مواضيع اليوم

شرح غـزل الشاعر أمرؤ القيس (الحلقة الخامسة)

مصعب الهلالي

الحلقة (5)

إيـْرَادُ وشَرْحُ غـَـزَل المَلِكْ

 

قصيدته في أمّ جُنْدُبْ

كان لإمرؤ القيس زوجة من قبيلة طي يقال لها أم جندب يتضح من خلال القصيدة التالية أنه لم يكن مقيما لديها بصفة دائمة وإنما كان يتردد عليها بين وقت وآخر فقال فيها:


خَلِيلَيّ مُـرّا بــِي عَـلىَ أمّ جُـنْـدَبِ ....                  

                               لِـتُقْضَي لُبَانَاتُ الفُؤادِ المُعَذّبِ

فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانـِي سَاعَةً ....

                                  مِنَ الدّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدَىَ أمّ جُنْدَبِ

ألَمْ تَـرََيـَانـِي كُـلّـمَا جـِئـْـتُ طَـارقَــا ً ....

                                      وجَدْتُ بــِهَا طِـيـبـَا ً وإنْ لـَمْ تـَطَـيّـبِ

عَقِيلَةُ أتْرَابٍ لَهـَا لا دَمِيمَةٌ ....

                                ولا ذَاتُ خَلْق إذا تَأمّلْتَ جَانـِبِ

ألا لَيْتَ شِعْريِ كَيْفَ حَادِثُ وصْلِهَا ....

                              وكَيْفَ تُرَاعِي وُصْلَةَ المُتْغَـيّبِ

أقَامَتْ عَلىَ مَا بَيـْنَـنَـا مِنْ مَـوَدّةٍ ....

                                 أمَيْمَةُ أمْ صَارَتْ لِقَـوْلِ المُخَبـِّبِ

فَـإنْ تـَنـْأ عَنْهَا حِقْبـَةً لا تـُلاقِهَا ....

                             فَإنـّكَ مِـمَا أحْدَثـَتْ بالمُجَرّبِ

 /////////////////////////

خَلِيلَيّ مُـرّا بــِي عَـلىَ أمّ جُـنْـدَبِ ....

                             لِـتُقْضَي لُبَانَاتُ الفُؤادِ المُعَذّبِ

يزعم الأصمعي أن مناسبة هذه القصيدة كانت عند حلول الشاعر عَلْقَمَةُ بن عبدة الملقب بـ "عَلْقَمَةُ الفَحَلْ" ضيفا على امرؤ القيس في خيمة زوجته ام جندب في مضارب قبيلة طي وقد كان أمرؤالقيس في شرخ صباه وصدر شبابه كثيرا ما يعترض الشعراء في التجمعات والمناسبات ويعارضهم بشعره كنوع من التحدّي فجاءه عَلْقَمَةُ هذا (العلقمة هي النّبَقَةُ المُرّة) وتحدّاه أن يجاريه في قصيدة يمدح فيها الخيل على أن تكون أم جندب هي الحكم بينهما بوصفها ذات دراية بالشعر وناقدة شهيرة وإن لم تكن شاعرة . فوافق الملك وقال قصيدته المشار إليها أعلاه مفتتحا لها كأغلب عادته بمخاطبة الصحب وطلب التوقّف أو المرور بمضارب المحبوبة أو الوقوف عند آثارها من أطلالٍ ودِمَنِ .
وام جندب يقال ان إسمها هو (أمَيْمَةَ) وأن جندب هذا هو إبن لها من زوج آخر ....
الُّلبانَاتُ : هي الحَاجَاتُ من غير فَـاقـَة ولكن من هِمّة وهي عادة ترتبط بحاجات النفس تجاه المحبوب ومن ثم نراها مثل كلمة ( الوَطَـرْ ) وإن كان من الأفضل للشاعر أو المدث والأديب أن يستخدم مصطلح اللبانات في المقصد الرومانسي ويكون ( الوَطَرْ ) لجانب الإشباع الحِسِّي .... وأتـلو إن شئت قوله وحقّ من قائل : {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ْ} من الآية 37 في سورة الأحزاب.
فكانت السيدة زينب رضي الله عنها تفتخر على سائر النساء بأن الله عز وجل هو الذي تولى تزويجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالكلمتان إذن تستعاران عادة كمصطلح للتعبير على نحو أقوى وابلغ عن الأمنيات والرغبات والحاجات العاطفية والجنسية بمجملها في العلاقة بين الرجل والمراة على أن تكون عن هِمّـة وليس عن فاقة .. والفاقة هي شدة الفقر .. فلا يصلح أن يقول الفرد ذهبت إلى فلان اسأله الطعام فأكرمني وأكلت حتى قضيت لبانتي أو قضيت وطري من الطعام . .. ولكن تقول : حتى شبعت وذهب عني الجوع .
وفي البيت المشار إليه نرى الملك قد قرن اللبانات هنا كما نرى (بالفؤاد المعذب) اختصارا لما يمكن أن نتخيله .. وعادة تقول العرب في الرجل إذا فرغ من علاقة جنسية بينه وبين إمراة (قضى لبانته منها) .....
والملك كدأبه هنا (يخاطب الصحب) أن يَمُرّا به على خيمة زوجته أم جندب ليعيش معها لحظات وحاجات عاطفية متكاملة ( روحِيا ً وحسِّيـا ً ) يطلبها المحب في المحبوب من مؤانسة وملاطفة وعِنَاقٍ وقـُبـَل ومُضاجعة إلخ لخصها الشاعر في (لبانات الفؤاد) .... أما قوله (لتُقْضَى) في عجز البيت فإنما يقصد به الإشارة بطريقة ذكية إلى وجود مشاعر متبادلة بينه وبين زوجته أميمة أم جندب دون أن يورط نفسه صراحة في الحديث بإسمها فـترك الباب مواربا ً... وربما كان أمرؤ القيس بالفعل يشك في حب هذه الزوجة له. ويتجلى ذلك في قوله هذا البيت أدناه من نفس القصيدة:

ألا لَيْتَ شِعْريِ كَيْفَ حَادِثُ وصْلِهَا ....

                     وكَيْفَ تُرَاعِي وُصْلَةَ المُتْغَـيّبِ

ليت شعري: معناها ليتني أدري . الحادث: هو المنكر الذي ليس بمعتاد . والوصل: هو نقيض الهجران .
فهو هناك يتساءل ما إذا كانت قد حفظته خلال غيابه أم أقامت علاقة عاطفية مع شخص آخر ....
ويبدو أن مسألة الزنا خلال فترة تغيب الزوج في عهود الجاهلية كانت منتشرة إلى حد كبير بين البدويات لأسباب تتعلق برقة العاطفة لديهن والحاجة الدائمة إلى ونيس يبدد بؤس الصحراء وفراغها لاسيما وأنه على مدى تراكم التجربة كان هناك من نشا على الاصطياد في الماء العكر فكان يتصيّد النساء اللواتي يتغيب عنهن رجالهن إما لمصلحته هو أو لغيره على سبيل القوادة . وحيث تطرق امرؤ القيس إلى هذه الظاهرة وهؤلاء بقوله في البيت التالي:


أقَامَتْ عَلىَ مَا بَيـْنَـنَـا مِنْ مَـوَدّةٍ ....

              أمَيْمَةُ أمْ صَارَتْ لِقَـوْلِ المُخَبـِّبِ

وقد التفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذه المسألة في عهد خلافته فحدّد الفترة التي يتغيب فيها الجندي المجاهد في سبيل الله بعيدا عن زوجته بأربعة أشهر على أقصى تقدير وذلك الاجتهاد العمري جاء على ضوء فترة العِدّة وهي أربعة أشهر وعشرة ايام كما حددها الشرع الكريم.

وأميمة في الشطر الثاني من البيت هو إسم زوجته "أم جندب" .. فيتساءل هل ظلت أميمة محافظة على وفائها له وللمحبة التي ربطت بينهما أم انها اصغت واستمعت إلى تحريض وخبث معسول كلام المُخَبِّبْ ..والمخَبِّبُ هو المفسد الخادع الذي يفسد الزوجة على زوجها والصديق على صديقه .. والخَبُّ : هو الخدّاع المُفْسِد.
ثم ينفعل أمرؤالقيس أكثر في البيت الذي تلاه فيضعها صراحة في محل الشك والريبة عند قوله:

فَـإنْ تـَنـْأ عَنْهَا حِقْبـَةً لا تـُلاقِهَا ....

            فـَإنـّكَ مِـمَا أحْدَثـَتْ بالمُجَرّبِ

الحِقْبَةُ: فترة زمنية غير محدودة التوقيت فقد تكون يوما أو أسبوع أو شهر أو ألف عام . أحَدَثـَتْ : الضمير هنا عائد إلى "أم جندب"... المجرب : هو الخبير العالم.
أي بما معناه أنك إذا ابتعدت وغبت عنها فترة (لم يحددها الشاعر هنا) فإنك ستصبح لديك خبرة وتجربة بما فعلته من مستجدات في حياتها العاطفية على عكس ما قد يخيل إلى الشخص الغِـرْ عديم الخبرة أو الذي لم يتغيب عنها.
وفي واقع الأمر فإن أم جندب هذه لم تكن على علاقة جيدة بإمريء القيس رغم انها كانت خبيرة بأمور الشعر والنقد وكان ذلك في نهاية الأمر سبب طلاقها منه.
ويقول الأصمعي أن امريء القيس بعد زواجه منها ودخوله بها في خيمتها لم يعجبها تكنيكه الجنسي المكتسب . ولا طبيعته الموروثة على ما يبدو من جده (آكِــلُ المَرَارْ) في ممارسة الجنس مع نسائه فكرهته . ثم أنها بعد ان مرّت فترة من الليل قامت من جانبه وقالت له:
- اصبحت يا خير الفتيان فقم.
(تعني ان الصبح قد حلّ وتطلب منه القيام والخروج لشأنه) .
قيل فنظر امرؤ القيس فراى الوقت لا يزال ليلاً بهيما فاستعجب من قولها فقال لها:
- ما حملك على ما فعلت ؟
فلم تجاوبه وظلت صامته ولكنه ظل يلحّ عليها حتى صارحته برأيها فيه قائلة:
- كرهتك لأنك ثقيل الصدر ، خفيف العجز ، سريع الإراقة ، بطيء الإفاقة.
جاء ذلك النص حسب رواية (الأصْمَعِي) .... لكن أشك في تماسك رواية الأصمعي بسبب أن العلاقة الزوجية استمرت بينهما فترة بعد (ليلة الدخلة) المشار إليها في روايته.
والذي أذهب إليه أنها قالت له هذه الجملة تـعيّره فيها بأسلوبه وطبيعته تلك بعد تطليقه لها ، شأنها في ذلك شأن نساء البدو والقرى والأرياف حتى تاريخنا المعاصر في معايرتهن للطليق كنوع من المكايدة (رغم أن الشّرْع ينهى عن ذلك) . وهو ما ترجحه رواية (الزهري) الذي ذكر أنها قالت له هذه المقالة بعد أن طلقها وحيث جاء في لسان العرب انه بعد ان طلقها قالت له :
- (إِني ما عَلِمْتُكَ إِلاَّ ثَقِيل الصُّدْرة سريع الهِراقَةَ بَطِيء الإِفاقة).
وفي المعنى:
جاء في لسان العرب ان التَّثاقُل هو : التَّباطُؤُ من التَّحامُل في الوطء، يقال: لأَطَأَنَّه وَطْءَ المُتَثاقل. والوطء هو الضغط . والصُّدْرة من الإِنسان ما برز من أَعلى صدْره؛ والإراقة والهراقة هو الإجراء لكل مائع ومنها قولهم (إراقة الدماء) و (أهْـريـقَ دَمُـهُ) .
وسرعة الهراقة (الإراقة) : هي سرعة القذف ... وهي غير محمودة في الرجل . ولكنها محمودة في المرأة لأنها تجعلها تصل إلى قمّة نشوتها سريعا عدة مرات خلال الجماع الواحد في هذه الحالة فيكفيها من الرجل القليل . ومن ثم لا تـَثْـقِل عليه بطلب أكثر من جـِمَاعْ في الليلة الواحدة لاسيما في حالة العلاقة الزوجية الممتدة وحيث يسود الاعتياد والروتين العلاقة مع مضي السنوات.
وعلى أية حال فإن النساء في مسالة الرغبة الجنسية والوصول إلى قمة النشوة لسن متشابهات . فهناك أكثر من طبيعة للمراة . بل ولا تعرف الفتاة نفسها صفاتها ومطالبها الجنسية الذاتية شديدة الخصوصية إلا بعد ليلة الدخلة بفترة عند اعتيادها على الممارسة الجنسية مع زوجها . وتبقى المسالة في النهاية ووفق تقاليد الحياة الاجتماعية والارتباط الزوجي في البيئة العربية مسالة حظ وتوفيق من الله رب العالمين أو كما يقال (بطيخة مقفولة) وكان الله في عون الجميع.
والإفاقة في الأصل هي الاستيقاظ من نوم أو العودة إلى الوعي من بعد فقدانه... والمقصود بالإفاقة هنا هو : عودة الانتصاب ... أي أنها تقول أن عضوه التناسلي برتخي بعد القذف مباشرة ثم لا يعةد فينتصب مرة أخرى إلا بعد فترة طويلة مفتوحة .... سواء أكانت دقائق أو سويعات أو أيام أو شهوراً لدى البعض .... وبالجملة فإنها كانت تصفه بأنه لا يستطيع المواصلة بعد القذف وحيث تكون المرأة عادة لم تصل إلى نشوتها القصوى.... وهذه الحالة يصاب بها الرجل إما لأسباب تتعلق بجيناته الوراثية أو عدم وجود الرغبة والدافع او إدمانه في فترة مراهقته وقبل الزواج على ممارسة العادة السرية أو شرب المخدرات والمسكرات.
وفي وصف أم جندب له بأنه (ثقيل الصدر) فإنها هنا (إن صَدَقـَتْ) بوصفها فقد كانت تنعت إمريء القيس حسب لغتنا ومصطلحاتنا العصرية بأنه فاقد للياقة البدنية . ولأجل ذلك لا يحتمل الحركة الخفيفة وتحرير صدره فوق صدر زوجته فيرتمي به على صدرها ليرتاح هو فيكتم انفاسها ويتعبها هي.
اما قولها (خفيف العَـجُـزُ) فالعَجُـزُ هو المؤخرة (الأرداف) في المرأة ولا تقال في وصف الرجل إلاّ على سبيل التشبيه والصواب هو أن يقال ( إمرأةٌ عَجْزَاءُ ) و ( رَجُلٌ آلٍ ) ومن ثم تسمى مؤخرة الرجل (الألْـيـَـة)....
كذلك يخطيء من يطلق على المؤخرة عموما مسمى ( صُّلْبُ) لأن الصُّلْبُ إنما هو الظهر من أسفل العنق إلى العُصْعُصْ . وتقول العرب (في الصُّلْبُ الدِيّة) بمعنى انه إذا كسر أحدهم لرجل أو لإمراة ظهرها على سبيل الخطأ فـتـلـزمه الـديـّة كاملة عن النفس.
وعلى الرغم من أن ضخامة المؤخرة ليست بمحمودة في الرجل إلا أنها لا تؤثر جوهريا على أدائه الجنسي وليس لها دخل في تحديد مدى رجولته بل هي مجرد مظهر يكون عادة قد ورثه عن امه . وقد كان معاوية بن أبي سفيان على سبيل المثال مشهورا بضخامة الألية التي ورثها عن أمه هند بنت عتبة فأورثها لإبنته (رمْلـة) فكانت محط إعجاب وجنون الشعراء وولعهم وقلق منامهم فقيلت فيها قصائد كثيرة أشهرها قصائد الشاعر (عبد الرحمن بن حسان) والتي كانت تغضب شقيقها يزيد ولكن أبيها معاوية كان يخفف من غضب إبنه ويقول له : صدقوا وما في ذلك من عيب.
وفي حديث أم جندب هنا بالنسبة لإمريء القيس حين تصفها بالخفيفة فإنها لا تعني عدم الضخامة أوْ خِفّةَ الوزن بقدر ما تعني نمط الحركة والتكنيك واستغلال الذكر لجسده الاستغلال الأمثل خاصة عند نقاط التَمَاسْ والإلتصاق الجوهرية الحساسة مع جسد المراة اثناء مضاجعتها لإمتاعها وجلب البهجة والسرور والرضـا إلى نفسها ....
إذن نرى أم جندب هنا وكأنها تصفه بانه في الحالتين يفعل عكس المطلوب فهو يرمي صدره على صدرها مُقِيمَا ً مُرْتكِزا ً فيـثـقلها ويرفع صلبه عائما عن حوضها فلا يلصقه ويضغط به عليها في الأسفل فلا تجني من وراء مضاجعتـه سوى احتباس أنفاسها وضيـق صدرها وفـراغ حوضها وأردافها .
وهذه الطبيعة كما ذكرت آنفا يبدو وكأنها موروثة لديه . فهي نفسها التي جرى بها تعيير جده "الملك حجر (آكِلُ المُرَارِِِ ) بن عمرو بن الحارث" .... عَـيّـرَتـْهُ بها إحدى زوجاته وإسمها "هند بنت عوف بن محلم الشيباني" .... وكانت المناسبة أن أحد ملوك "سليح" وإسمه "عمرو بن الهَبُولَة الغَسّاني" استغل غياب "آكِلُ المِرَارِ" في سفر فأغار على مضاربه فقتل وجرح وغَنِمَ وأسَرَ وسَبَى . وكان فيمن سبا زوجة آكل المرار المشار إليها (وكانت حسناء) ثم هرب بهم جميعا نحو أرضه . فكان في الطريق ينزل فيدخل عليها يضاجعها . ويبدو أنها أعجبت به وبفحولته وأسلوبه ، فقالت له وقد طابت نفسها له كأنها تحذره من زوجها :
- لكأنـِّي برجل أدلم أسود كأنّ مشافره مشافر بعير آكل المرار (تعني مُكشِّراً عن أنيابه) قد أخذ برقبتك ...
وهو ما حدث بالفعل فقد لحق بهم آكل المُرار (وكان فارساً قاسياً صبوراً ) وقتل الملك الغساني واستعاد أمواله والسّبي ولكن العرب سرعان ما ألصقت به لقب (آكِلُ المُرار) ... والمُرارُ شجر مُرٌّ، وهو شجر إِذا أَكلته الإِبل قلَصت عنه مَشافِرُها ، وكالعادة اختلفت العرب في اصل التسمية فذهب البعض إلى القول ان مناسبتها هي أنه كان في نفر من أصحابه في سَفَر فأَصابهم الجوع، فأَمّا هو فأَكل من المُرارِ حتى شبع ونجا، وأَما أَصحابه فلم يستسيغوا ذلك فمات أغلبهم .
ويرى آخرون أن مناسبة التصاق هذا اللقب به إنما لحديث زوجته إلتى سباها الملك عمرو الغساني . لاسيما وأن السياق من وصفها يفيد ذلك . فلو كان ذلك هو لقبه منذ زمن لاكتفت بقولها (آكِلُ المُرار) ولكنها هنا نراها تصفه على نحو كريه وهي تتخيل قدومه مكشِّرا كعادته عن أنـيابـه. مما يدل على أنها إمّا كانت تبغضه في الأصل . أو أنها بغضته بعد ان عاشرت بديلا له أعجبت به هو الملك الغساني فاكتشفت الفرق بينهما ، وحيث كانت المرأة العربية في زمن الجاهلية التي يجري سبيها لا ترى هي أو المجتمع غضاضة في أن ينشيء معها سابيها ما يشاء من علاقات جنسية . أو يبيعها كجارية أو يهبها لمن يشاء ، أو يستنقذها أهلها سواء بالقوة أو الفداء بالمال حسب مكانتها الاجتماعية فهو العرف الذي كان سائداً قبل الإسلام .
ويقال أن زوجها "آكل المرار" بعد أن استنقذها . وهم في طريق العودة دخل بها فأحسّ منها بعد الفراغ تـغيراً واضحا تجاهه ونُفوراً وتأفّـفاً وتـَبـَرّماً منه ، كأنـّها تقارنه بغيره . فاستفسر منها فلم تنكر مضاجعة الملك الغساني لها وإعجابها به وبأسلوبه وخفة صدره وثقل صلبه وبطئه في الإراقة وسرعة الإفاقة .... فأشهد عليها أهلها واعتبروها في هذه الحالة خائنة زانية . فكان عقابها أن أمر آكل المرار ببعيرين ضخمين فأعطش أحدهما وأجاع الاخر ثم ربط ساقيها بالبعيرين في اتجاهين مختلفين . وجعل أمام العطشان حوض ماء وأمام الجائع عُشْب . فاخذ كل من البعيرين يشدّها في اتجاه مغاير حتى تمزقت . وفي ذلك يقول آكل المرار الملك حجر بن عمرو بن الحارث أبيات في ذم النساء :


لمن النـار أوقـدت بحفيـر      

        لم ينم غير مُصْطَـلٍ مَقْـرُورُ ²

إنّ مَنْ يأمن النساء بشىء             

  بعـد هنـد لجاهل مَغْـرُورُ

كلُّ أنثى وإنْ بـَدا لـكَ مِنْـهَا          

         آيةُ الحُبُّ حُبـُّها خَيْـتَـعُـورُ ³

 

(¹) الحَفِيرْ : البئـر المُوسّعَة . وفي غرب السودان يطلق مسمى الحفير على كل منخفض واسع الأرجاء تتجمع فيه مياه الأمطار .


(²) مُصْطَلِ : يقصد الباحث عن الدفأ . والمَقْرور : البَرْدَان.


(³)خَيْـتَـعُـور : لايدوم على حال واحدة ويضمحل كالسّراب يعني
بلغة العصر (مُتقلّبْ)

 

(نهاية الحلقة الخامسة)

المراجع:
مشار إليها في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات