إلى أبيه وقال يا أبي. فقال هاأنذا. من أنت يا إبني. فقال يعقوب لأبيه أنا عيسو بكرك. قد فعلت كما كلمتني. قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك. فقال إسحق لابنه ما هذا الذي أسرعت لتجد يا إبني. فقال إن الرب إلهك قد يسّر لي. فقال اسحق ليعقوب تقدم لأجسك يا إبني. أأنت هو ابني عيسو أم لا. فتقدم يعقوب إلى اسحق أبيه. فجسّه وقال: الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه لان يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه. فباركه. وقال هل أنت هو ابني عيسو. فقال أنا هو. فقال قدم لي لآكل من صيد إبني حتى تباركك نفسي. فقدّم له فأكل. واحضر له خمرا فشرب. فقال له اسحق أبوه تقدم وقبّلني يا إبني. فتقدم وقبّله. فشم رائحة ثيابه وباركه. وقال انظر. رائحة إبني كرائحة حقل قد باركه الرب. فليعطك الله من ندى السماء. ومن دسم الأرض. وكثرة حنطة وخمر. ليستعبد لك شعوب. وتسجد لك قبائل. كن سيدا لإخوتك. وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين. ومباركوك مباركين. وحدث عندما فرغ إسحق من بركة يعقوب ويعقوب قد خرج من لدن اسحق أبيه أن عيسو أخاه أتى من صيده. فصنع هو أيضا أطعمة ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسك. فقال له اسحق أبوه من أنت. فقال أنا ابنك بكرك عيسو. فارتعد اسحق ارتعادا عظيما جدا. وقال فمن هو الذي اصطاد صيدا وأتى به إلي فأكلت من الكل قبل إن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركا. فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا. وقال لأبيه باركني أنا أيضا يا أبي. فقال قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال إلا إن اسمه دعي يعقوب. فقد تعقبني الآن مرتين. اخذ بكوريتي وهوذا الآن قد اخذ بركتي. ثم قال أما أبقيت لي بركة. فأجاب إسحق وقال لعيسو إني قد جعلته سيدا لك ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا وعضدته بحنطة وخمر. فماذا أصنع إليك يا إبني. فقال عيسو لأبيه ألك بركة واحدة فقط يا أبي. باركني أنا أيضا يا أبي. ورفع عيسو صوته وبكى. فأجاب إسحق أبوه وقال له هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك. وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش. ولأخيك تستعبد. ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك. فحقد عيسو على يعقوب من أجل البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في قلبه قربت أيام مناحة أبي. فاقتل يعقوب أخي. فأخبرت رفقة بكلام عيسو ابنها الأكبر. فأرسلت ودعت يعقوب ابنها الأصغر وقالت له هوذا عيسو أخوك متسلّ من جهتك بأنه يقتلك. فالآن يا إبني اسمع لقولي وقم أهرب إلى أخي لأبان إلى حاران. وأقم عنده أياما قليلة حتى يرتد سخط أخيك. حتى يرتد غضب أخيك عنك وينسى ما صنعت به. ثم أرسل فآخذك من هناك"
الكهنوتية –باختصار- هي الاعتقاد بامتلاك فئة من البشر لقدرات سحرية خاصة تمكنهم من الإتيان بالمعجزات وخوارق العادات، أو ما يسمى اصطلاحاً بـ "البركة". وهذه البركة –في المفهوم الوثني- يمكن تشبيهها بكمية معلومة من الطاقة الكهربائية الكامنة والمخزنة داخل وعاء شبه موصل، بحيث يمكن انتقالها عن طريق اللمس (التبرك والتمسح) أو الهبة والمنح (المباركة) أو حتى الوراثة. وقبل ظهور العبرانيين لم يكن العالم يعرف ديناً سوى الكهنوتية بكافة مذاهبها وأشكالها، لأنها –كما ذكرت سابقاً- العقيدة الوحيدة التي باستطاعة الشعوب المتحضرة فهمها والانجذاب إليها، فهي تقدم لهم إلهاً مادياً محسوساً ملموساً مرئياً يقيم في وسطهم ويمكنهم اللجوء إليه عند الطوارئ وكلما دعت الحاجة لتدخل إلهي سحري سريع.
فالكهنوتية –إذاً- جزءٌ أصيل في ثقافة المدينة، ولا يمكن للعبد الذي سيطرت عبادة المادة على كيانه فنشأ وتربى على التذلل والخضوع والسجود لمصادر الإشباع المادي والإمتاع الحسي أن يتخيل نوعاً من العلاقة المباشرة بينه وبين الله دون وسائط أو شفعاء أو وسائل مادية ملموسة. وذلك على العكس من ثقافة الصحراء التي ربّت أبناءها على الحرية المطلقة والتحرر الكامل من كافة أشكال العبودية والسجود للمادي المحسوس، وغرست في نفوسهم منذ الصغر مشاعر التعالي والسيادة على هذه المادة وليس الخضوع لها. هنا لا يمكن أن نعثر على كهنوتية في الصحراء، كما لا يمكن أن نعثر في كتاب نزل من عند الله على آية ترسخ عقيدة كهنوتية وتروج لفكرة البركة والتبرك إلا إذا كانت هذه الآية قد أقحمت في كتاب الله إقحاماً ونسبت إليه زوراً وبهتاناً.
لا توجد جريمة كاملة؛ فالذي كتب قصة يعقوب هذه وحاول تطويع بقية نصوص التوراة لتصب في بوتقتها فاتته الكثير من النصوص التي أفلتها الله من بين يديه والتي تتعارض مع هذه القصة تماماً وتنقض مغزاها وتفضح زيفها وتهافتها. إن النصوص التوراتية التي تتحدث عن التوحيد الخالص والمنزه من جميع الشوائب الكهنوتية دائماً ما تربط هذا النوع من التوحيد بالبداوة الخالصة وتجعل من ثقافة الصحراء شرطاً لتحقيقه. لقد كان أنبياء التوراة غالباً ما يربطون المدنية بالشرك والكفر ويدعون قومهم لنبذ ثقافة المدينة كشرط للتوبة والخلاص والتطهر والعودة لعقيدة التوحيد الخالص كما خط خطوطها الآباء الأوائل (patriarchs) المؤسسين لهذه الملة، وكان على رأس أولئك الآباء خير البرية وسيد العالمين وإمام الخلق أجمعين حبيب الله وخليله إبراهيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الذي ورد عنه في التوراة أنه كان من شدة تمسكه بثقافة الصحراء أنه حرم على أبنائه الزواج بغير العبرانيات وأوصى بذلك خادمه عند وفاته وأخذ عليه عهداً شديداً مغلظاً بتنفيذ هذه الوصية:
"وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام. وبارك الرب إبراهيم في كل شيء. وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له: ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم. بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحق" (تكوين: 24-1)
كان خليل الله عليه الصلاة والسلام يسكن وسط الكنعانيين، يجاورهم في أرضهم ويتعايش معهم، يقاتل معهم ويدافع عنهم، يواليهم ويعاهدهم وتربطه صداقة حميمة مع مليكهم (أبي مالك) ولكنه كان يستميت في الحيلولة دون ثقافتهم أن تخترق أسرته أو تتسرب إلى أجياله من بعده، وأبرز وسائل هذا الاختراق التزاوج والاختلاط العرقي، لذلك وجدناه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ينتزع من خادمه قسماً مغلظاً بهذه الطريقة من التشديد والتأكيد أن لا يحدث هذا الاختراق بعد مماته.
كان عليه السلام يدرك أن الرسالة التي سيحملها أبناؤه من بعده ترتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة الصحراء، ارتباطٌ لا يمكن فضه بحال. كان يدرك أن اصطفاء الله له كان اصطفاءً ثقافياً لا كهنوتياً، وأن قداسة هذه الذرية تنبع من قداسة ثقافتها قبل حيواناتها المنوية، وأنه لو حدث وخرجت هذه الثقافة من صحرائها فإنها لن تلبث أن تفسد وتتعفن وتتدنس أرومتها داخل بيارات المدينة، وأن الله لم يرسله إلى أرض الكنعانيين ليصبح مثلهم بل ليعلمهم كيف يقلدوه ويحاولوا أن يكونوا مثله.
جاء في سفر يوشع 3-5 "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثّيين والأموريين والفرزّيين والحوّيين واليبوسيين. واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم. فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري فحمي غضب الرب على إسرائيل" هنا تظهر الحكمة من تحريم الاختلاط العرقي بالشعوب المتمدنة: وهي أن هذا الاختلاط لا بد ويصحبه تحلل ثقافي وانحراف عقائدي، فالقضية ليست عنصرية كهنوتية كما تحاول قصة يعقوب وعيسو إظهارها، بل عنصرية ثقافية عقائدية تهدف للإبقاء على عقيدة التوحيد العبراني خالصة صافية نقية من خلال صيانة ثقافة الفطرة من خطر الاختلاط والتحلل.
إن الاختلاط العرقي هو الخطوة الأولى في طريق التحضر والتمدن، فالكنعانية لن تربي أبناءها على احتقار ثقافة قومها، بل ستربيهم ليكونوا أحصنة طروادة المزروعة داخل خيام رعاة الإبل، والتي لن تؤتى عقيدة التوحيد إلا من قبلها. إن ثقافة المدينة هي ثقافة الكفر والنفاق والفجور والانحراف، هذه هي القاعدة التي أكد عليها جميع الأنبياء في تعاليمهم، والتي مازالت التوراة تحتفظ بها حتى اليوم.
ولكن عندما يخرج إلينا كاتب التوراة بقصة تقدس ثقافة المدينة؛ ثقافة الغدر والكذب والنفاق والخيانة، وتحتقر ثقافة الصحراء باعتبارها ثقافة البراءة التي تصل لحد البلاهة، والطيبة التي تصل لحد السذاجة، فجعل كاتب هذه القصة من رمز المدنية (يعقوب) إنساناً كاملاً يستحق أن يرث عهد الله بسدانة هذه الملة دون أخيه عيسو رمز الصحراء والبداوة؛ فإننا لا نملك سوى أن نضع العديد من علامات الاستفهام حول نسبة هذه القصة إلى الله.
إن قصة انتزاع يعقوب للبركة من أبيه باستخدام تقنية الفهلوة والشطارة قد ساهمت في تجريد مفهوم "الشعب المختار" من بعده الثقافي وتحويله لمفهوم كهنوتي وثني خالص، وبذلك تم استبعاد أبناء الصحراء تماماً من الساحة الدينية لحصرها فقط على أبناء يعقوب (بني إسرائيل) فهم القبيلة الإبراهيمية الوحيدة التي فقدت عبرانيتها تماماً بعد أن تحضر أفرادها عن بكرة أبيهم وانقطعت جميع صلاتهم بالصحراء وثقافتها، في الوقت الذي ظل بقية أبناء إبراهيم –أبناء إسماعيل وأبناء عيسو (العيص)- متمسكين بعبرانيتهم ومتشبثين بصحرائهم حتى اليوم.
كتب بولس في رسالته لأهل غلاطية: "كما آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا. اعلموا إذا أن الذين هم من الإيمان أولئك هم بنو إبراهيم......ليس أحد يبطّل عهداً قد تمكن......وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله......الله وهبها لإبراهيم بموعد......إلى أن يأتي النسل الذي قد وعد له......لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذا نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة".
هكذا تحول ثلث سكان المعمورة إلى المسيحية بعد أن تمكن الحاخام الكنعاني بولس من إقناعهم بأنهم سيصبحون أبناءً لإبراهيم بمجرد إيمانهم بألوهية المسيح، عندها ستحل فيهم روح المسيح –أو حسب تعبيره "يتلبسون المسيح ويتلبسهم"- فيصبحون آلهة كالمسيح؛ آلهة كهنوتية وسيطة بين السماء والأرض. هكذا كان الكنعانيون ينظرون لأبناء إبراهيم على أنهم آلهة بشرية، وهكذا يفهم المدنيون معنى الاصطفاء بأنه اصطفاء كهنوتي خالص ومجرد من أي معنى ثقافي، اصطفاء يتمحور فقط حول مفهوم البركة، وهو المفهوم الذي كانت ولازالت تتمحور حوله جميع الأديان والمذاهب الكهنوتية التي نشأت في المدن والمراكز التجارية الواقعة على طرق التجارة الدولية منذ أكثر من ستة آلاف عام، والتي لا تزال باقية حتى اليوم مع بعض التحوير في مصطلحاتها وطقوسها الشكلية.
إذاً ما هو المغزى الإلهي الحقيقي لمفهوم الشعب المختار؟ من هم حملة العهد الفعليون من أبناء إبراهيم والمشار إليهم في قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس)؟ وكيف يمكن إيصال هذه الرسالة بمنتهى الوضوح والجلاء لأكثر من ثلث سكان الكوكب من اليهود والنصارى؟ هذا ما سأتناوله بالتفصيل في الجزء التالي بحول الله.

........يتبع

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات