الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [7/11]
شرارة الفوضى الخلاقة.. الثورة التونسية
لا يستطيع حر في هذا الكون، يتمتع بحد أدنى من الكرامة والإنسانية والشرف، ويسعى إلى العيش الكريم، لا يستطيع الخضوع لتسلط حاكم ظالم أو فاسد أو مستبد، يصادر الحريات ويهين الكرامات، فيقمع شعبه بنظام بوليسي، وينهب خيرات بلاده، ويعمل على تأبيد مدة بقائه في منصبه، ويستخدم صلاحياته المطلقة للبقاء في السلطة أو في التحضير لتوريث الحكم من بعده الى ذريته.
هذه المعاناة وغيرها من العوامل المؤثرة التي سنتطرق اليها في السطور التالية، اجتمعت لتفجّر تظاهرات شعبية في دول عربية وإسلامية كدول شمال إفريقيا مطلع العام 2011، وما لبثت أن تحولّت الى ثورات شعبية مليونية معدية وزاحفة، نجحت في إسقاط بعض الأنظمة المستبدة فيما زعزعت أركان أنظمة أخرى لطالما اكتوت شعوبها بنارها، كاتبة بذلك تاريخًا جديدًا لبلدانها وشعوبها، وفاتحة مرحلة جديدة، كلها أمل أن تكون خيرًا من سابقتها.
في هذا المقال لا نناقش حق الشعوب في التخلص من نير الاستعباد السياسي ومن كبت الحريات، أو تخلصها من الفساد المالي والاستئثار بمقدرات الشعب والدولة، والحق في التنعم بالشفافية والديموقراطية، فهذه حقوق لا جدال فيها لأنها مقدّسة ولأننا نعلم ماهية المشاكل الداخلية للسياسات العربية تجاه مواطنيها والتمييز الذي يرافقها... لكن، بعيدًا عن هذه العناوين المحقة والبرّاقة في آن معًا، وعلى هامش تلك الأجواء الحماسية والاحتفالية التي تعيشها شعوب المنطقة وتحاول بعض وسائل الإعلام الترويج لها والتشجيع عليها من خلال إدراجها تلك الثورات تحت عنوان "الربيع العربي"، ثمة سؤال محيّر يطرح نفسه بقوة: هل اندلعت هذه الثورات ذات القضايا الإنسانية المحقة والعادلة، هكذا بشكل عفوي، مكتفية بمحرّك الشعور بالظلم والضيم والقهر، أم ثمة محرّك إضافي دفع وعمل على تحضير أرضية مواتية لنموّها، وتحكَّم بتاريخ انطلاقها، وبالتالي شارك في اندلاعها وواكبها حتى نجاحها؟ وإذا وجد ذلك المحرّك، هل يقف مراده عند إسقاط الطغاة وإحلال الديموقراطية وإطلاق الحريات كما تريد الشعوب المنتفضة، أم المطلوب أبعد من ذلك بكثير؟
أولا: ثورات عفوية أم مشروع مبرمج؟ بعض المحللين السياسيين يحاول تبسيط وتسطيح ما يشهده العالم العربي اليوم من ثورات تطالب بإسقاط أنظمة تهاوت ولا تزال تتهاوى الواحدة تلو الأخرى في فترة لا تتجاوز الشهرين أو الثلاثة أشهر من تاريخ اندلاع الثورة التونسية بما يشبه أحجار "الدومينو"، فيقولون: إن ما يحصل هو تطوّر طبيعي لا محرّك خارجيًا له، وإنما يقتصر على ثورات أوقدها شباب أرهقتهم البطالة وخنقتهم سياسة قمع الحريات، وبعد 20 أو 30 أو 40 سنة من تسلط أنظمتهم، اكتشف هؤلاء الشباب أنهم خريجون عاطلون عن العمل، وأن حركة الانتقال الى نظام السوق استفاد منها فقط آلاف أو مئات في بلادهم، أي فئة قليلة جدًا ممثلة بالعائلة الحاكمة وحاشيتها، التي أثريت ثراء فاحشًا ونهبت خيرات البلاد!
قد يكون هذا التحليل التبسيطي منطبقًا الى حد ما على بعض البلدان أو أحدها ممن شهد تلك الثورات كـ"تونس" على وجه الحصر والتحديد، ولكنه بالتأكيد ليس كافيًا أو لا ينطبق سوى جزئيًا على بلدان أخرى شهدت تظاهرات وثورات سواء في شمال إفريقيا أو غيرها، ولعل ثورة مصر (25 يناير) أوضح نموذج يمكن أن نمثّل به على أن ما يحصل ليس بتلك البساطة والعفوية؛ وإلا، فلماذا اليوم؟! وماذا يعني تخلي أميركا وإسرائيل عن أهم حليف لهما في المنطقة العربية بهذه البساطة، ومنذ الأيام الأولى لانطلاقة التحركات الشعبية؟! لا بل كيف يمكن لأميركا أن تخاطر بدعمها الثورة المصرية بضغوط دولية صريحة مارستها على النظام المستهدف، ولا سيما أننا نتحدث عن ثورة تجري في بلد مكون من 85 مليون نسمة، تربطه بإسرائيل معاهدة سلام واتفاقيات اقتصادية متعلقة بمصادر الطاقة، فضلا عن حدود طويلة شاسعة واسعة، كان من الممكن جدًا أن يهتز أمنها مستغلا الاضطراب والاستنفار الأمني الذي واكب الثورة، ومعرّضًا الأمن القومي الإسرائيلي للخطر؟! وهل يمكن لأميركا أن تضحي بمصالحها ومصالح إسرائيل لصالح إحلال الديموقراطية في مصر؟!
لا نريد ولا نسمح لأنفسنا، أن نطعن في قدرات ووطنية هذه الشعوب المنتفضة على نفسها وعلى حكامها، والتي استطاعت أن تثور وأن تسقط أنظمة لطالما عانت من تسلطها، بل نهنّئ هذه الشعوب على استعادتها حريتها، ولكننا دائمًا يجب أن ندرس الحدث من كافة جوانبه ونتعرف إلى خلفياته وأهدافه وأبعاده، لكي نستطيع أن نحكم عليه بموضوعية غير متأثرة بالعواطف الجياشة، ونتفادى الوقوع في النظرة السطحية والتبسيطية التي يعمد البعض الى تعميمها عن حسن أو سوء نية. كما يجب أن لا يفوت جميع الثوار، أن معيار نجاح الثورة ليس إسقاط الحاكم الظالم وحسب، وإنما يضاف إليها أيضًا طبيعة المرحلة الجديدة التي ستنتقل إليها البلاد، وهذا تحد كبير يُِؤمل من تلك الشعوب الحرة أن تتنبّه له وتنجح في تخطيه موصلة بلادها الى بر الأمان.
نستفيض في تلك المقدمات لا لتثبيط همم شعوب المنطقة الثائرة على ديكتاتورية حكامها، والتوّاقة الى الحرية والديموقراطية، بل لكي ندعو الثوار أن يتنبهوا الى خطر عظيم قد يحول دون نجاح ثورتهم، وهو أن طريق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" يمكن أن تمر من خلال "الفوضى الخلاقة" في بعض البلدان! أو بعبارة أدق، يمكن التوصل الى ذلك المشروع من خلال إسقاط أنظمة معيّنة مع عدم وجود البديل الجاهز للتطبيق، في حين تكون المصلحة الوطنية والعربية وحتى الإسلامية في ذلك البلد، هي في تغيير سلوك الأنظمة مع شعوبها لا بإسقاطها تمامًا، وذلك مؤقتًا ريثما يجهز البديل المناسب للعبور الآمن الى تطلعات الشعوب الحرة، وهو ما ينطبق على مصر وليبيا واليمن، وما سنتوسع في تبيانه لدى حديثنا لاحقًا عن تلك الثورات.
أما الثورتان البحرينية والسورية، فلا ينسحب عليهما الكلام المتقدم، ذلك أن الأولى لا تنطلق من ضائقة اقتصادية يعاني منها المتظاهرون المرفهون معيشيًا، بل هي ثورة تتخذ طابعًا طائفيًا مذهبيًا بامتياز لا شعبيًا ووطنيًا كسابقاتها، فهي تصبو الى تصدير "الثورة الخمينية" واستحداث محافظة إيرانية جديدة في الخليج تابعة لولاية الفقيه، ذلك المشروع المدعوم من السياسة الصهيو-أميركية. وقد ظهر الموقف الأميركي على حقيقته بعدما اتهامت دول الخليج إيران بالوقوف وراء تحركات شيعتها في البحرين وتدخل "درع الجزيرة" لإنقاذ البحرين من الوقوع في القبضة الإيرانية، فقد أبدت وزارة الخارجية الأميركية اعتقادها بأن الدور الإيراني في البحرين كان محدوداً للغاية، وأن الاحتجاجات كانت نتاج إحباط السكان الشيعة المطالبين بدور اقتصادي وسياسي أكبر، كما اعتبرت وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون" في 16/3/2011 أن دول الخليج سلكت "الطريق الخطأ" بتدخل قواتها في البحرين للمساعدة على احتواء حركة الاحتجاج.
وأما عدم خضوع الثورة السورية الى نظرية "تغيير السلوك لا الإسقاط" التي كنا نفضل اعتمادها مع في مصر وليبيا واليمن، فإنما يعود الى كونها ثورة تغرّد وتحلق خارج سرب بقية الثورات، لأنها تسير في عكس تيار السياسة الصهيو-أميركية، فهي تشق طريقها نحو الحرية والكرامة وحيدة بلا دعم خارجي وذلك في وجه نظام ينتمي الى محور الشر الإيراني، وهو لا يزال يحظى بالدعم الصهيوني، كما ثمة انقسام في الإدارة الأميركية حول خيار التمسك بالطاغية السوري العلوي "بشار الأسد" بين مؤيد لإسقاطه ومعارض.
ففي حين أوصى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيمين نتنياهو" في 26/4/2011 أعضاء حكومته بأن يلزموا الصمت حيال سوريا، كانت الصحافة الصهيونية تبدي تمسكها بـ"الأسد"، وتكشف مخاوف الكيان الغاصب من زعزعة استقرار النظام السوري أو إسقاطه، فقد نشرت صحيفة "معاريف" في 25/4/2011 مقالا بعنوان: "هل سقوط الأسد أمر جيد أو سيئ بالنسبة لنا؟" وجاء في خلاصته: "على رغم أن الأزمة التي يعانيها النظام السوري قد تخدم كلاً من واشنطن والقدس، لكن سقوط هذا النظام قد يلحق الضرر بهما. فالسيطرة الصارمة لحزب البعث على سوريا جعلت هذا النظام أكثر الأنظمة استقرارًا في الشرق الأوسط، والحدود بين سوريا وإسرائيل هي الأكثر هدوءًا، ويبقى الأسد شريكًا صعبًا للسلام، فمن يدري من سيأتي من بعده؟".
أما الولايات المتحدة التي ظهرت بطلة في الدفاع عن الديموقراطية في تونس ومصر وفي ليبيا في مرحلة أولى، فقد أبدت تحفظها عما يجري في سوريا الى درجة وصفت معها "كلينتون" "الأسد " بـ"الإصلاحي"! وذلك في 28/3/2011، يوم اعتبرت أن "السيناريو الليبي لن يتكرر في سوريا لأن الأسد إصلاحي"، قبل أن تتراجع وتسجل مواقف فيها شيء من التشدد تجاه النظام السوري بعدما تلقت سيلا من الانتقادات من أفرقاء داخل الإدارة الأميركية، ومع ذلك بقيت الإجراءات والإدانات الأميركية للقمع في سوريا بلا تأثير في النظام السوري، مخلفة إحساساً بعدم المساواة بين الشعب الليبي الذي قرّر المجتمع الدولي الدفاع عنه فورما شعر أن "القذافي" يتحضر لعملية إبادة في "بنغازي"، والشعب السوري الذي تمّ التخلي عنه رغم سقوط ما يزيد على 550 شهيدًا (حتى الساعة) بآلة القتل البعثية العلوية التي يديرها الإرهابيان "بشار وماهر الأسد"!
وفي هذا السياق، حض ثلاثة أعضاء متشددين في مجلس الشيوخ الأميركي الرئيس "باراك أوباما" في 28/4/2011 على مطالبة الأسد بالتنحي عن منصبه، كما طالب الزعيم الليبي العقيد "معمر القذافي" من قبل. ورأى "جون ماكين" و"ليندزي غراهام" الجمهوريان، و"جوزف ليبرمان" المستقل في بيان مشترك أن "القمع العنيف لتظاهرات الاحتجاج في سوريا والذي يشرف عليه الأسد قد وصل الى نقطة حاسمة (...)، ونحن نحض الرئيس أوباما على أن يقول بشكل لا لبس فيه -كما فعل في حال القذافي و(الرئيس المصري) مبارك- إن الوقت قد حان للأسد كي يرحل".
هذا مع عدم إغفال إمكانية أن تؤدي التطورات السورية إلى خيار التقسيم، وإنشاء دويلة طائفية علوية في "جبال النصيريين"، وأخرى كردية في شمال شرق البلاد تنضم الى دويلة شمال العراق وجنوب تركيا، مقابل قيام دولة سنية على ما تبقى من سوريا، وهو خطر حري بالثوار السوريين أن يحبطوه ويحولوا دون تحققه.
وبالعودة الى إيضاح كيف يمكن أن تكون الديكتاتورية المرفوضة من الأحرار في العالم العربي عائقًا أمام التقسيم، يمكن القول إن بعض الحكام رغم استبدادهم (وأحيانًا بسببه) كانوا حريصين على وحدة بلادهم (وهي ربما النقطة الإيجابية الوحيدة في سجلهم)، وقد تمكّنوا من السيطرة على كامل أطياف شعوبهم متغلبين على انقسامات واختلافات وحساسيات تلك الشعوب فيما بينها، وذلك في بلد مقموع نعم، لكن موحد أيضًا.
أما الديموقراطية التي تنشدها الشعوب ويراد الانتقال اليها بشكل فوري وربما فوضوي من خلال الإطاحة ببعض تلك الأنظمة لا بواسطة تغيير سلوكها، فقد تكون أو تُتخَذ في بعض البلدان سبيلاً الى التقسيم، ولا سيما إذا أعطيت الحرية لأحزاب وجمعيات (كانت محظورة أو مضيقًا عليها من قبل الأنظمة القمعية) تدعو الى التقسيم والانفصال وتتوسّل لتحقيق مرادها إثارة العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، وعُمِل على تغذيتها من قبل أصحاب ذلك المشروع التقسيمي الصهيو-أميركي، وفقًا لخطة "الفوضى الخلاقة" أو "البناءة" الرامية الى فرض الديموقراطية على الطريقة الأميركية، والتي ذكرَتها "كونداليزا رايس" مرارًا يوم كانت وزيرة للخارجية الأميركية.
ولذلك، ربما لجأ أصحاب المشروع التفتيتي بعد الإطاحة بالحاكم الضامن للوحدة والمستبد، ربما لجأوا الى النفخ في نار الفتنة من خلال افتعال أعمال إرهابية وتخريبية بين المجموعات المراد زرع الشقاق فيما بينها، بواسطة جماعات تسمي نفسها "إسلامية" كـ "تنظيم القاعدة" (وسواه من المجموعات المشبوهة والمأجورة أو المخدوعة، التي بات يُتفنن في اختيار تسمياتها)، تمهيدًا لخلق أجواء مواتية لمطالبة كل مجموعة منها أو إحداها بالانفصال والاستقلال عن أخواتها، وعندئذ تنظم بضغوط دولية استفتاءات شعبية تحت شعار "حق تقرير المصير"، قد تفي بالغرض التقسيمي المطلوب، ولا سيما إذا اقتصر إجراء تلك الاستفتاءات على المناطق أو بين المجموعات المطالبة بالانفصال دون إشراك بقية المكونات الشعبية للدولة المعنية بالأمر، وهو ما يمكن تسميته بـ"الاستفتاء على الطريقة الأميركية" الذي طبّق في السودان، تلك الدولة التي أصبحت دولتين، والتي سبق تفصيل وضعها في مقال سابق.
ومن هذا المنطلق، ثمة مؤشرات قوية تدل على أن ما يجرى على الساحة العربية الآن، هو فصل من خطة "مشروع الشرق الأوسط الجديد" الذي أعلنت عنه أميركا عقب اجتياحها العراق وغلفته بشعارات "تحقيق الديموقراطية والعدل والحرية"، لكن هذه المرة باعتماد الثورات الجماهيرية الممنهجة والمدروسة بعناية (تخطيطًا وليس دائمًا تنفيذًا)، بدلا من التكلفة الباهظة عسكريًا وبشريًا وماليًا وحتى من حيث السمعة، التي كان سيتطلبها الوصول الى الغاية نفسها من خلال الدبابات والطائرات الحربية التي استعملت في أفغانستان والعراق لفرض ذلك المشروع التفتيتي نفسه. ففي مقارنة سريعة بين هذين النمطين في التغيير، يتبيّن لنا أن حصيلة ثورتي مصر وتونس لم يتجاوز ثمنها من الضحايا ألف شهيد، بينما وصل عدد ضحايا الغزو الأميركي للعراق إلى 665 ألف عراقي على أقل تقدير، فضلا عن نحو خمسة آلاف قتيل في الجيش الأميركي منذ بدء الحرب في آذار 2003.
وهذا مع العلم بأنه: "إذا كان استخدام الحرب في العراق هو وسيلة التغيير من أعلى، فإن مشروع "الإصلاح" الأميركي المطروح هو بمثابة وسيلة لتغيير النُظم من أسفل، وهي الطريقة نفسها التي اتّبعت لزلزلة النظام "السوفياتي" السابق، فعندما حاول "غورباتشوف" إصلاحه أدى ذلك الى انهياره وتفككه؛ فعملية الإصلاح إن لم يتم إدارتها بجدية، فقد تؤدي إلى حالة انهيار وفوضى"، كما أورد الأستاذ "نعيم الأشهب" في كتابه "مشروع الشرق أعلى مراحل التبعية".
وحتى بعدما تساقطت الأنظمة في أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية على وقع المطالبة بالحرية والديموقراطية، لم تظهر نتيجة تلك "الفوضى الخلاقة" هناك الى الآن بعد مرور 20 عاما! وحسبنا أن نتأمل في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دول مثل بولونيا وبلغاريا وسلوفاكيا وتشيكيا والمجر...لإدراك ذلك، كما تكفي معاينة حجم التزوير والفساد لإدراك حجم الخيبة عند الذين توهّموا في تلك الدول وفي ذلك الحين أن الانتقال من الديكتاتورية والقمع الى الديموقراطية والبحبوحة مجرد رحلة ممتعة. ومن هنا مصدر القلق ومكمن الخطورة فيما نشهده في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام منذ مطلع العام 2011.
فأنْ تشتعل ثورة شبابية في "تونس" ثم تلحقها أخرى في مصر، بالسيناريو نفسه تقريبًا وبالنتائج الأولية ذاتها، وأن تتلو ذلك ثورات لا تزال مندلعة في عدة بلدان مثل ليبيا واليمن... بعد تشجيع بقية الشعوب العربية ذات الأنظمة القمعية على الثورة الجماهيرية السلمية والفوضوية أحيانًا كثيرة في وجه الطغاة، ثم أن تخرج في أثناء تلك الأحداث والمواجهات -التي انحدرت أحيانًا الى الحرب الأهلية كما في ليبيا- تصريحات "البيت الابيض" "بضبط النفس" أولاً وعدم التعرض للمتظاهرين ثانيًا، فتستمر الاحتجاجات حاصدة قتلى وجرحى ودمارًا وخرابًا، لتنتهي الثورة وتصل الى خواتيمها عندما تنضج الأمور بالضربة القاضية، مع رمي أميركا يمين الطلاق بالثلاثة على الحاكم المستهدف والمغضوب عليه من خلال مخاطبته بكلمة "ارحل" من الرئيس "أوباما"... كل ذلك لا يمكن وصفه بالعمل العفوي والشعبي البحت.
صحيح أن هناك أسبابًا عدّة لاندلاع هذه الثورات المفاجئة، من بينها أسباب نضجت بفعل الإجحاف الاقتصادي، وتوسّعت كردّ فعل قوي على أساليب القمع ومصادرة الحريات، لتصل إلى ذروتها بفعل التمييز الطائفي أو القبلي أو الطبقي في كل دولة. ومعروف أنّ فساد السلطة وزبانيتها قد نهشا مصر وتونس لعقود طوال، رغم افتقار هذين البلدين الى ثروات نفطية، على غرار ليبيا ودول الخليج، كما أنّ الاقتصاد هو من دفع أبناء تونس ومصر الى الشارع لوقف مصادرة ثرواتهم ورغيف خبزهم من حيتان السلطة والمال والاستخبارات...إلا أن الدور الأساس في إشعال فتيل تلك الثورات كان لما عُرف بقضية وثائق "ويكيليكس"، وهو موقع إلكتروني على شبكة الانترنت سُرّبت إليه بطريقة مشبوهة نحو 250 ألف وثيقة من وثائق وزارة الخارجية الأميركية، عبارة عن رسائل وتقارير كان يبعث بها سفراء وموظفون كبار أميركيون الى بلادهم ويتحدثون فيها عن لقاءات واجتماعات جمعتهم الى مسؤولين سياسيين وأمنيين في البلدان التي يتواجدون فيها، وقد شكلت مضامين تلك الرسائل بعد نشرها تباعًا على الموقع الإلكتروني وفي الصحف إرهاصات الثورات الحالية في الوطن العربي.
فقد استفزّت الفضائح التي حوتها بعض تلك الوثائق حول آليات إدارة الحكم في أكثر من دولة، مشاعر الجماهير التي بات طموحها ليس أقل من اعتماد الشفافية في الأداء السياسي لإدارة الحكم، كما أسهم في كسر هيبة الأنظمة في نفوس شعوبها وشجعها على التحرك ما تضمنته تلك الوثائق حول استياء أميركا من بعض الحكام ممن كانت هي علة وجودهم وسبب استمراريتهم، وسعيها منذ سنوات لمحاولة تغيير سلوكهم والتفكير في استبدالهم، الأمر الذي اعتبرته الشعوب ضوءًا أخضر للانقضاض على أولئك المغضوب عليهم وإحداث التغيير.
ولعل الشكوك التي تراودنا حول مدى عفوية الثورات العربية وما إذا كانت بدأت بفعل شعبي بحت، أم أنها تندرج في خانة الثورات المبرمجة التي تكون مطية للدول الكبرى من أجل وضع أقدامها في الأماكن الخصبة والغنية بالثروات أو من أجل تحقيق مشاريع معينة... والتي تعتبر شكوكًا مبررة من وجهة نظرنا استنادًا الى ما سبق بيانه، تقارب مرحلة الظن القوي وربما اليقين، عندما نستمع الى ما صرّح به مؤسس موقع "ويكيليكس" على شبكة الانترنت "جوليان أسانج"، حيث رأى في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية في 7/4/2011 أن: "تسريب وثائق السفارات الأميركية في عواصم عدة كان بمثابة وقود أشعل الثورات العربية"، مشيرًا إلى أنه "في تونس ومصر كانت جميع العناصر لصنع الثورة موجودة". ويقول "أسانج": "بدل تمضية الوقت في حرب ندافع فيها عن سمعتنا الحسنة، قررنا إشعال ثورة في الشرق الأوسط. في دول مثل تونس ومصر، كانت جميع العناصر موجودة، ومساهمتنا كانت بتجفيف الأشجار تمهيدًا لإضرام النار في الموقدة". وأضاف: "لدينا ستة آلاف وثيقة سرية تتعلق بإسرائيل نعتزم نشرها قريبًا، بعضها يفضح التعاون الاستخباري بين إسرائيل ودول عربية".
وبشأن تأثير "ويكيليكس" على الثورات العربية قال "أسانج": "تحدثنا مع عدد كبير من الأشخاص الذين شاركوا في الثورات الأخيرة أو غطوها إعلاميًا، وبالإمكان القول إن محور الزمن سار كالتالي: في 29 تشرين الثاني/نوفمبر2010 بدأ ويكيليكس في نشر وثائق وزارة الخارجية الأميركية مع شركاء من وسائل الإعلام وبينهم الصحيفة اللبنانية "الأخبار" وصحيفة مصرية"، وأضاف أن: "الأخبار نشرت مواد وصلت من دول شمال أفريقيا شملت تونس والسعودية ولبنان، وفي رد فعل على ذلك تمت مهاجمة موقع الصحيفة الإلكتروني بوحشية، والحكومة التونسية منعت مشاهدته في تونس وكذلك منعت ويكيليكس(...)، إن رد الفعل على مهاجمة موقع "الأخبار" كان قيام قراصنة كمبيوتر مؤيدين لـ"ويكيليكس" بتوجيه كل من حاول دخول الموقع الإلكتروني للحكومة التونسية إلى موقع ويكيليكس".
تلك كانت محاولة متواضعة لاستكشاف الظروف المحيطة بالواقع الذي نعيشه اليوم في العالم العربي من المحيط الى الخليج، والذي يندرج بالتأكيد في خانة "الفوضى الخلاقة" التي تحدّثت عنها وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" طويلا في عهد الرئيس "جورج بوش" الابن. لا نقول إن هذه الثورات هي من صنع الخارج من ألفها الى يائها أو إنها عفوية وشعبية بامتياز، بل هي مزيج من الاثنين معًا، لأن أرضيتها كانت موجودة وإن كان التمهيد لها وتوفير عناصر إشعالها خارجيًا وأحاطت بها الرعاية والعناية الأميركية حتى تمكنها من اسقاط حاكمها بعد لفظ الرئيس "أوباما" كلمة الطلاق في وجهه "ارحل".
وحتى الآن ليس واضحًا ما ستخلقه هذه الفوضى، فالتقاء مصلحة الثوار والمصلحة الأميركية في إسقاط حاكم ما لا يعني بالضرورة أن المرحلة التالية ستسير وفقًا لأهداف السياسة الصهيو-أميركية أو وفقًا لتطلعات وطموحات الثوار، وهو أمر يمكن أن لا يتضح قبل مرور وقت طويل، لكن مع ذلك من حقنا محاولة استشراف المستقبل الذي ينتظر المنطقة استنادًا الى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" وسواه من التصورات المطروحة.
فهل سنشهد في الدول العربية تفتّح ربيع الحرية والديموقراطية فعلا مع العلم أن ذلك التطور كلّف شعوبًا أخرى أجيالا من الاجتهاد والتضحية وتنمية الثقافة الديموقراطية في المجتمعات؟ أم إننا سنشد التقسيم؟ وبعبارة أخرى: هل ستخلق دوامة "الفوضى الخلاقة" في النهاية ما يحقق الأحلام او ما يحمل الصدمة ويخيّب الآمال؟!
إن ما حصل من مفاجآت في الدول العربية يجعلنا نصدق أن كل شيء محتمل حدوثه، فالرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" الذي حكم تونس بقبضة من حديد سقط خلال 3 اسابيع بعد 23 سنة من الحكم. وكان ما حصل في تونس أفضل حركات التغيير في المنطقة، لكن آخر الطريق لم يظهر بعد، ربما لأن الذين هتفوا عن حق: "الشعب يريد إسقاط النظام" لم يحملوا معهم بديلا متفقا عليه، في غياب الأحزاب أو قوى المعارضة المنظمة، التي كان النظام البائد يسحقها.
أما في مصر، فالرئيس المصري "حسني مبارك" الذي حكم 31 سنة مصر بقبضة من حديد، بات اليوم وولديه جمال وعلاء في السجن على ذمة التحقيق في مصادر ثرواتهم وفيمن أصدر الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين أيام الثورة، فمن كان يصدق أنه قد يسمع خبرًا عن حبس الرئيس المصري وولديه ومصادرة أموالهم؟! ومن كان يتخيّل أن تعبر بارجتان حربيتان إيرانيتان "قناة السويس" بعد 32 عامًا من المنع ومن الخلافات المصرية-الإيرانية؟! ومن كان يظن أن المساعي بدأت تنشط لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران في أعقاب سقوط الرئيس المصري "حسني مبارك"، لأول مرة منذ 30 عاما؟!
لكن، مع ذلك، آخر الطريق في مصر لم يتضح بعد وإن برزت بعض معالمه مع موجة العنف الطائفي بين المسلمين والأقباط المنذرة بالتقسيم، ومع ذبول زهور الثورة بعدما تبيّن أن الحكم في مصر والثورة أيضًا سيجيّران لصالح "الإخوان المسلمين" وسيُخطفان من قبل حلفاء إيران الحميمين، إذ أثبتت مجريات الأحداث مع مرور الأيام أن "حركة الإخوان المسلمين" ستكون ركيزة أساسية للوضع السياسي المصري، فضلا عن ملاحظة نوع من التفاهم العميق -إن لم يكن التحالف- بين الحركة والمؤسسة العسكرية -المدعومة أميركيًا بقوة- في الضبط التدرجي لمرحلة ما بعد تنحي الرئيس "حسني مبارك".
وهذا استنتاج ظهر بوضوح بعد الاستفتاء على تعديل ثمان مواد من الدستور الذي دعى إليه "المجلس العسكري" في خطوة وصفها البعض بالمتسرعة نظرًا إلى خلو الساحة المصرية من أحزاب منظمة باستثناء "الإخوان المسلمين"، ما جعل نتيجة الاستفتاء تحول دون إدخال كثير من روح الديموقراطية الى النظام خصوصًا مع بقاء الرئيس حاكمًا مطلقًا، فقد أقفلت صناديق الاقتراع على نسبة 77% لصالح عدم التعديل، الأمر الذي عمل على تحقيقه "الإخوان الإيرانيون" بقوة، مستغلين أحيانًا وفي بعض قرى "الصعيد" خطاب التحريض الطائفي. وربما علينا الانتظار الى موعد إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية لكي نعرف مصير أحلام شباب "ميدان التحرير".
وننتقل الى ليبيا حيث 42 سنة من حكم العقيد "معمر القذافي" وأيضا بقبضة حديدية، فإذا بالثوار على مشارف قصره يحاصرونه وإذ به مهدد بالقتل بين لحظة وأخرى، ثم لا يلبث المشهد الليبي أن يتحول الى حرب أهلية تتدخل في مجرياتها قوات "حلف شمال الأطلسي" لمساندة الثوار، ومع ذلك ينقلب المشهد رأسًا على عقب فيتابع "القذافي" تقدمه العسكري متغلبًا على مقاومة الثوار وقوى حلف الـ"ناتو" بشكل مدهش ومثير للعجب، فيما ينكفئ ويتراجع أحيانًا أخرى على وقع ضربات الحلف نفسه! الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل هدف الضربات الجوية إيجاد نوع من توازن القوى يؤدي في نهاية المطاف الى رحيل "القذافي" وأبنائه؟ أم إن المطلوب استمرار النزاع بين شرق ليبيا بزعامة "بنغازي" وغربها بزعامة "طرابلس" وانخراط القبائل الليبية في هذا الصراع وتلك الحرب الأهلية؟! أم إن أميركا وحلفاءها يتريثون في القضاء على نظام "القذافي" عسكريًا في انتظار توصولهم الى نتائج "مرضية" في المفاوضات التي يجرونها مع الثوار حول مستقبل ليبيا سياسيًا ونفطيًا على وجه التحديد؟!
في مواجهة كل هذه الأسئلة يكبر خطر الغرق، ويبدو أن السيناريو المرجح هو تقسيم ليبيا الى دولتين كخطوة أولى، بحيث يكون الجزء الشرقي تحت سيطرة الثوار وتحت مظلة "حلف شمال الأطلسي"، والجزء الغربي خاضعًا لسيطرة "القذافي". وحتى بعد رحيل "القذافي" يبدو مستقبل ليبيا غامضًا تمامًا ومن غير الواضح ما ستكون عليه الدولة في تلك المرحلة بعد مرور أربعة عقود من الحكم الديكتاتوري الذي أضعف الحياة السياسية وقضى على الحريات داخل المجتمع المدني. أضف أن صمود "القذافي" مدة تزيد على الشهر في مواجهة ضربات "حلف شمال الأطلسي" يشير إلى أن القتال الدائر حالياً بين المطالبين بالديموقراطية والنظام الاستبدادي يخفي في طياته نزاعًا قبليًا شرسًا. ومع وجود هذا الكم من السلاح لدى الطرفين، سيكون الاقتتال القبلي أكثر عنفًا.
لذا ثمة أسباب كثيرة تدفعنا الى التخوف من تقسيم ليبيا الى عدة دويلات في الخطوة الثانية، إذ من المرجح أن تنشأ الخلافات على الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها القبائل الليبية في الحياة السياسية المستقبلية، ولا يكون المخرج منها إلا بطرح التقسيم.
وأما في سوريا فالتظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس "بشار الأسد" تجري في غير مصلحة وأهواء الكيان الصهيوني الغاصب، الأمر الذي يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات.
والسلسلة لا تتوقف هنا، ففي البحرين حيث الأطماع الإيرانية في تصدير "الثورة الخمينية" وابتلاع ذلك البلد الخليجي بواسطة تأجيج العصبيات والنعرات الطائفة السنية-الشيعية، استدعت خطورة الأوضاع تدخّل وحدات "درع الجزيرة" للحيلولة دون قيام "جمهورية ولاية الفقيه" في البحرين على النمط الايراني، الأمر الذي استفز غضب طهران فقابلته بشن حملة قوية ضد "المنامة" و"المملكة العربية السعودية" بمؤازرة من شيعة العراق ولبنان.
وفي اليمن، حيث سارع زعماء دول "مجلس التعاون الخليجي" الى الاتفاق على ضرورة دعم السعودية في جهودها الرامية الى إنهاء أزمة اليمن بطريقة تحصّنها ضد التوسع الإقليمي الذي تنشده طهران من وراء دعم أنصارها "الحوثيين" وتنظيم "القاعدة". ومكمن الخطر في الحوادث التي تشهدها اليمن فضلا عن احتمال تقسيمها الى دولتين أو ثلاث، هو أن الذي يسيطر على خطوط الملاحة في مضيق "باب المندب" يمكنه التحكم بأكثر من أربعين في المئة من النفط المنقول الى الدول الصناعية. أما في حال انشطار اليمن الى يمنين شمالي وجنوبي، فان نموذجًا آخر للسودان سيكمل تفكيك الدول العربية الذي ظهرت بوادره في العراق المثلث الضلع، وليبيا المرشحة لفصل "بنغازي" عن "طرابلس".
والبقية تأتي في الجزائر وسلطنة عمان والأردن والكويت وغيرها، كلها بلدان تشهد حوادث منها الخطرة ومنها الأقل خطورة، تصب في تعزيز المخاوف المتزايدة من الحروب الأهلية ومن رياح التقسيم التي قد تنحسر عنها عاصفة "الفوضى الخلاقة" التي تجتاح المنطقة محمّلة بالمشاريع الصهيو-أميركية المعدة سلفًا بآلياتها الإرهابية وأدواتها الإيرانية الفتنوية والتقسيمية الجاهزة للاستخدام، في ظل غياب بدائل واضحة ومتفاهمًا عليها لدى الشعوب التي أسقطت أو تريد إسقاط أنظمتها.
ثانيًا: تونس بلد نموذجي للبداية: تنص خارطة "الشرق الأوسط الجديد" التي وضعها "برنارد لويس" بالنسبة لشمال إفريقيا، على تفكيك ليبيا والجزائر والمغرب بهدف إقامة ثلاثة أقسام تضم ستة دول، هي: "دولة البربر" أي "الأمازيغ" (المنتشرون في دول شمال إفريقيا)، والتي سوف تمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر على امتداد "دويلة النوبة" بمصر وأقصى شمال السودان. و"دويلة البوليساريو"، وهم أحد العرقيات الموجودة في المغرب، ولديهم "جبهة البوليساريو" التي تطالب اليوم بأن تكون لهم دولة باسم "الجمهورية الصحراوية"، وذلك بسبب اختلاف أعراقهم عن الأعراق العربية، وإحساسهم بإنهم مهمشون في كيان الدولة المغربية الحالية، ولا يشاركون في حكم المغرب... على أن تقام في الأراضي المتبقية بعد اقتطاع حصة "البربر" و"البوليساريو" دويلات: "المغرب" و"الجزائر" و"تونس" و"ليبيا"، وهي دول مرشحة أيضًا للتفتيت فضلا عن اقتطاع حصة "البربر" منها، لكن تقسيمها قد يكون على شكل فيدراليات أو كونفيدراليات أو ما شابه، نظرًا لتكونها -وخصوصًا "ليبيا"- من قبائل متعددة ذات حساسيات تاريخية، بحيث لا ترضى أي منها أن تحكم من الأخرى.
وبالعودة إلى تونس المشمولة بالتأكيد بالمشروع التفتيتي الصهيو-أميركي، لكن كما نلاحظ من خطة "لويس" هي أقل استهدافًا من سواها كـ"المغرب" مثلا، وذلك نظرًا لكونها بلدًا صغير المساحة، وقليل عدد السكان(عشرة ملايين نسمة)، ومن أكثر دول شمال إفريقيا تجانسًا، حيث إن 98% من سكان تونس مسلمون، وتغيب عنهم الحساسيات أو النزاعات العرقية لكون الغالبية العظمى من الشعب من أصل عربي.
بيد أن هذا الواقع الجغرافي والديموغرافي المنسجم وإن كان عائقًا أمام أي مشروع تقسيمي، إلا أنه في الوقت نفسه بيئة نموذجية لإشعال وإنجاح أي ثورة شعبية، خصوصًا إذا انضمت إليه محفزات سياسية واقتصادية.
فمن الناحية الاقتصادية، كان أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تنامي الاحتقان الشعبي والغليان المناطقي، حالة البطالة المرتفعة في الشارع التونسي والتي وصلت في الفترة الأخيرة الى حدود غير مسبوقة، هذا فضلاً عن احتكار المجالات الاقتصادية من قبل عائلتي الرئيس التونسي وزوجته.
أما من الناحية السياسية، فتونس ترزح تحت حكم ديكتاتوري دموي وبوليسي يديره "حزب التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم (سابقًا) بقيادة الرئيس التونسي (المخلوع) "زين العابدين بن علي"، وهو حزب نما واستحكم وتسلط على الشعب ونهب مقدراته تحت رعاية وأعين أميركا ودول الغرب، في حين لم يُحدِث في تونس أي نمو أو تطور اقتصادي أو سياسي يستحق أن يذكر منذ عام 1987، تاريخ تسلم الرئيس التونسي "زين العابدين بن علي" السلطة. أضف الى ذلك، أن هذه الدولة خالية من ثروات معدنية أو نفطية قد تؤثر على أميركا والعالم في حال تعرّضت لتوقف مفاجئ بسبب خضة ما... وهذه كلها ميزات كوّنت بيئة آمنة وملائمة ومناسبة ومطمئنة ومشجعة لكي تجعل من تونس بحق دولة نموذجية لإشعال فتيل "الفوضى الخلاقة" في المنطقة، بعدما وقع عليها الخيار الأميركي المدروس بدقة وعناية للدفع في اتجاه افتعال ثورة يراد لها أن تمتد إلى الدول المجاورة وبقية الدول المستهدفة من"مشروع الشرق الأوسط الجديد".
نقول ذلك بنبرة جازمة، لأننا نعتقد أن من الخطأ مقاربة موضوع الثورة التونسية دون النظر الى ما استتبعها من ثورات، وخصوصًا في مصر وليبيا واليمن والبحرين.
وبالانتقال الى كيفية اندلاع الثورة التونسية، فعلى الرغم من أن الأحداث التي وقعت في تونس غلب عليها الطابع الشعبي، إلا أنه لا بد من تسليط الضوء على دور الجيش التونسي ومن خلفه أميركا في تلك الأحداث لما لهما من أهمية قصوى في تحديد العوامل التي ساهمت في تفجير الثورة ورعتها حتى نهايتها.
ومن خلال محاولة فهم الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في إشعال فتيل تلك الثورة وضبط مجرياتها، يمكن ملاحظة النقاط التالية:
1- بداية يجب التسليم بأنّ النظام الحاكم في تونس منذ جلاء المستعمر الفرنسي عنها في العام 1956 وتسليم الحكم لـلرئيس " الحبيب بورقيبة"، هو نظام يتبع أوروبا وبالذات فرنسا وبريطانيا، ولا مكان للنفوذ الأميركي فيه سياسيًا. وكان حكم الرئيس التونسي المخلوع "زين العابدين بن علي" استكمالاً لحكم سلفه "بورقيبة"، فقد حرص على إبقاء الحكم في تونس مواليًا لأوربا، لكن سياسيًا، أما عسكريًا فقد عملت أميركا على تقوية وتوطيد علاقاتها بالجيش التونسي مستغلة سياسة الإضعاف والتهميش التى انتهجها "بن علي" تجاه الجيش لمصلحة تقوية بقية الأجهزة الأمنية، كما سنبينه في النقطة الثالثة، وقد حرصت أميركا على توطيد علاقتها بالجيش تعويضًا عن تفضيل النظام التونسي الولاء الأوربي على الأميركي، وتمهيدًا لقلب تلك المعادلة لمصلحتها عندما تسمح الفرصة. وقد كشفت وثائق "ويكليكس" عن قلق أميركي من "تدني" درجة التعاون العسكري بين الطرفين (التونسي والأميركي)، على الأقل في الفترة بين 2008 و 2010. و هو ما يعكس حدود "الرعاية" الأميركية للجيش التونسي.
2- منذ سنة 2006 على أقل تقدير، بدأت الولايات المتحدة تدرس جديًا مستقبل تونس بعد "بن علي" وما إذا كان الحكم سيبقى في قبضة "حزب التجمع" أم لا. ففي 18/4/2011 نشر موقع "ويكيليكس" برقية دبلوماسية من الخارجية الأميركية صادرة بتاريخ 9 كانون الثاني 2006، تعتبر فيها السفارة الأميركية في تونس أنه إذا "توفي بن علي خلال رئاسته، أو استقال لسبب ما، أو أصبح مريضًا بشكل يمنعه من ممارسة صلاحياته بشكل نهائي، فباستطاعة المجلس الدستوري أن يعلن فراغ المنصب الرئاسي، وتعود عندها السلطات الانتقالية إلى الرئيس الحالي للمجلس النيابي فؤاد المبزع" الذي ستكون مهمته الأساسية بنظر التجمع "المحافظة على إمساك الحزب بالسلطة". وتضيف البرقية أنه "من غير المرجح أن يجمع أي مرشح من المعارضة ما يكفي من القوة لتحدي مرشح حزب التجمع الحاكم بشكل جدي. ومن المتوقع أن يكون الرئيس المقبل من صفوف التجمع"، مضيفة أنه "نظرا للإطار التشــريعي للرئاسة، فمن المرجح ان يكون خلف بن علي من المكتب السياسي للحزب".
وفيما تعرض السفارة الأميركية بناء على مصادرها لائحة تضم أسماء مرشحين لخلافة "بن علي"، تعتبر أنه "من المرجح ألا يقوم أي من هؤلاء بتغيير حقيقي في سياسات الحكومة التونسية، داخليًا أو خارجيًا". وقد عززت هذه البرقية صدقية الشارع التونسي في رفضه تواصل إمساك حزب "التجمع" بزمام السلطة بعد فرار الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي".
والى ذلك، كشفت وثيقة أخرى نشرها موقع "ويكيليكس" حقيقة الرغبة الأميركية في تغيير النظام التونسي، فقد أشارت إلى توصية صدرت منذ نحو عامين من السفير الأميركي في تونس بأن "أي تغيير إصلاحي حقيقي لن يحدث طالما بقي الرئيس التونسي بن علي في السلطة... ونحن بانتظار رحيله". وورد في إحدى الوثائق السرية الأميركية المسربة الى موقع "ويكيليكس" وهي صادرة من السفارة الأميركية في تونس يوم 13/7/2009، والتي تحمل عنوان "تونس المضطربة .. ماذا ينبغي أن نفعل؟"، ورد فيها قول السفير الأميركي في تونس "روبرت جوديك": "التغيير الحقيقي في تونس سوف يحتاج إلى انتظار رحيل بن علي".
3- توازيًا مع ذلك، كانت أميركا قد وطدت علاقتها بالجيش التونسي بحيث يمكن الاعتماد عليه لإنجاح أي ثورة أو عملية انقلابية تستهدف حكم "بن علي"، وفي ذلك تتفق التجربة التونسية مع التجربة المصرية من حيث إن رهان الغرب للإطاحة بالحاكمَين وضبط مجريات الثورة كان على المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجيش.
ويبدو أن "بن علي" ذو الخلفية العسكرية والذي شغل مناصب عديدة بالجيش قبل توليه وزارة الداخلية والانقلاب على "بورقيبة"، لم يتمكن من أخذ ولاء الجيش في الظروف العصيبة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى حادثة مريبة وقعت في نيسان 2004، حيث قتل فيها 13 من كبار قادة الجيش التونسي بعد سقوط مروحية كانت تقلهم بمن فيهم قائد الأركان السابق الجنرال "عبد العزيز رشيد سكيك" ذو الصيت الذائع آنذاك. ومنذ ذلك الحين تم استبعاد الجيش وتهميشه وعدم إشراكه في أي نشاط سياسي، وهذا ما أدّى إلى إضعاف ولائه للرئيس وللنظام.
كان التركيز الأميركي في علاقته مع تونس يقوم منذ تولي الرئيس التونسي المخلوع، لا بل قبله بنحو 5 سنوات، على بعدَين: الأمني والسياسي؛ فبمبادرة من رئيس لجنة العلاقات الخارجية في "الكونغرس" سابقًا السيناتور "تشارلز بيرسي"، تم تشكيل اللجنة العسكرية التونسية-الأميركية عام 1981، وقد حافظت هذه اللجنة على انتظام دوريتها، وقد مسح التعاون الأمني التونسي الأميركي العديد من المجالات أهمها: إجراء مناورات مشتركة مرة في السنة وإرسال الضباط التونسيين لتلقي دورات تدريب في المعاهد العسكرية الأميركية ، فضلا عن منح تجهيزات ومعدات عسكرية للجيش التونسي.
فالولايات المتحدة تزوّد تونس بالجزء الأعظم من احتياجاتها التسليحية، وكانت آخر شحنات الأسلحة الأميركية الكبيرة التي حصلت عليها القوات التونسية قد تمت في أواسط التسعينيات، وقد اشتملت هذه المساعدات بشكل عام على دبابات ومدافع ميدان وطائرات نقل وطائرات هيليكوبتر وطائرات مقاتلة من طراز "أف 5 تايغر" ودبابات من طراز "أم 60"، وهي الأسلحة التي لا تزال تشكل حتى الآن عماد تجهيزات القوات الجوية والمدرعة التونسية. وكانت المساعدات لغايات تخدم استراتيجية أميركا وأهدافها الخاصة لا غير.
ولمحاولة التعمق أكثر في فهم طبيعة العلاقات العسكرية التونسية-الأميركية، يبدو واقع مؤسسة الجيش التونسي دائمًا مثيرًا للاهتمام، خاصة أن سمعته كانت دائمًا أقل سوءًا من بقية أجهزة سلطة "بن علي" التي تملك السلاح. وهو ما يتضح لنا من مقالين حديثين لكاتبَين أميركيَين مرموقََين من المفيد جدًا التوقف عندهما.
فقد نُشر في شهري كانون الثاني وشباط 2011، مقالان كُتبا بشكل مشترك من كاتبين أميركيَين تعرّضا بشكل خاص للجيش التونسي. المقال الأول مخصص بالكامل للجيش التونسي، وهو منشور في "الهافينغتون بوست" بتاريخ 26/1/2011 بقلم الكاتب "كليمينت هنري" الأستاذ الفخري في الحكم والدراسات الشرق أوسطية في جامعة "تكساس" بـ"أوستين" والمختص في شمال افريقيا ويمكن اعتباره من أكثر الأكاديميين الأميركيين اطلاعًا على الوضع في تونس. أما المقال الثاني، فيعرض معلومات مشابهة للمقال الأول حول الجيش، إلا أن اللافت فيه هدفه الرئيسي المتمثّل باستخلاص الدروس من المثال التونسي واقتراح نقله الى الوضع المصري، واعتبار كاتبه "روبرت سبرينغبورغ" أستاذ شؤون الأمن القومي في "مدرسة ما بعد التخرج البحرية" والمشرف على برنامج العلاقات المدنية-العسكرية فيها، أن الجيش التونسي "أكثر حرفية" و"مرونة" من الجيش المصري بما يجعله مساعدًا على ترسيخ الحكم المدني في البلاد. وقد نشر هذا المقال في عدد شهر شباط 2011 من مجلة "شؤون خارجية" التابعة لـ"المركز التقليدي لصناعة السياسة الخارجية الأميركية-مجلس العلاقات الخارجية"، ويمتاز كاتبه بتخصصه في الشأن المصري وأنه على احتكاك مع الأوساط العسكرية الأميركية بسبب المؤسسة التي يدرّس فيها، وخاصة البرنامج الذي يشرف عليه مركز العلاقات المدنية العسكرية الذي يمثل أحد أهم نقاط المقالين معًا.
أما أهم الأفكار والمعطيات الواردة في هذين المقالين فتتلخص في الآتي:
-حَرص "زين العابدين بن علي" على تفقير الجيش التونسي مقارنة بمختلف الأجهزة الأمنية (شرطة، حرس وطني، حرس رئاسي)، إذ كانت الأموال المخصصة له دائما أقل من سواه، هذا عدى عن قلة عديده الذي لا يتجاوز 35 ألفاً جندي ما يجعل من حجمه الأصغر بين مختلف هذه الأجهزة، وكانت الحصة الكبرى من الميزانية تذهب للحرس الرئاسي.
-لم يكتف "بن علي" بإضاعف الجيش فقط، بل حيّده أيضًا، وركّز على توظيفه في السياق المدني بأقل التكاليف، ودفع بالجيش بالتالي من حيث التجهيز والتدريب بشكل شبه كامل نحو الرعاية الأميركية. وهكذا ذهب عدد كبير من الضباط التونسيين الى الولايات المتحدة للتدرب في اتجاه دعم المؤسسات المدنية. وذلك على عكس الأجهزة الأمنية التي كانت من حيث التدريب خاصة تحت إشراف أكبر من فرنسا.
-وقد أثرت هذه الوضعية على تطور الأمور خلال هروب "بن علي" وما تلاها من أحداث، إذ في الوقت الذي بقيت فيه فرنسا مستعدة لتقديم دعم أمني حتى آخر لحظات "بن علي"، كان الجيش غير المورَّط في فساد السلطة والمدرب على دعم المؤسسات المدنية، قادرًا أولاً على التمرد على أوامر "بن علي"، وثانيًا على محاربة فلوله والدفاع عن استمرار الدولة. فقد رفض قائد أركان جيش البر "رشيد عمار" أوامر "بن علي" في إطلاق النار على المتظاهرين في محاولة من الأخير لفض التظاهرات ووأد الثورة، وبحسب الكاتبَين الأميركيَين فإن تصرّف الجنرال "رشيد عمار" ذلك والذي أدى الى عزله من قبل "بن علي"، لم يكن موقفًا فرديًا ومعزولا، بل تضامنت قيادة الجيش معه، و تبنت الموقف نفسه من خلال "تجاهلها" أمر "بن علي" في عزل الجنرال "عمار".
-وبسبب التدريب الأمريكي المتواصل في السنين الماضية، يقول الكاتبَين، خاصة في مجال العلاقات المدنية-العسكرية، وبسبب تواضع حجم الجيش التونسي، كان قرار قيادته واضحًا في اتجاه دعم المؤسسات المدنية. وقد أمّنت حرفية الجيش وتنظيمه وعدم انقسامه عوامل أتاحت له التغلب على الحرس الرئاسي الذي رغم حيازته أسلحة مماثلة وأحيانًا أكثر تطوّرًا، لم يستطع مجاراة الجيش وتمت السيطرة عليه في ظرف أيام.
وبهذا تم إعداد الجيس التونسي أميركيًا بحيث يكون له الدور الحاسم في أي عمل تغييري يواجهه نظام "بن علي"، وهو ما حصل فعلا في حوادث تونس الأخيرة التي أدّت إلى الإطاحة بالديكتاتور التونسي، فقد كان للجيش موقفًا حاسمًا في إنجاح التحرك الجماهيري الكبير والذي أدّى إلى إسقاط "بن علي" بسهولة لافتة، وهو ما سنوضحه فيما بعد بشيء من التفصيل.
4- بعيدًا عن دور تأهيل الجيش التونسي لحماية وإنجاح التغيير المطلوب، كان للعامل الاقتصادي المتردي في تونس دورًا أساسيًا في دفع الشعب نحو الثورة، فضلا عن فضائح الفساد التي بدأت تتكشف وتظهر الى العلن.
ففي عام 2009، صدر كتاب في فرنسا بعنوان "حاكمة قرطاج..يد مبسوطة على تونس"، تناول مؤلفاه وهما الصحفيان "نيكولا بو" و"كاترين كراسيه" ما سمياه "هيمنة زوجة الرئيس التونسي على مقاليد السلطة في البلاد"، وتحدثا عن سيطرة عائلة "ليلى الطرابلسي" زوجة الرئيس "بن علي" وعائلة صهره "الماطري" على زمام الأمور في كثير من مناحي الحياة بعد أن توعكت صحة الرئيس.
مُنِع الكتاب من دخول تونس وأقامت "ليلى" دعوى قضائية ضد نشر الكتاب ولكن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى. دخل الكتاب سرًا الى تونس وقرأه مئات الألوف وهو مكتوب بالفرنسية، فأخذت الروائح النتنة للفساد الإداري والمالي للعائلة المالكة وتسلط "حاكمة قرطاج" تفوح في البلاد رغم التعتيم الإعلامي وسياسة كمّ الأفواه التي لم تستطع حجب التفاصيل المروعة المذكورة في ذلك الكتاب عن أعين الشعب الذي بات يعي الحقيقة، وبالتالي بدأت النفوس بالغليان وأصبح وضع الشارع التونسي كالجمر تحت الرماد.
5- وجدت أميركا الفرصة سانحة لتطيير الرماد وكشف الجمر الراقد تحته، وصب "البنزين" على النار، فعملت على استغلال غضب الشعب التونسي، والنفخ في نيران غضبه بغية استثارته وزيادة نقمته على النظام الظالم والفاسد الذي يحكمه تمهيدًا لدفعه نحو الثورة.
فبعد سنوات طويلة من تعمّد غض الطرف عن فساد نظام "بن علي" واضطهاد الشعب التونسي ومعاناته مع ديكتاتوره، وتصوير تونس على أنها واحة للعلمانية، خرجت أميركا عن صمتها فعملت في الربع الأخير من عام 2010 على إثارة موضوع فساد النظام واستغلال تحكّم العائلة الحاكمة في اقتصاد البلاد وثرواته الذي تم على مرأى ومسمع الإدارة الأمريكية والدول الأوربية، وذلك من خلال نشر وثائق سرية صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية قيل في رواية يصعب تصديقها إن أحد الجنود الأميركيين سربّها دون علم الإدارة الأميركية الى موقع "ويكيليكس" الإلكتروني، وهي عبارة عن رسائل وتقارير أعدها سفراء الولايات المتحدة في الدول التي عيّنوا فيها، وتم اختيار تونس بعناية ودقة لتكون محور معظم الوثائق المسربة في المرحلة الأولى.
وهنا نترك الكلام لمؤسس موقع "ويكيليكس" على شبكة الانترنت "جوليان أسانج"، لكي يشرح لنا مدى تأثير "ويكيليكس" على الثورات العربية، حيث يقول في مقابلة أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرنوت" الصهيونية بتاريخ 7/4/2011: "إن تسريب وثائق السفارات الأميركية في عواصم عدة كان بمثابة وقود أشعل الثورات العربية"، مشيرًا إلى أنه "في تونس ومصر كانت جميع العناصر لصنع الثورة موجودة، ومساهمتنا كانت بتجفيف الأشجار تمهيدًا لإضرام النار في الموقدة". ويتابع "أسانج" مبينًا السير الزمني للأحداث فيقول: "إن محور الزمن سار كالتالي: في 29 تشرين الثاني/نوفمبر2010، بدأ ويكيليكس في نشر وثائق وزارة الخارجية الأميركية مع شركاء من وسائل الإعلام وبينهم الصحيفة اللبنانية "الأخبار" وصحيفة مصرية"، وأضاف أن: "الأخبار نشرت مواد وصلت من دول شمال أفريقيا شملت تونس والسعودية ولبنان، وفي رد فعل على ذلك تمت مهاجمة موقع الصحيفة الإلكتروني بوحشية، والحكومة التونسية منعت مشاهدته في تونس وكذلك منعت ويكيليكس(...)، إن رد الفعل على مهاجمة موقع "الأخبار" كان قيام قراصنة كمبيوتر مؤيدين لـ"ويكيليكس" بتوجيه كل من حاول دخول الموقع الإلكتروني للحكومة التونسية إلى موقع ويكيليكس".
وتابع أسانج موضحًا أن: "بعض البرقيات التي نشرناها بحثت مطولاً في الاستخدام السيئ للقوة من جانب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وعائلته، وتم نشر هذه المواد بين المواطنين التونسيين وسببواعاصفة، لكن الأهم من ذلك هو أن البرقيات المسربة أظهرت أنه في حال نشوب نزاع مسلح بين الجيش وعائلة بن علي فإن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب الجيش، وهذا لفت بالتأكيد انتباه الجيش والدولة كلها".
هكذا، وعلى أثر اطلاع الشعب التونسي على ذلك الكتاب الفرنسي الشهير والذي أضيف إليه مضمون وثائق "ويكيليكس" "السرية" الذي يسلط الضوء على فساد نظام "بن علي" ويظهر الرغبة الأميركية في تغييره، نظمت حملات شبابية تحريضية تدعو الى الثورة والإطاحة بالطاغية "بن علي"، وذلك على موقعي "فايسبوك" و "تويتر" الإلكترونيَين، فكان لهذه الحملة ولتلك الوثائق دورًا مباشرًا في تعبئة التوانسة وتأمين أرضية مناسبة لكسر حاجز الخوف من نظام دموي لا يرى سوى نفسه، ولا يفهم سوى لغة القوة ومنطق العنف، وبالتالي تأمين أجواء مؤاتية لاندلاع ثورة لم تعد تحتاج إلا الى شرارة لتنفجر، فكانت شرارة بائع الخضار "محمد البوعزيزي" صاعقة تفجير بركان "الفوضى الخلاقة" في تونس والعالم العربي الذي أطاح بعروش الاستبداد.
ففي 17/12/2010، أقدم الشاب "محمد البوعزيزي" (26 عامًا) على إحراق نفسه في ولاية "سيدي بو زيد" (265 كيلومترا جنوب العاصمة تونس) احتجاجًا على تعرضه للصفع والبصق على الوجه من قبل شرطية (امرأة) تشاجر معها بعد أن صادرت عربة خضار كان يسترزق منها لينفق على والدته وأشقائه السبعة، ومنعته من بيع الخضار والفاكهة دون ترخيص من البلدية، واستنكارًا منه لرفض المحافظة قبول تقديمه شكوى ضد تلك الشرطية؛ وكانت تلك الشرارة المنتظرة لتفجير "ثورة الياسمين" في تونس وامتدادها الى بقية دول العالم العربي.
فغداة إقدام البائع المتجول صاحب عربة الخضار "محمد البوعزيزي" على الانتحار يأسًا من البطالة واحتجاجًا على تعرضه للإهانة والإذلال على أيدي الشرطة، انطلقت شرارة الاحتجاجات في تونس في 18/12/2010 من مدينة "سيدي بو زيد"، تعاطفًا مع هذا الشاب -الذي بقي أكثر من أسبوعين بين الحياة و الموت قبل أن يتوفى- وعلى خلفية تزايد أعداد العاطلين عن العمل واستشراء الفساد والمحسوبية داخل النظام وتقييد الحريات المدنية، لتتخذ الأحداث شيئًا فشيئًا منحى تصاعديًا حيث انتشرت موجه غضب عملاقة غذاها موقع "الفايسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، فامتدت معها التظاهرات إلى عدد من المدن التونسية مطالبة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، وأدت إلى صدام مع قوات الأمن الموالية للنظام والتي اعتقلت عددًا من المتظاهرين.
خلال الأيام التالية توسعت الرقعة الجغرافية للتظاهرات بالتزامن مع إرتفاع سقف المطالب السياسية، إذ غدا تنحي الرئيس "زين العابدين بن علي" مطلبًا رئيسًا لا تنازل عنه مع ترديد المتظاهرين عبارتهم الشهيرة "الشعب يريد إسقاط النظام"، فيما وصفت تلك التحركات بأنها الأكثر جدية منذ تولي الرئيس التونسي السلطة عام 1987، أي قبل 23 عامًا.
تصاعدت وتيرة الاحتجاجات وبدأت تزداد تنظيمًا وعددًا ومساحة لتعم المدن التونسية الرئيسية، وبمواكبة إعلامية حثيثة ودقيقة ولا سيما من قناة "الجزيرة" القطرية المشبوهة، ما أجبر الطاغية التونسي "بن علي" على الإعلان عن عدم ترشحه لدورة رئاسية جديدة، وإقالة عدد من الوزراء، وتقديم وعود بمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؛ غير أن هذه الوعود لم تهدئ الثوار الذين تابعوا احتاجاجاتهم متصدين بصدورهم العارية لاستعامل الشرطة العنف في ردعهم ومحاولة إخماد ثورتهم؛ فقد عُلم أن "بن علي" أمر الجيش بالتدخل لقمع المتظاهرين ودحر "الثورة الشعبية" في مدن "القصرين" و"تالة" و"سيدي بوزيد"، إلا أن الفريق أول "رشيد عمار" رئيس أركان الجيش التونسي كانت له الشجاعة الكافية (بِحَثّ ومعاونة أميركية) لمعارضة ورفض أوامر "بن علي"، فشكل هذا الموقف من رئيس الأركان التونسي -الذي أقيل بسببه- الضربة القاضية في إسقاط الرئيس التونسي. وفي هذا السياق، أفادت تقارير قبل يومين من تنحي "بن علي" عن السلطة أنه أقال رئيس هيئة أركان الجيش، بسبب تحفظ الأخير على "القبضة الحديدية" التي يعالج بها الرئيس الأزمة الاجتماعية المتفجرة في البلاد منذ أسابيع، ورفض إصدار الأوامر للجيش التونسي باستعمال القوة ضد المتظاهرين.
وحتى اللحظات الاخيرة التي سبقت رحيله، عبثاً حاول الرئيس التونسي التشبث بالسلطة عبر سلسلة من الاجراءات الجديدة، فأعلن حال الطوارئ في أنحاء البلاد وأقال الحكومة ووعد بإجراء انتخابات نيابية في غضون ستة أشهر بعدما كان وعد في 12/1/2011 بألا يترشح للرئاسة سنة 2014، لكن ذلك لم يوقف موجة التظاهرات والصدامات التي ظلت مصممة على خيارها الوحيد المنادي بإسقاطه وتنحيه عن الحكم، فاستمرت الثورة شهرًا كاملاً برعاية من الجيش التونسي المتعاطف والمؤيد لمطالب شعبه، وأدت إلى سقوط 66 قتيلا على الأقل، لتتوج في 14/1/ 2011 بدفع الطاغية "زين العابدين بن علي" أخيراً الى التخلي عن السلطة والنتحي مرغماً، ومغادرة البلاد فرارًا الى مطار جدة في السعودية، بعدما رفضت دول أروربية حليفة استقباله.
وفي اللحظات الأخيرة التي سبقت مغادرة "بن علي" البلاد، أكد مسؤول في مطار تونس لوكالة "رويترز" أن وحدات من الجيش التونسي طوقت المطار الدولي بالكامل على مشارف العاصمة التونسية. وأوردت الحكومة نقلا عن مصادر مطلعة، أن "زين العابدين بن علي" الرئيس التونسي غادر البلاد إلى جهة غير معلومة وأن رئيس البرلمان تسلم المسؤولية، وأن الجيش تولى زمام الأمور في تونس.
وبالتزامن مع الإعلان عن رحيل "بن علي"، أطل رئيس الحكومة "محمود الغنوشي" ليعلن تسلّمه رئاسة الدولة بصفة مؤقتة مع تعذر قيام الرئيس "زين العابدين بن علي" بمهامه، وإعلان السلطات حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد. فانتشرت قوات الجيش مدعومة بالدبابات في شوارع العاصمة التونسية والمدن لوقف أعمال النهب والتخريب من جانب ما يقول شهود إنها عصابات تابعة للحزب الحاكم "التجمع الدستوري الديموقراطي"، الغاضبين من فرار الرئيس السابق "زين العابدين بن علي"، بهدف زعزعة استقرار البلاد.
لكن عملية انتقال السلطة على هذا الشكل أثارت اعتراضات من تونسيين رأوا أنها غير دستورية، كما رأوا في "الغنوشي" امتدادًا لنظام حكم الطاغية المخلوع، فتابعوا تحركاتهم الاحتجاجية مطالبين باستقالته حتى كان لهم ما أرادوا، فاستقال وتولى منصبه "الباجي قائد السبسي".
وفي غمرة كل ذلك، استرعى الانتباه أن الرئيس الفرنسي رغم تأخره المشين في دعم الثورة التونسية رفض استقبال الرئيس التونسي المخلوع، فيما قالت واشنطن انه يحق "للشعب التونسي اختيار زعمائه"، ودعت الى "إجراء انتخابات حرة ونزيهة قريبًا". وقد جاءت تلك التصريحات في لحظة يتساءل فيها الجميع عن دور الجيش، وعما اذا كان هو الذي رتب هذا المخرج مع دول أجنبية، وخصوصًا فرنسا والولايات المتحدة، وذلك مع بروز بعض المقالات الصحفية التي تفيد أن "قائد أركان جيش البر رشيد عمار هو من يمسك فعلياً بزمام السلطة حاليًا، بينما كان الرجل قبل أسابيع قليلة شخصية غير معروفة إطلاقًا في الشارع التونسي".
الإجابة على التساؤلات المتعلقة بدور الجيش التونسي في إسقاط "بن علي" وإدارة البلاد من بعده لم تنأخر كثيرًا، فقد بدأت تظهر تباعًا وعلى لسان شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة معنية بالشأن التونسي ومطلعة على تفاصيله.
ففي 16/1/2011، كشف "أحمد الخضراوي" وهو ضابط فى الحرس الوطني التونسي، في تصريحات لفضائية "الجزيرة"، أن "الفريق أول رشيد عمار رئيس أركان الجيش التونسي الذي أقاله الرئيس المتنحي زين العابدين بن علي عشيه تخليه عن السلطة ومغادرته إلى خارج البلاد، تلقى تعليمات من السفارة الأميركية بتونس بأخذ زمام الأمور في البلاد وفرض سيطرة الجيش على الوضع إذا خرجت الأمور عن السيطرة".
وأكد "الخضراوي" أنه يستند في ذلك "على وثائق بين يديه"، وقال إنه "يتحمل مسؤولية هذه المعلومات ويجزم بها". كما شدّد على "تمتع الجيش التونسي بسمعة طيبة لدى المواطنين حتى ولو كان على حساب وزارة الداخلية كي يلجأوا إلى حل عسكري في البلاد إن سنحت الأمور أو اضطروا إلى ذلك".
وردًا على سؤال حول ما الذى يمنع "رشيد عمار" إذا كان تلقى هذه التعليمات من أن يسيطر على البلاد بشكل كامل ويعلن الحكم عسكريًا دون اللجوء إلى هذا الغطاء السياسي، قال "الخضراوي":"إن النهضة الشعبية المفاجئة التى اصطدمت بها المؤسسة السياسية والعسكرية في تونس كانت مفاجأة عظمى لبن علي ولأركان حكمه".
وفي 21/1/2011، نقلت صحيفة "لوكانار أونشيني" الفرنسية الساخرة عن وزيرة الخارجية الفرنسية "ميشال آليو ماري" (قبل أن تستقيل أو تتم إقالتها على أثر فضيحة تمضيتها فترة استجمام في منتجع سياحي تونسي خلال أيام الثورة) قولها إن "الأميركيين قرروا الأخذ بزمام الأمور عبر اتصال ضباط أميركيين بنظرائهم التونسيين يحثونهم على ضرورة أن يغادر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي التراب التونسي في أقرب وقت ممكن".
وكشفت الصحيفة الفرنسية بأن "آليو ماري" أطلقت هذا التصريح لتبرير غياب باريس عن الموقف في تونس، وتأخرها في رد الفعل، وتفاجؤها من هروب "زين العابدين بن علي". وفي الاتجاه نفسه توضح الوزيرة الفرنسية: "لم نر أي شيء قادم، أما الأميركيون فقد أخذوا بزمام المبادرة وكانوا مقتنعين بأن حماية النظام التونسي بالقوة يساهم على المدى المتوسط في تقوية الإسلاميين".
وأضافت وزيرة الخارجية الفرنسية، حسب الصحيفة نفسها، أن "العسكريين الأميركيين تحدثوا مع نظرائهم التونسيين حول ضرورة أن يغادر بن علي تونس بسرعة، لكنهم لم يبادروا إلى إخبارنا بهذا الموضوع".
وتذكر صحيفة "لوكانار أونشيني" بـأن "الأميركيين كانوا حذرين من تردي الأوضاع في تونس منذ شهور طويلة"، الأمر الذي جاءت وثائق ويكيليكس أخيرًا لتؤكده. كما تؤكده تقارير سفير الولايات المتحدة الأميركية في تونس، الذي حث واشنطن على الاهتمام أكثر بالجيش التونسي، وهو ما يفسر العلاقات الجيدة التي جمعت بين السفير ووزير الدفاع السابق".
هذا، وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية ذكرت خلال حديثها أمام لجنة العلاقات الخارجية بالـ"جمعية الوطنية الفرنسية" إن "فرنسا رصدت إحباط الشباب التونسي إزاء البطالة رغم ارتفاع مستوى تعليمهم وإزاء سيطرة عائلة الرئيس التونسي السابق زين العابدين على الاقتصاد، إلا أنها لم تتوقع سرعة اندلاع الثورة التونسية بهذا الشكل"، ما يشير الى أن سرعة سقوط "بن علي" لم تفاجئ عامة الناس وحسب، بل فاجأت أيضًا الأوروبيين، وهو ما يعني أنهم لم يكونوا طرفًا في الحدث، وإنما كان الطرف الأميركي العنصر المؤثر والفاعل فيه.
بعد شهر تمامًا على تصريح الوزيرة الفرنسية، أي في 21/2/2011، أعلن السيناتور الأميركي والعضو في "لجنة القوات المسلحة" في مجلس الشيوخ الأميركي "جون ماكين" لوكالة "رويترز"، عقب لقائه مسؤولين في الحكومة التونسية، إن "الثورة في تونس كانت ناجحة للغاية وصارت نموذجًا للمنطقة". وأضاف "ماكين": "نقف على أهبة الاستعداد لتوفير التدريب من أجل مساعدة الجيش التونسي على توفير الأمن".
هكذا، أطاحت الاحتجاجات الشعبية على القمع والفقر في تونس، الرئيس "زين العابدين بن علي" (74 سنة)، الذي لم يجد حيالها سبيلا سوى الفرار من البلاد بعدما حكمها بقبضة من حديد طوال 23 سنة، وكان يُعِدُّ نفسه للبقاء رئيسًا مدى الحياة. وهكذا لعب الجيش التونسي المعروف بضعف إمكانياته والذي لا يتجاوز عدد جنوده 35 ألفًا دورًا حاسمًا في الإطاحة بالديكتاتور التونسي، ولولاه لما نجحت الجماهير في إسقاط طاغيتها أو لطال أمد تشبثه بالحكم وتعثّرت ثورتها، فهذا الجيش الذي لم يطلق أي رصاصة على المتظاهرين استطاع أن يُفشل عمل الأجهزة الأمنية المدججة في قمع الإحتجاجات بالرغم من وجود أكثر من 120 ألف عنصر تعمل في تلك الأجهزة.
فر الرئيس التونسي من البلاد، ليصبح أول رئيس عربي يسقط بانتفاضة شعبية، في حدث غير مسبوق عربيًا أريدَ له كما تبيّن التمدد الى دول المنطقة، حيث تواجه أنظمة الحكم ضغوطًا مشابهة ونقمة متنامية، بسبب الديكتاتورية وقمع الحريات والمصاعب الاقتصادية، ونهب العائلات الحاكمة ثروات البلاد، وسواها من الأسباب.
فما إن صرخ الثوار في تونس: "الشعب يريد إسقاط النظام"، حتى انفجرت حناجر الشباب في دول عربية كثيرة مرددة هذه العبارة الساحرة، التي لم يكن المواطن العربي يجرؤ على الهمس بها في سره، وفي طليعة تلك البلدان التي سرت إليها العدوى التونسية عمود الأمة العربية وقوتها وبعدها الإستراتيجي مصر، ليبدأ فيها تطبيق السيناريو نفسه وبشكل واضح.
في 3/3/2011، أعلن الرئيس التونسي المؤقت "فؤاد المبزّع" في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي دخول البلاد في "مرحلة جديدة أساسها ممارسة الشعب لسيادته كاملة في إطار نظام سياسي جديد يقطع نهائيًا وبلا رجعة الصلة مع النظام البائد"، وأن "المجلس التأسيسي المكلف وضع دستور جديد سينتخب في 24 تموز المقبل". وأكّد "المبزّع" التزامه بمواصلة مهمته كرئيس جمهورية مؤقت بعد أجل 15 آذار 2011 وذلك لحين إجراء الانتخابات. وكشف في كلمته عن خطة مفصلة لما ينتظر البلاد من مواعيد سياسية سوف تقرر مستقبل تونس القريب، وهي خطة وصف غايتها بـ"قصد تحقيق الانتقال الديموقراطي السليم والهادئ".
الى ذلك، كشف "المبزّع" عن اعتماد تنظيم وقتي للسلطات العمومية، متكوّن من رئيس الجمهورية المؤقت وحكومة انتقالية برئاسة "الباجي قائد السبسي"، وهو "تنظيم ينتهي العمل به يوم مباشرة المجلس الوطني التأسيسي مهامه إثر انتخابه انتخابًا شعبيًا حرًا تعدديًا شفافًا ونزيهًا يوم 24 تموز المقبل".
لقد كان ما حصل في تونس بحق أفضل حركات التغيير في المنطقة. وحسنًا فعل شباب الثورة التونسية برفضهم بعد دحر طاغيتهم بقاء أي رمز من رموز نظامه البائد وأعوانه على رأس السلطة وفي مؤسساتها الدستورية، لكن فليحذر "حماة الثورة" من المشروع التفتيتي، ومن "الفوضى الخلاقة"، ومن تسليم دفة الحكم وزمام الأمور الى أناس يسيرون بالأجندة الأميركية الراعية للمصالح الإسرائيلية في المنطقة، ولا يزال الوقت مبكرًا للحكم على نجاة تونس من هذه الأخطار ولا سيما بعد سلسلة حوادث مقلقة بدأت مع اغتيال كاهن بولوني، واستمرت مع التعرض لغير المحجبات في الشارع، الأمر الذي أعاد الى ذاكرة التونسيين أعمال عنف شهدتها بلادهم بين عامي 1989 و1992 على خلفية صدام بين إسلاميين متشددين والنظام.
تبقى الإشارة الى أن إيران كانت من مؤيدي "الثورة التونسية" ربما لرهانها على اكتساب حرية أكبر في تصدير ثورتها التخريبية الى ذلك البلد بعد سقوط النظام العلماني المتشدد الذي رعاه "بن علي"، مع العلم أن الغالبية الساحقة من الشعب التونسي من أهل السنة والجماعة ومن أتباع المذهب المالكي، ولا تتوافر أرقام رسمية حول عدد الشيعة في تونس. غير أن الدكتور "محمد التيجاني السماوي" و هو أحد رموز التشيع ومن أخطر غلاة الشيعة، يقدر عدد الشيعة في تونس بـ"مئات الآلاف"، و يقول إنهم منتشرون في أغلب محافظات البلاد، و يمارسون شعائرهم و طقوسهم بحرية و دون أن يتعرضوا إلى أي نوع من المضايقات.
وعلى الرغم من الشكوك الكبيرة حول مدى دقة العدد الذي ذكره "التيجاني"، لا يمكن تجاهل المساعي الإيرانية الحثيثة بهدف إيقاع أهل تونس في المشاريع الهدامة لـ"ولاية الفقيه"، ولا سيما مع تأسيس "جمعية آل البيت" الشيعية في تونس (في عهد بن علي)، والتي فتحت خطوط الاتصال بين رموز التشيع في تونس وبين طهران.
وفي هذا السياق، وعلى الرغم من اعتقاده أن إيران وحزبها في لبنان هما من أعداء أميركا وإسرائيل، كشف في 19/9/2008 الأمين العام وزعيم "حركة النهضة التونسية" وعضو "مكتب الإرشاد العالمي لجماعة الإخوان المسلمين" الشيخ "راشد الغنوشي" (الذي عاد إلى تونس على أثر سقوط "بن علي" بعد 20 عامًا من المنفى)، كشف لـ"لقدس برس" عن أن "المد الشيعي في دول المغرب العربي السنية ومنها تونس ظاهرة ملفتة للانتباه ومثيرة للانزعاج في منطقة تمتعت منذ ألف سنة بوحدة مذهبية كفتها شرور النزاعات والفتن". وأكد أن "الظاهرة من شأنها إذا تطورت أن تزرع لمستقبل من النزاع لا ضرورة له". كما أعرب عن شكه "في طبيعة الجهات التي تقف وراءها، هل لها علاقة رسمية أو شبه رسمية بالدولة الإيرانية، لا سيما وأن الطريقة التي تناولت بها وكالة "مهر" شبه الرسمية تصريحات الشيخ القرضاوي مدافعة بحرارة عن هذا المد، تبعث على هذا الظن".
وخلال حديثه، أكد "الغنوشي" أن "الاختراق الشيعي للمناطق السنية الذي تحدث عنه الشيخ القرضاوي أمر واقع مهما كان حجمه"، وأشار تحديدًا إلى دول المغرب العربي ومنها تونس، وقال: "هناك منذ سنوات بدايات لانتشار ظاهرة التشيع في مناطق المغرب العربي ومنها تونس، وكان ذلك في ظل الحماس الذي أبدته الحركة الإسلامية للثورة الإسلامية في إيران، مُزيحة كثيرًا من الحواجز النفسية في وجه التشيع، إذ لم تعرف هذه المناطق منذ ألف سنة شيعيًا واحدًا منذ جلاء الفاطميين عنها، ونحن لم نكن مسرورين بهذه الظاهرة بل كنا منزعجين على الرغم من أنها نسبيًا محدودة، لأنها تزرع لمستقبل من النزاع لا ضرورة له". وأضاف: "المجتمعات كالأفراد تملك حاسة الدفاع عن مقومات وجودها مهما بدت وكأنها ميتة. وما ظهور المد السلفي المتشدد (يتابع "الغنوشي") في بيئات مثل تونس تعرضت لكل ضروب الاختراق بعد التغييب بالقوة للتيار الوسطي الذي كان قد أعاد الاعتبار لمقومات الهوية مقابل دعم كل التيارات الاخرى، إلا رد فعل معادل في القوة ومعاكس في الاتجاه، سيستمر على تشدده حتى يستوي المجتمع على وضع طبيعي".
وأشار "الغنوشي" إلى أنه طرح مسألة الاختراق الشيعي للساحة الإسلامية التونسية في العديد من اللقاءات مع المراجع الشيعية، وقال: "كلما واتتنا فرصة للحديث مع إخواننا الشيعة إلا ونبهنا إلى خطر هذه الظاهرة، وكان الرسميون الإيرانيون ينكرون أن تكون الدولة وراء هذا المشروع، ويؤكدون أنها أعمال تقوم بها بعض المراجع وبالذات مراجع عربية مثل جماعة الشيرازي، ويقولون بأنهم ليسوا أصحاب مصلحة في استبدال ولاء شعوب بكاملها لهم بمجموعات صغيرة مهما كبرت(...).
ويضيف "الغنوشي": "الواقع الذي يؤسف له أن الدعوة للتشيع قد أفادت من الصراعات التي قامت في عدة مناطق سنية بين الدول والحركات الاسلامية. وبدل أن تقف إيران الدولة مع الحركات الاسلامية في محنتها عمدت الى توثيق علاقاتها مع تلك الدول، بما قدم غطاء لدعاة التشيع لاختراق الساحة السنية في كثير من المناطق ومنها مصر وتونس والجزائر"، وتابع: "لا شك أن محنة الحركة الإسلامية في مصر وفي تونس وفي الجزائر استفادت منها جماعات شيعية، وثقت علاقاتها بالدول القائمة، بل توثقت علاقة إيران الدولة مع هذه الأنظمة ومنها النظام التونسي. ومع أننا لسنا دعاة قطيعة بين إيران الدولة وتونس الدولة، ولكننا نرى أن العلاقة انتقلت إلى مستوى من التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي عميق. وفي الوقت الذي تحظر فيه الحركة الإسلامية وتواجه بخطة تجفيف ينابيع واستئصال وتحظر كتابات التيار الاسلامي الوسطي مثل كتابات القرضاوي والغزالي وسيد سابق وأمثالها وحتى الكتابات التراثية، انفتحت معارض الكتاب في تونس في وجه الكتابات الشيعية. وبينما تنطلق المطاردة الشعواء ضد الحركة الاسلامية تقوم في البلاد لأول مرة منذ الف سنة "جمعية آل البيت" وينفسح المجال أمام الدعوة الشيعية وتنفتح خطوط الاتصال بين رموز التشيع في تونس وبين طهران، في الوقت الذي يمنع فيه رئيس حركة النهضة من زيارة طهران".
ويردف "الغنوشي" قائلاً: "كما فشا الحديث في أجواء التواصل المتنامية في أجواء الحرب على الإسلام وعلى التيار الاسلامي عن أعداد متزايدة من الطلبة التونسيين يستقطبون الى جامعات دينية شيعية في إيران، ونحن لا نملك أعدادًا محددة لهم، وهم يحظون برعاية من جهات هنالك. وهي ظاهرة ليس من شأنها -مهما كان حجمها في مناخات الحرب على التيار الاسلامي- إلا أن تبعث حراس مقومات الشخصية الوطنية للبلاد على القلق، إذ لا يرونها ظاهرة طبيعية وإنما تقف وراءها جهات ومراجع، ولا نرى أنها تتماشى مع ما يعلنه الجميع من حرص على الوحدة الإسلامية"، كما قال.
ولفت "الغنوشي" الانتباه إلى أن: "مذهب التشيع يختلف عن المذاهب السنية في قضايا كثيرة معظمها يعود إلى التاريخ، هذا التاريخ الذي أريد له أن يكون حيًا وصانعًا للواقع، وأن تفرض على المسلمين رؤية له إقصائية أسست وتؤسس للتشظي الاسلامي، رؤية تمزق صف الأمة، إذ تقصي من الإسلام أغلب بناته رجالا ونساء وتحولهم إلى خونة، وتجعل لعنهم ولعن من لا يلعنهم عبادة وقربة، فيتحول معظم المقربين الى صاحب الدعوة عليه وآله الصلاة والسلام رجالا ونساء إلى خونة وتصبح هذه عقيدة يتعبد بها ويتقرب بها إلى الله. مقابل الرؤية الجامعة لتاريخ الصدر الأول من الإسلام التي تبنّتها المذاهب السنية، فتترضّى عن كل الاصحاب من أصاب ومن أخطأ اجتهادا".
وحذر "الغنوشي" من أن هنالك توجها شيعيًا يعمل على نشر هذا التصور الذي وصفه بـ "الانقسامي" مستغلا ما أسماه بـ"حالة الانتصار الشيعي في عدد من معارك الأمة" (ربما يقصد الانسحاب التكتيكي الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، ومسرحية حرب تموز2006)! وإذ اعتبر أن "الاستمرار في استحضار الخلاف التاريخي والنفخ فيه جزء من مؤامرة لخدمة أعداء الأمة"، حذر "الغنوشي" من أن "الخشية قائمة من أن يكون رهان أعداء الاسلام على ضرب الإسلام بالإسلام فليتنبه الجميع".(القدس برس).
ما نستطيع قوله الآن، إن علينا متابعة مسار الأحداث في تونس، وخصوصًا موقف الجيش وجماعة "الشيخ الغنوشي" وتحركات جمعية "آل البيت" ومختلف الجماعات التونسية الإسلامية وسواها، فـمستقبل تونس بعد "بن علي" لم يتضح بعد، و"ثورة الياسمين" لا تزال مستمرة…
عبدو شامي الثورة المصرية، موضوع الحلقة الثامنة من هذه السلسلة.
التعليقات (0)