شخصية بيلاطس
بيلاطس البنطي والي اليهودية في زمن يسوع يعتبر من الشخصيات الرئيسية في الأناجيل وظهر هذا الأمر خاصة في قصة محاكمة وصلب يسوع, لان دوره تنوع في صنع أحداثها بحسب كل إنجيل.
ومع قيام بيلاطس بالدور الرئيس في قصة المحاكمة والصلب, طبعاً بعد شخصية يسوع, باعتباره الوالي الذي كان بيده السلطان على صلب يسوع أو العفو عنه كما قال هذا الكلام ليسوع في احد الأناجيل, وهو في النهاية من أصدر حكم القتل والصلب.
إلا اننا نجد ان هذه الشخصية لم تحظى بالقدر نفسه من الكراهية التي حظي بها الشيطان او يهوذا الخائن او رؤساء الكهنة والفريسيون زعماء اليهود الذين سعوا في قتل يسوع عند بيلاطس.
كما ان هذه الكراهية القليلة نسبياً لم تلحق بجنس بيلاطس أعني الرومان كما لحقت بجنس اليهود على مدار التاريخ مع ان يسوع قال وهو معلق على الصليب يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون كما ذكر احد الأناجيل.
وعدم ظهور هذه الكراهية في الضمير الكنسي وتركزها على اليهود يثير عدة تساؤلات عن سببه, هل هو عدم رغبة الكنائس بإثارة السلطات الحاكمة في روما باعتبار بيلاطس يمثلها؟
لان تركيز الكراهية عليه يمثل عملاً يمكن ان تعتبره روما موجهاً إليها وبالتالي فان روما ستواجه الكنائس باعتبارها تدعوا لكراهية قيصر والثورة عليه, وهذا الاعتبار يمكن ان نلاحظه كذلك في الأناجيل من خلال بعض أقوال يسوع وبعض مواقفه من الحكم!
- ولما جاءوا الى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين الى بطرس وقالوا أما يوفي معلمكم الدرهمين, قال بلى .... فخذه وأعطهم عني وعنك. (متّى17/24-27)
وقوله الشهير أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما للرب للرب. (متّى22/21-22)
- وقدّم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت في زنا,
قالوا له يا معلم هذه امرأة أمسكت وهي تزني في ذات بعل, وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت,
انتصب وقال لهم من كان بلا خطيئة فليرمها اولاً بحجر. (يوحنا8/3-7)
كما يمكن ان نلاحظ هذا الموقف المهادن لسلطان روما بقول بولس لأتباعه ان قيصر هو خادم الرب في الارض ودعوته لأتباعه بطاعة السلاطين والملوك والخضوع لهم, وهم لم يكونوا في ذلك الوقت من اتباع الكنائس؟
- لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة, لانه ليس سلطان الا من الإله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الإله,
حتى ان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الإله,
والمقاومون سيأخذون لانفسهم دينونة,
فان الحكام ليسوا خوفا للاعمال الصالحة بل للشريرة,
افتريد ان لا تخاف السلطان, افعل الصلاح فيكون لك مدح منه,
لانه خادم الإله للصلاح, ولكن ان فعلت الشر فخف,
لانه لا يحمل السيف عبثا اذ هو خادم الإله,
منتقم للغضب من الذي يفعل الشر,
لذلك يلزم ان تخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل ايضا بسبب الضمير,
فانكم لاجل هذا توفون الجزية أيضاً,
اذ هم خدام الإله, مواظبون على ذلك بعينه, فأعطوا الجميع حقوقهم, الجزية لمن له الجزية, والجباية لمن له الجباية, والخوف لمن له الخوف, والاكرام لمن له الاكرام. (رومية13/1-7)
ام ان تركيز الكراهية تجاه جنس اليهود كان بسبب معرفة الكنائس ان عدم ايمان اليهود بمعتقداتها سيبقى حجر عثرة أمام الكنائس في اقناع الناس بقوانين ايمانها والتفسيرات التي تقوم بها لنصوص العهد القديم والقول انها تتحدث عن يسوع, اذ ان عدم ايمان اليهود بهذه العقائد وتلك التفسيرات تبقى دليلاً للكثيرين على عدم صحتها اذ لو ان هذه القوانين والتفسيرات والاحداث كانت صحيحة لآمن اليهود وخاصة ان يسوع لم يرسل الا اليهم, وهو أصلاً منهم وكان ملتزماً بشريعتهم, فعدم ايمانهم بقوانين الكنائس وتلك التفسيرات حال دون تفردهم بنشرها, ولهذا صبّوا جام غضبهم وكراهيتهم على اليهود, لا بل وكثيراً ما حاولت الكنائس افنائهم جميعاً كجنس وكأُمة.
وكذلك الحال بالنسبة لعدم اظهار الكراهية لجنس الرومان, فالكنائس بعد ان عجزت عن اقناع اليهود بقوانينها وتفسيراتها للعهد القديم توجهت لدعوة الشعوب غير اليهودية فكيف ستدعوا لكراهية الاجناس الاخرى وهي تدعوهم للايمان بمعتقداتها مع ان هذا الموقف مخالف لما كان عليه يسوع, اذ نجد ان يسوع يصف الشعوب الاخرى بالكلاب والخنازير ويأمر تلاميذه ان لا يطرحوا دررهم ولا الروح الذي يحملوه امام تلك الشعوب حتى انه منع تلاميذه من السير في طرقهم ونهاهم عن الدخول لمدن السامريين؟
- لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدّام الخنازير, لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم. (متّى7/6)
- هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم وأوصاهم قائلاً
إلى طريق أمم لا تمضوا والى مدينة للسامريين لا تدخلوا,
بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. (متّى10/5-6)
- وقال لم أُرسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة,
فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني,
فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب,
فقالت نعم يا سيد, والكلاب ايضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها. (متّى15/24-27)
فعدم ايمان اليهود اضطر الأتباع الأوائل ان يتوجهوا للشعوب الاخرى مما جعلهم يخففون من الخطاب التحقيري لتلك الشعوب ونسيان او تجاهل أقوال يسوع ومواقفه!
ان اول ذكر لبيلاطس جاء في الاناجيل من الناحية الزمانية, أعني من ناحية ذكره بحسب التسلسل التاريخي لحياة يسوع وليس باعتبار ترتيب الاناجيل في الطباعة, هو هذا النص من انجيل لوقا:
- وكان حاضراً في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم. (لوقا13/1)
في هذا النص نجد ان شخصية بيلاطس تدل على العنف الشديد حتى انه لم يتورع عن قتل هؤلاء الجليليين القادمين لزيارة الهيكل, ولم يكتف بهذا بل خلط دمائهم بدماء ذبائحهم التي احضروها ليقربوها في الهيكل, وهذه الصفة تختفي عندما تتحدث الاناجيل عنه في قصة الصلب كما سنرى لاحقاً.
كما نجد في هذا النص ان قوماً أخبروا يسوع عن هؤلاء الجليليين وهو ما يتناقض مع الصفة التي تقدمها الكنائس ليسوع باعتباره احد الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد, مما يشير الى ان هذا الاقنوم لا يعلم الغيب كما يفترض بمن هذا صفته.
والاغرب من هذا هو تعليق يسوع على هذه الحادثة بقوله:
- فأجاب يسوع وقال لهم أتظنون ان هؤلاء الجليليين كانوا خطاة أكثر من كل الجليليين لانهم كابدوا مثل هذا,
كلا أقول لكم, بل ان لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. (لوقا13/2-3)
ولم يؤمن الجليليون كما تخبرنا الاناجيل ولكنهم لم يهلكوا بخلط دمائهم بذبائحهم كما تنبأ يسوع!
ثم يختفي ذكره الى وقت محاكمة يسوع فتذكره الاناجيل الاربعة خلال محاكمة يسوع بعد القاء القبض عليه وانا سأعتمد انجيل متّى كأساس للشخصية باعتباره اول الاناجيل المطبوعة في الكتاب المقدس مع ذكر الاختلافات او الزيادات التي في الاناجيل الاخرى.
فمتّى يذكر ان اليهود مضوا بيسوع الى بيلاطس كما في النص التالي:
- ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه فأوثقوه ومضوا به الى بيلاطس البنطي الوالي,
فوقف يسوع امام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت ملك اليهود,
فقال له يسوع انت تقول. (متّى27/11)
في هذا الواقعة تتفق الاناجيل الاخرى مع متى سواء في وقت أخذ يسوع او فيمن أخذه أو فيمن استقبلهم لأخذه كما ذكر مرقس:
- وللوقت في الصباح تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله فأوثقوه ومضوا به وأسلموه الى بيلاطس. (مرقس15/1)
ولكن الاناجيل تختلف في السبب الذي من أجله قام اليهود بتسليم يسوع لبيلاطس, فكما نقرأ في النصين التاليين ان متّى ومرقس لم يذكرا أي شيء عن السبب:
- وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء,
فقال له بيلاطس أما تسمع كم يشهدون عليك,
فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جداً. (متّى27/12-14)
- وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً,
فسأله بيلاطس أيضاً أما تجيب بشيء انظر كم يشهدون عليك,
فلم يجب يسوع أيضاً بشيء حتى تعجب بيلاطس.(مرقس15/3-5)
فمتّى ومرقس لم يذكرا سوى ان رؤساء الكهنة والشيوخ كانوا يشتكون عليه ولكنهما لم يذكرا لنا ما هي تلك الشكاوى!
واما لوقا فذكر لنا سبب الشكوى عليه فقال:
- وابتدئوا يشتكون عليه قائلين اننا وجدنا هذا يفسد الامة ويمنع ان تعطى جزية لقيصر قائلاً انه مسيح ملك,
فسأله بيلاطس قائلاً أنت ملك اليهود,
فأجابه وقال له انت تقول. (لوقا23/2-3)
ولكن هذا السبب للشكوى ليس مقنعاً لبيلاطس فقط الذي تجاهله كما سنقرأ لاحقاً, بل كذلك ليس مقنعاً ليوحنا اذ كتب في انجيله وهو آخر الاناجيل تدويناً كما هو معروف:
- ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا الى دار الولاية وكان صبح,
ولم يدخلوا هم الى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلوا الفصح, فخرج بيلاطس اليهم وقال أية شكاية تقدمون على هذا الانسان,
أجابوا وقالوا له لو لم يكن فاعل شرّ لما كنا قد سلمناه اليك. (يوحنا18/28-30)
فقول لوقا ان اليهود قالوا ان يسوع يُفسد الأُمة ويمنع ان تعطى الجزية لقيصر خطأ لعدة اسباب.
الاول ان يسوع كان يدفع الجزية للرومان.
الثاني ان يسوع كان يأمر تلاميذه بطاعة قيصر كما في قوله أعطوا ما لقيصر لقيصر.
الثالث ان يسوع لم يكن يُعلن عن صفته انه المسيح, لا بل انه كان يوصي الشياطين الذين أخرجهم من بعض الناس ان لا يظهروا صفته تلك, كما انه كان يوصي تلاميذه ان لا يقولوا لأحد أنه المسيح!
الرابع ان يسوع هرب من الناس عندما حاولوا ان يختطفوه ويجعلوه ملكاً وذهب الى جبل وحده.
- واما يسوع فإذ علم انهم مزمعون ان يأتوا به ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف ايضاً الى الجبل وحده. (يوحنا6/15)
الخامس ان الأناجيل الثلاثة لم تذكر هذه الشكوى مما يدل على أنهم لم يكونوا مقتنعين بها لتكون سبباً للشكوى على يسوع.
السادس ان بيلاطس نفسه لم يأخذها على محمل الجد, والا لو كانت صحيحة لما تصرف مع يسوع في المحاكمة بهذا الشكل المتساهل وهو كما ذكر لوقا نفسه من العنف بحيث انه كان يخلط دماء أعدائه بدم ذبائحهم, كما فعل مع الجليليين.
وهنا قد تعترض الكنائس فتقول ان شكوى اليهود على يسوع لا يعني ان تكون صحيحة او حقيقية بل قد تكون كذباً ولوقا لم يفعل سوى نقل أقوالهم, وهذا لا يدل على خطأ لوقا.
أقول لهؤلاء ان نقل الواقع شيء وصناعته شيء آخر, فالاناجيل تخبرنا ان اليهود ظلوا فترات طويلة من الزمن يحاولون ان يوقعوا بيسوع ليمسكوا عليه قولاً او فعلاً يستطيعون به الشكوى عليه عند الرومان ولم يفلحوا لأن يسوع لم يكن يصدر عنه أي قول او فعل مخالف لسلطة الرومان, كما حدث معه عندما قدموا له امرأة زانية حتى يحكم عليها بحكم مخالف لأحكام الرومان, وكما حاولوا معه كي يقول شيئاً ضد قيصر عندما سألوه إن كان يجوز إعطاء قيصر الجزية.
كما انهم لم يكونوا متأكدين من صفته كمسيح وفي عدة مواضع تخبرنا الأناجيل انهم حاولوا معه كي يصرح لهم بصفته ولكنه كان في كل مرة لا يظهر صفته!
واخيراً فقد ظل اليهود طوال الليل وهم يبحثون عن شهود كي يشهدوا ضده ولم يجدوا حتى تقدم شاهدان قالا انهما سمعاه يقول انه يستطيع هدم الهيكل واعادة بنائه في ثلاثة أيام, مما يدل على ان اليهود لم يكونوا بتلك السذاجة كي يقولوا لبيلاطس ان يسوع يدعو لمنع دفع الجزية لقيصر وخاصة انهم يعلمون ان في استطاعة بيلاطس التأكد من هذه المعلومة فاذا ظهر له ان يسوع يدفع الجزية فسيعتبر قول اليهود هذا نوعاً من الاستهزاء به وبسلطاته.
وهم يعلمون كذلك ان بيلاطس بلا رحمة وانه يخلط دماء اعدائه بذبائحهم فقول لوقا هذا لا يدل على انه يمكن ان يصدر من اليهود وخاصة ان الاناجيل الثلاثة لم تذكره وبيلاطس نفسه تجاهله!
ننتقل الآن لنشاهد مجريات محاكمة يسوع الاقنوم الثاني من الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد كما ذكرتها الاناجيل فنجد ان متّى ذكر مجريات المحاكمة كما يلي:
- فوقف يسوع امام الوالي فسأله الوالي قائلاً أأنت ملك اليهود,
فقال له يسوع انت تقول. (متّى27/11)
هكذا بدأت محاكمة يسوع وهكذا انتهت, انت ملك اليهود قال يسوع انت تقول!
ولكن متّى الذي لم يكتب لنا تفاصيل الشكوى لم ينس ان يكتب لنا عن الحلم الذي حلمته امرأة بيلاطس فقال:
- واذ كان جالساً على كرسي الولاية أرسلت اليه امرأته قائلة اياك وذلك البار, لاني تألمت اليوم كثيراً في حلم من اجله. (متّى27/19)
هنا نجد ان متّى يحدثنا عن حلم امرأة بيلاطس ومع انه لم يذكر لنا تفاصيل الحلم الا ان من يقرأ الاناجيل وخاصة أول مرة يكون متلهفاً لمعرفة أثر هذا الحلم في مجريات المحاكمة, ولكن المفاجئة ان لا أثر لهذا الحلم!
وهو ما يطرح ظلال الشك على أصله, اذ اننا نقرأ في العهد القديم عن بعض الأحلام التي ظهر الرب فيها لأصحابها قد أعطت النتائج المرجوة منها ولكن حلم امرأة بيلاطس لم يعط أي نتيجة!
فهل كان متّى يحاول ان يقتبس من تلك الأحلام وينزلها على يسوع, إذ كيف يظهر الرب في أحلام لينقذ إبراهيم ويعقوب من الشرور التي كانت تحيق بهم ولا يظهر في حلم في قصة المحاكمة, وان كان متّى لم يخبرنا عن تفاصيل هذا الحلم ولم تظهر نتيجة لهذا الحلم إلا انه لا بأس من وجود قصة تتحدث عن حلم كما في قصص إبراهيم ويعقوب ولأنه وهو يكتب إنجيله كان يريد ان يوصل الاقنوم الثاني للصلب ومن ثم القتل او الموت فكان صعباً عليه كتابة أي أثر لذلك الحلم, مع الاحتفاظ بوجود حلم كما حدث مع إبراهيم ويعقوب.
- وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أُختي,
فأرسل أبيمال ملك جَرَارَ وأخذ سارة,
فجاء الرب الى أبيمالك في حلم الليل, وقال له ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فانها متزوجة ببعل, ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب اليها, فقال يا سيد أأمةً بارّة تقتل, ألم يقل هو لي انها أختي.
(تكوين20/2-3)
- وأتى الرب الى لابان الارامي في حلم الليل فقال له احترز من ان تكلم يعقوب بخير او شرّ. (تكوين31/24)
وأما مرقس فكتب مجريات المحاكمة كما يلي:
- فسأله بيلاطس انت ملك اليهود فأجاب وقال له انت تقول,
وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً,
فسأله بيلاطس أيضاً قائلاً أما تجيب بشيء انظر كم يشهدون عليك,
فلم يجب يسوع بشيء حتى تعجب بيلاطس. (مرقس15/2-5)
وهنا مرقس يبدأ المحاكمة بسؤال بيلاطس انت ملك اليهود واجابة يسوع له انت تقول!
على الرغم من ان الكهنة كانوا يشهدون كثيراً عليه الا انه لم يذكر لنا تلك الشهادات, وتنتهي المحاكمة كما انتهت في انجيل متّى سؤال وجواب!
واما لوقا فأعطى للمحاكمة مساراً مختلفاً وهو الوحيد الذي ذكر سبباً لشكوى اليهود على يسوع الاقنوم الثاني من الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد, فقال:
- فسأله بيلاطس قائلاً أنت ملك اليهود,
فأجابه وقال له انت تقول,
فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع اني لا اجد علّة في هذا الانسان,
فكانوا يشددون قائلين انه يهيج الشعب وهو يعلّم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل الى هنا,
فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل هل الرجل جليلي,
وحين علم انه من سلطنة هيرودس أرسله الى هيرودس اذ كان هو أيضاً تلك الايام في أورشليم. (لوقا23/1-7)
وهنا نجد ان لوقا بعد ان ذكر السبب الذي من اجله شكا اليهود على يسوع قد قام بتقسيم المحاكمة الى ثلاثة اجزاء الاول كما ذكر متّى ومرقس فكان سؤال وجواب يحمل نفس المضمون انت ملك اليهود فيكون الرد انت تقول.
ولعل لوقا لم يقتنع بإنهاء المحاكمة عند هذا الحد وهو يتحدث عن محاكمة الاقنوم الثاني من الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد كما تقول الكنائس, فأقام له محاكمة ثانية وذلك بكتابة قصة انفرد بها عن الاخرين وهي ان هيرودس قام بمحاكمة يسوع بعد ان ارسله اليه بيلاطس كما نقرأ في النص التالي:
- واما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جداً لانه كان يريد من زمان طويل ان يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة, وترجّى ان يرى آية تصنع منه, وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء,
ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد,
فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأوا به وألبسه لباساً لامعاً ورده الى بيلاطس,
فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما. (لوقا23/8-12)
ثم أقام له محاكمة مرة ثالثة عند بيلاطس كما في النص التالي:
- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم قد قدمتم اليّ هذا الانسان كمن يفسد الشعب,
وها أنا فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الانسان علّة مما تشتكون به عليه, ولا هيرودس أيضاً, لأني أرسلتكم اليه,
وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه, فأنا أُؤدبه وأُطلقه. (لوقا23/13-16)
وهنا تنتهي المحاكمة كما كتبها لوقا, ولكن يبقى عليها عدة ملاحظات, الأولى وهي لماذا تفرد لوقا بذكر محاكمة يسوع من قبل هيرودس؟
ونحن لم نجد أي أثر لهذه المحاكمة سوى إلصاق بعض الشتائم بيسوع, كقول لوقا ان هيرودس احتقر يسوع الاقنوم الثاني وانه استهزأ به وألبسه لباساً لامعاً.
الملاحظة الثانية ان لوقا يُظهر يسوع انه لم يكن معنياً بإظهار صفته التي تلصقها به الأناجيل وقوانين الكنائس باعتباره ابن الإله والاقنوم الثاني من الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد.
الملاحطة الثالثة وهي ظهور يسوع بانه لا يعتني بنشر دعوته بين الناس, او على الأقل بين غير اليهود, وقد كانت هذه فرصة ليسوع ان يجعل هيرودس يؤمن به وخاصة انه كان فرحاً جداً لرؤيته!
وأما يوحنا فأخذ مجريات المحاكمة الى اتجاه آخر لم يكتبه متّى ولا مرقس وحتى لوقا لم يذكر شيئاً عنه, فكتب بعد ان قال ان رؤساء اليهود قالوا لبيلاطس انه لو لم يكن فاعل شر لما سلموه ما يلي:
- فقال لهم بيلاطس خذوه انتم واحكموا عليه حسب ناموسكم,
فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحداً,
ليتم قول يسوع الذي قاله مشيراً الى أية ميتة كان مزمعاً ان يموت. (يوحنا18/28-32)
كما نقرأ فإن يوحنا كتب ان بيلاطس قال لليهود خذوه انتم واحكموا عليه حسب ناموسكم, ومن يقرأ هذه الكلمات يظن ان بيلاطس يتحدث مع أناس مساوون له في السلطان والحكم, وليسوا عبيداً عنده وتحت سلطانه, ويدفعون له الجزية, وان أياً منهم يخالف قوانينه فانه يخلط دمائهم بذبائحهم!
كيف يقول بيلاطس لليهود خذوه واحكموا عليه حسب ناموسهم؟!
ولوقا كما قرأنا قال ان سبب شكوى اليهود على يسوع هو محاولته ان يفسد الشعب على سلطة قيصر!
ولكن يوحنا عندما كتب هذه الفقرات أراد ان يوصل لنا فكرة عن حادثة الصلب وهي قوله ليتم قول يسوع الذي قاله مشيراً الى أية ميتة كان مزمعاً ان يموت!
فجواب اليهود لبيلاطس انه لا يجوز لهم ان يقتلوا أحداً هو لإعطاء مبرراً كي يُصلب يسوع على الخشبة وهو حيّ.
لان ناموس اليهود وهو يتحدث عن الصلب يقول انه يتم بعد القتل وليس قبله كما في النص التالي:
- واذا كان على انسان خطية حقها الموت فقتل وعلّقته على خشبة,
فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم لان المعلق ملعون من الرب,
فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيباً. (التثنية21/22-23)
بخلاف قانون الرومان الذي يصلب الانسان وهو حي, لهذا كتب يوحنا هذا القول الخاطئ على لسان اليهود والذي يعلم أي انسان انه خاطئ, لان من له أدنى علم بشريعة اليهود يعلم انه يوجد بها أحكام كثيرة تحكم بالقتل على فاعلها حتى ان من يشتم أباه وأُمه فان حكم ناموس أو شريعة اليهود عليه هو القتل فكيف يقول اليهود انه لا يجوز في ناموسهم ان يقتل احد؟!
الجواب كما قدمت لأن يوحنا يريد ان يصلب يسوع وهو حيّ!
وهذا ما سنلاحظه بعد قليل عندما يقول نفس هؤلاء اليهود وفي نفس الحادثة ان لهم ناموس وحسب ناموسهم يجب ان يموت لانه جعل نفسه ابناً للإله.
- ثم دخل بيلاطس أيضاً الى دار الولاية ودعا يسوع وقال له انت ملك اليهود,
أجابه يسوع أمِنْ ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني,
أجابه بيلاطس ألعلي أنا يهودي,
أمتك ورؤساء الكهنة ارسلوك إلي, ماذا فعلت,
أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم,
لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا اسلم إلى اليهود, ولكن الان ليست مملكتي من هنا,
فقال له بيلاطس أفأنت إذا ملك,
أجاب يسوع أنت تقول أني ملك,
لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق, كل من هو من الحق يسمع صوتي,
قال له بيلاطس ما هو الحق,
ولما قال هذا خرج أيضاً الى اليهود وقال لهم انا لست اجد فيه علة واحدة,
........
وقال ليسوع من أين أنت,
وأما يسوع فلم يعطه جواباً,
فقال له بيلاطس أما تكلمني,
الست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك,
أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق. (يوحنا18/33-38) و(يوحنا19/9)
في هذا الجزء من مجريات محاكمة يسوع, الذي أخذنا اليه يوحنا وحده من بين كتبة الأناجيل, نجد ان بيلاطس هادئ وهو يستجوب يسوع, فعندما سأله انت ملك اليهود نسمع ردّ يسوع عليه بقوله أمِن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني, وكأني بيسوع كان يرجو ان يؤمن بيلاطس, ولكن بيلاطس يحافظ على هدوئه مع الاحتفاظ بمكانته أمام الواقف أمامه لمحاكمته فيقول ألعلي أنا يهودي, أُمتك ورؤساء الكهنة أرسلوك اليّ, ماذا فعلت, وهذا القول يؤكد ان بيلاطس لم يعر أي اهتمام لشكوى اليهود, ولكن يسوع بدلاً من ان يظهر صفته التي تؤمن بها الكنائس نجده يجيب بيلاطس بقوله ليست مملكتي من هذا العالم!
وهذا الجواب يلقي بظلاله على قوانين ايمان الكنائس القائلة ان يسوع أحد الاقانيم الثلاثة والذين هم واحد, اذ اننا نجد ان الارض خارج مملكة الاقانيم الثلاثة فهل تقول الكنائس ان العالم المادي هذا ليس تحت سيطرة الاقانيم الثلاثة؟!
ومن هو الذي خطف هذا العالم من سيطرة الاقانيم الثلاثة ومن هو الأولى بالأتباع الاقانيم الثلاثة أم الذي سيطر على هذا العالم؟
واذا لم يستطع الاقنوم الثاني يسوع من السيطرة على هذا العالم في المرة الأولى فمن يضمن انه سيُسيطر عليه في حال عودته مرة ثانية ولا يتم صلبه كما فعل به اليهود أول مرة؟!
كما أن هذا الجواب يؤكد أنه لا توجد علاقة بين الأقانيم الثلاثة ةبين الرب خالق السموات والأرض والذي يملك كل ذرة في هذا العالم وفي غيره من العوالم كما هو مذكور في العهد القديم.
ثم يكمل يسوع كلامه فيقول لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا اسلم إلى اليهود, ولكن الآن ليست مملكتي من هنا,
وهذا يثير مشكلات كثيرة امام الكنائس في تثبيت قوانينها اذ ان العهد القديم مليء بالقصص التي تتحدث عن إرسال الرب للملائكة لنصرة أنبيائه فما الذي منع يسوع من استحضار بعض الملائكة لنصرته؟
واذا عجز عن ذلك فهل الاقنوم الذي يعجز عن طلب مساعدة خدمه هو فعلاً مسيطراً عليهم؟
كما ان هذا القول ينقض قانون الفداء والخلاص الذي تؤمن به الكنائس اذ ان يسوع وفي آخر ساعاته على الارض يقول انه لو كانت مملكته هنا لطلب المساعدة من أجل منع اليهود من صلبه.
فلو كان يسوع قد جاء ليُخلص البشرية من تلك الخطيئة لقال لبيلاطس انه جاء ليرفع خطيئة البشرية فاحكم عليّ بأسرع ما يمكن لأنني لهذا جئت كما كتب لنا يوحنا في انجيله قبل هذا بقليل عن طلبه من يهوذا ان يقوم بعملية الإرشاد عليه بأسرع ما هو فاعله وقال يوحنا معقباً على ذلك بقوله ان التلاميذ لم يعرفوا قصد يسوع.
ولكن بيلاطس بعد هذا الحديث يبقى هادئاً فيقول ليسوع أفأنت اذاً ملك؟
وهذه الصفة هي التي وضع كتبة الاناجيل والكنائس من اجل إثباتها ليسوع كل نصوص العهد القديم وكل النبوءات التي تنبأ بها كل من ملاك الرب وزكريا ويوحنا وغيرهما, فهل صرح بها يسوع؟
الجواب هنا هو المحير وليس السؤال, كلا, لم يُجب يسوع عن السؤال باعلان انه ملك على الرغم من عشرات النبوءات التي تقول لنا الكنائس انها تتحدث عن يسوع باعتباره ملكاً يجلس على كرسي أبيه داؤد ولا يكون لملكه نهاية! بل قال لبيلاطس أنت تقول!
ماذا يعني بأنت تقول؟
ممن كان يخاف الاقنوم الثاني من الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد كما تقول الكنائس حتى لا يظهر صفته ؟
ولماذا يخاف وهو ما جاء الا ليُصلب كي يحمل خطيئة آدم وذريته؟!
ثم يكمل حديثه الفريد فيقول انه جاء ليشهد للحق, وانه من كان من الحق يسمع صوته, وهنا لم يقل انه جاء لرفع خطيئة البشرية ولا ليفدي البشرية بل قال ليشهد للحق وهذا القول يثير في نفس أي انسان يسمعه رغبة في الاستفسار عن الحق الذي جاء ليشهد له يسوع حتى أن بيلاطس قال له ما هو الحق.
ولكن يوحنا لم يذكر لنا جوابه بدعوى ان بيلاطس خرج الى اليهود!
ولماذا لم ينتظر بيلاطس جواب يسوع عما هو الحق وهو الذي سأل السؤال؟
وخاصة انه خرج كما كتب يوحنا الى اليهود وقال لهم انه لا يجد فيه علة, وهذا يدل على انه عرف ان يسوع ليس به علة والنصوص السابقة لا تدل على هذا الشيء الا اذا سمع جواب يسوع ما هو الحق.
واذا كان بيلاطس لم يسمع جواب يسوع عما هو الحق فلماذا لم يكتب لنا يوحنا جواب يسوع ويظهر لنا ما هو الحق؟
أم إن يوحنا أخفى جواب يسوع عن سؤال ما هو الحق, كما قال في آخر إنجيله انه لم يكتب كل ما يعرفه عن يسوع وبالتالي حرم أتباع الكنائس من معرفة جواب يسوع عما هو الحق!
- وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدّام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب,
وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا ان يسوع هو المسيح ابن الإله,
ولكي تكون لكم اذا آمنتم حياة باسمه. (يوحنا20/30-31)
- وأشياء كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن ان العالم نفسه يسع الكتب. (يوحنا21/25)
وأما قول يوحنا على لسان يسوع كل من هو من الحق يسمع صوتي, فأنا أتساءل ان كان هرب التلاميذ عند إلقاء القبض عليه كانوا من الحق الذي سمع صوته أم لا؟
إلى هنا تنتهي محاكمة يسوع وتبدأ محاولة بيلاطس للإفراج عن يسوع وكان قد خيرهم بينه وبين باراباس فمن هو باراباس؟
باراباس
- وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس. (متّى27/15-16)
- وكان المسمى باراباس موثقاً مع رفقائه في الفتنة الذين فعلوا قتلاً. (مرقس15/6-8)
- فصرخوا بجملتهم قائلين خذ هذا وأطلق لنا باراباس,
وذاك كان قد طرح في السجن لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل. (لوقا23/17-19)
- وكان باراباس لصاً. (يوحنا18/38-40)
باراباس الرجل الذي استبدله اليهود بيسوع, يقول عنه متّى انه كان أسيراً ومرقس ولوقا يقولان انه كان مطروحاً في السجن لأجل فتنة ولم يذكرا لنا شيئاً عن تلك الفتنة إلا انه حدث خلالها قتل, وأما يوحنا فيصفه باللص وهذا يذكرني بيهوذا الذي وصفه يوحنا باللص.
ولا يهم هنا الاختلاف في صفة باراباس فهي ظاهرة للعيان, وانما قول مرقس ولوقا انه كان في السجن لأجل فتنة حدث فيها قتل, أي إن باراباس قام بعمل مشكلة مع الرومان, لأنه لو كان لصاً فان سرقته لبعض البيوت أو المحال التجارية لا تؤدي إلى فتنة بين الشعب, أو بين الشعب والدولة, وهي هنا ليست دولة عادية بل هي إمبراطورية.
فبمقارنة هذا الرجل الذي قام بفتنة أدت إلى القتل وقول لوقا عن اليهود أنهم سلموا يسوع بحجة انه يسعى لإفساد الشعب على قيصر, أي انه يسعى لإحداث فتنة وقول يوحنا في إنجيله ان قيافا قال انه يجب ان يسلموا يسوع حتى لا يحدث فتنة وانه خير لهم ان يموت واحد عن الأمة من إن تموت الأمة كلها.
- إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به, فيأتي الرومان ويأخذون موضعنا وأمتنا, فقال لهم واحد منهم وهو قيافا, كان رئيساً للكهنة في تلك السنة انتم لستم تعرفون شيئاً, ولا تفكرون انه خير لنا أن يموت واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. (يوحنا11/48-50)
نجد أن طلب اليهود باراباس بدلاً من يسوع هو إشارة إلى أنهم كانوا موافقين على فتنة باراباس مما يعطي بيلاطس أكثر من دليل على سعي اليهود لإحداث فتن جديدة في المستقبل, وهو ما كان سيعتبر كذلك أكبر حجة لبيلاطس على عدم إطلاق باراباس وخاصة انه لم يجد في يسوع أي علة توجب قتله بالإضافة إلى الحلم الذي حلمته امرأته الذي اخبرنا به متّى.
ولكن كيف تمت عملية التخيير بينهما كما وردت في الأناجيل الأربعة؟
لنقرأ النصوص التالية:
- ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس من تريدون ان اطلق لكم, باراباس ام يسوع الذي يدعى المسيح,
لأنه علم أنهم أسلموه حسداً. (متّى27/17-18)
في هذا النص نقرأ ان متّى يقول ان بيلاطس خيرهم بين يسوع وباراباس لأنه علم أنهم أسلموه حسداً, وهذا القول من غرائب الأقوال, إذ لو كان هذا القول صحيحاً لما خيرهم بل كان يفترض به أن يطلق لهم يسوع لأنه علم أنهم أسلموه حسداً! وخاصة أن بيلاطس علم بالحلم الذي حلمته امرأته وحذرته من التعرض ليسوع, كما انه بحسب الأناجيل كلها فحص يسوع ولم يجد فيه علة توجب الموت!
- ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على ان يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع,
قال لهم بيلاطس فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح,
قال له الجميع ليصلب,
فقال الوالي وأي شرّ عمل,
فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليصلب,
فلما رأى بيلاطس انه لا ينفع شيئاً بل بالحري يُحدث شغب,
أخذ وغسل يديه قدّام الجمع قائلاً اني بريء من دم هذا البار,
ابصروا انتم , فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا,
واما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب. (متّى27/30-36)
في هذه الفقرات يستكمل متّى قصة التخيير فنجد ان بيلاطس بعد ان حرّض رؤساء اليهود الشعب على المطالبة بباراباس وإهلاك يسوع, نجده يسأل اليهود عن السبب الذي من أجله يطلبون صلب يسوع فيزداد صراخهم ليُصلب, وعندها رأى ان عدم صلب يسوع يمكن ان يحدث شغباً, وهنا لا بد من وقفة مع هذا الكلام اذ ان من يقرأ هذه الكلام يظن ان اليهود هم سادة الرومان وليس العكس, كما انه يُنسينا قول لوقا ان بيلاطس من شدة عنفه يخلط دماء أعدائه بذبائحهم, فكيف يخاف بيلاطس ممثل قيصر والإمبراطورية الرومانية العظمى من اليهود؟!
وكيف سيوافق على إطلاق باراباس الذي كان مشاركاً في فتنة أحدثت قتلاً, وان لم يذكر هذا الأمر متّى الا ان لوقا قد ذكره, ويصلب يسوع الذي ظهر له ولهيرودس انه لا يوجد به علة توجب الموت؟!
ثم يكتب متّى ان بيلاطس استسلم لرغبة اليهود فغسل يديه لإعلان براءته من دم يسوع!
وهنا نجد موقفاً مخالفاً لطبيعة بيلاطس الذي يخلط دماء أعداءه بذبائحهم, كما ان هذا الكلام يتناقض مع طبيعة القانون الروماني الذي كان يسمح للإنسان بحق الحصول على محاكمة عادلة, وهذا الكلام ليس من الخيال بل هو ما صرحت به مصادر الكنائس واعني بها رسالة أعمال الرسل وهي كتبت أيضاً بسوق من الروح المقدس كما تقول الكنائس.
ففي أعمال الرسل قصة تقول ان بولس عندما أُلقي القبض عليه وحاول اليهود قتله طالب بمحاكمة في روما وعندها لم يستطع الوالي في ذلك الوقت سوى الرضوخ لطلب بولس, فلمجرد طلب بولس محاكمته في روما وعدم الاكتفاء بالمحاكمة الأولى لم يستطع الوالي سوى تنفيذ رغبة بولس (أعمال الرسل الإصحاحات 22 و23 و24)
فلماذا لم يستطع بيلاطس الوالي ان ينفذ العدالة على يسوع وهو يعلم انه بريء ويخضع لمشيئة اليهود الذين هم خاضعين أصلاً لمشيئته ودافعين للجزية؟!
وأما القول بان بيلاطس غسل يديه وان اليهود قالوا ان دمه عليهم وعلى أبنائهم فهو من باب القول الذي أشرت إليه في المقدمة بان كتبة الأناجيل لم يظهروا قدراً كبيراً من الكراهية تجاه بيلاطس ومن يمثل وركزوا الكراهية تجاه اليهود وأبنائهم, وإلا فبيلاطس هو المسبب الرئيس في عملية الصلب على الرغم من كل مشاغبات اليهود وصراخهم, فهو من أصدر الأمر بالصلب, وغسل يديه لا ينفعه لو كان الأمر حدث بهذا الشكل, وسنرى لاحقاً ان ما أقوله صحيحاً, لان يسوع في قصة محاكمته التي كتبها يوحنا بعد ان انهى حواره مع بيلاطس بدلاً من ان يقول ان الويل والهلاك لك يا بيلاطس لأنك أصدرت هذا الحكم نجده يقول ويل للذي أسلمني إليك!
ومرقس كتب عن التخيير فقال:
- فأجابهم بيلاطس قائلاً أتريدون ان أطلق لكم ملك اليهود,
لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً,
فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكي يطلق لهم بالحري باراباس,
فأجاب بيلاطس أيضاً فقال لهم وأي شرّ عمل,
فازدادوا جداً صراخاً اصلبه,
فبيلاطس اذ كان يريد ان يعمل للجمع ما يرضيهم أطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعد ما جلده ليصلب. (مرقس15/9-15)
هذه الفقرات تحمل ذات المعنى في قصة متّى من ان اليهود أسلموا يسوع حسداً له!
وان بيلاطس كان يريد ان يعمل لليهود ما يرضيهم فأطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعدما جلده.
وهنا ترجع شخصية بيلاطس النزقة والعنيفة اذ انه كما تقول الأناجيل كان مقتنعاً بعدم وجود علة في يسوع توجب الموت, وان امرأته حذرته من التعرض ليسوع وان اليهود أسلموه حسداً وانه غسل يديه من دم يسوع ومع هذا كله فقد جلد يسوع؟!
لماذا كتب كتبة الأناجيل ان بيلاطس جلد يسوع بعد كل هذه المعلومات التي تشير الى عدم رضاه عن عملية الصلب؟!
ولوقا كتب عن التخيير قائلاً:
- فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم قد قدمتم اليّ هذا الانسان كمن يفسد الشعب,
وها أنا فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الانسان علّة مما تشتكون به عليه, ولا هيرودس أيضاً, لأني أرسلتكم إليه, وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه, فأنا أُؤدبه وأُطلقه,
وكان مضطراً ان يطلق لهم كل عيد واحداً,
فصرخوا بجملتهم قائلين خذ هذا وأطلق لنا باراباس,
فناداهم أيضاً بيلاطس وهو يريد ان يطلق يسوع,
فصرخوا قائلين اصلبه اصلبه,
فقال لهم ثالثة فأي شرّ عمل هذا, اني لا اجد فيه علّة للموت,
فانا أؤدبه وأطلقه,
فكانوا يلحون بأصوات عظيمة طالبين أن يصلب, فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة,
فحكم بيلاطس ان تكون طلبتهم,
فاطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل الذي طلبوه, وأسلم يسوع لمشيئتهم.
(لوقا23/13-25)
هنا لوقا يقول ان بيلاطس كان مضطراً ان يطلق لهم في كل عيد سجيناً, وانا لست أدري ما معنى هذا الاضطرار لوالي يمثل أعظم دولة في العالم في ذلك الوقت!
ولكن السؤال الأهم هو حتى لو كان مضطراً, لو انه أطلق لهم يسوع وهو يعلم انه لا يستحق الموت فماذا ستكون ردة فعل اليهود؟
قد يقول قائل ان اليهود سيشتكون عليه باعتبار ان يسوع يفسد الشعب ويدعو الى عدم اعطاء الجزية لقيصر وانه يريد احداث فتنة كما كتب يوحنا في انجيله, ولكن بيلاطس يستطيع ان يدافع عن قراره هذا بان يسوع يدفع الجزية ويأمر اتباعه بطاعة أوامر قيصر والخضوع له!
كما ان اليهود هم من يسعون في الفتنة وافساد الشعب لانهم يطلبون اطلاق رجلاً كان مشاركاً في فتنة!
وأخيراً كتب يوحنا عن عملية التخيير فقال:
- ولما قال هذا خرج ايضاً الى اليهود وقال لهم انا لست أجد فيه علة واحدة, ولكم عادة ان أُطلق لكم واحداً في الفصح,
أفتريدون ان اطلق لكم ملك اليهود,
فصرخوا أيضاً جميعهم قائلين ليس هذا بل باراباس, وكان باراباس لصاً. (يوحنا18/38-40)
في هذه الفقرات يقول يوحنا ان من عادة بيلاطس ان يطلق لليهود سجيناً واحداً في الفصح, اي انه ليس مضطراً كما كتب الباقون بل هي عادة, والذي عنده عادة يفعلها كما يشاء ولا دخل للآخرين بها لانها ليست قانوناً أو اضطراراً فلو أطلق لهم يسوع لما كان لليهود حجة في رفض إطلاقه لان بيلاطس يكون قد قام بعادته!
وأما قول يوحنا ان باراباس كان لصاً فهذا كي يتوافق مع آخر قصته التي أشار فيها الى ان اليهود هددوا بيلاطس بالشكوى عليه عند قيصر بأنه لا يحبه لأنه أطلق يسوع الذي يقول عن نفسه انه ملكاً وانه يقاوم سلطة قيصر, فلو كتب يوحنا ان باراباس كان مسجوناً في فتنة لانتفت حجة اليهود, لهذا قال ان باراباس كان لصاً, مخالفاً بهذا القول مرقس ولوقا الذين كتبا إنجيليهما أيضاً بسوق من الروح المقدس كما تقول الكنائس!
إلى هنا انتهت عملية التخيير وبدأت عملية تسليمه لهم فكيف تمت هذه العملية بحسب الأناجيل:
- فلما رأى بيلاطس انه لا ينفع شيئاً بل بالحري يُحدث شغب,
أخذ وغسل يديه قدّام الجمع قائلاً اني بريء من دم هذا البار,
ابصروا انتم , فأجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا,
واما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب. (متّى27/30-36)
هذه الفقرات كنت قد تعرضت لها بالنقاش سابقاً فأغنى عن الاعادة ولكن كما نرى ان بيلاطس غسل يديه من دم يسوع واليهود قالوا ان دمه علينا وعلى أبنائنا ثم قام بيلاطس بجلد يسوع وأسلمه ليصلب.
- فبيلاطس اذ كان يريد ان يعمل للجمع ما يرضيهم أطلق لهم باراباس وأسلم يسوع بعد ما جلده ليصلب. (مرقس15/9-15)
وهنا مرقس يذكر جلد يسوع قبل تسليمه لليهود, مع انه لم يذكر ان بيلاطس غسل يديه من دم يسوع ولا ان اليهود قالوا ان دمه عليهم وعلى أولادهم.
- فحكم بيلاطس ان تكون طلبتهم, فأطلق لهم الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل الذي طلبوه, وأسلم يسوع لمشيئتهم. (لوقا23/13-25)
وفي هذا النص يذكر لوقا ان بيلاطس أطلق لهم باراباس الذي طرح في السجن لأجل فتنة وقتل, وأسلم يسوع لمشيئتهم, وكما نقرأ فإن متّى ومرقس ولوقا اتفقوا تقريباً في ذكر تفاصيل عملية تسليم يسوع لليهود فماذا عن يوحنا؟
لنقرأ ما كتب يوحنا عن عملية تسليم يسوع لليهود:
- فحينئذ أخذ بيلاطس يسوع وجلده وضفر العسكر اكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان,
كما هو ظاهر فإن بيلاطس بعد المناقشة الاولى مع اليهود قام بجلد يسوع ووضع الجند اكليلاً من الشوك على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان قبل تسليمه, بخلاف قول متّى الذي قال ان إلباس يسوع رداء قرمزياً ووضع إكليل الشوك على رأسه كان بعد تسليمه لليهود, كما انه يخالف قول مرقس الذي ذكر قصة تشبه قصة متّى, واما لوقا فلم يذكر شيئاً عن إكليل الشوك وان ذكر إن هيرودس, وليس بيلاطس, قام بإلباس يسوع لباساً لامعاً للاستهزاء به!
فخرج بيلاطس ايضاً خارجا وقال لهم ها انا أخرجه إليكم لتعلموا اني لست أجد فيه علة,
فخرج يسوع خارجاً وهو حامل إكليل الشوك وثوب الأرجوان فقال لهم بيلاطس هو ذا الإنسان,
وهذه الفقرات لم يتعرض لها أحد من كتبة الأناجيل الآخرين, وان كنت استغرب تصرف بيلاطس وهو يخرج يسوع بعد ان جلده حاملاً إكليل الشوك وثوب الأرجوان ثم يقول انه لا يجد فيه علة!
بيلاطس يجلد يسوع ويحمله إكليل الشوك وثوب الأرجوان وهو لا يجد فيه علة, فكيف لو وجد فيه علة, وكما قلت سابقاً إن الكنائس لم تكن حريصة على إظهار قدراً كبيراً من الكراهية لسلطان روما ولا للرومان وبيلاطس من الرومان ومن ولاة الإمبراطورية, بقدر ما كانت حريصة على هذا الأمر مع اليهود!
فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين اصلبه اصلبه,
قال لهم بيلاطس خذوه انتم واصلبوه لاني لست أجد فيه علة,
أجابه اليهود لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب ان يموت لانه جعل نفسه ابن الإله,
الفقرة الأخيرة هي التي أشرت اليها عندما قال اليهود لبيلاطس ان ناموسهم لا يجيز قتل أحد وعقّب يوحنا بالقول الى ان هذا يشير الى أية ميتة كان مزمعاً يسوع ان يموت.
فكما قلت ان الجميع يعلم ان شريعة اليهود تقضي بحكم الموت في عدد كبير من القضايا فكيف قالوا هناك ان شريعتهم لا تجيز لهم قتل أحد وهنا قالوا ان شريعتهم تجيز قتل يسوع لانه جعل نفسه ابن الإله!
ان أول ما يتبادر الى عقل القارئ ان هذا التناقض في أقوال اليهود انما مرجعه الى ان رؤساء الكهنة كانوا لا يتحاشون الكذب في سبيل قتل يسوع!
واما انا فأقول ان ذكر هذين القولين من يوحنا انما جاء بقصد معين للإيحاء بان ما قاله اليهود في كل مرة يحمل قصداً وسبباً في إثبات القصة, فقوله الأول كما قلت سابقاً وكما أشار هو إليه بأنه كان يشير إلى طريقة موت يسوع على الصليب وهو حيّ, لان شريعة اليهود تقول ان الرجل الذي يستحق عقوبة الموت يُقتل أولاً ثم يُعلق, ويوحنا كان يريد ان يُعلق يسوع على الصليب حياً ومن ثم يموت, فبحسب أحكام شريعة اليهود لا يستطيع كتابة تنفيذ هذه الحادثة, لهذا قال يوحنا ان اليهود قالوا لبيلاطس ان شريعتهم لا تجيز قتل احد, حتى يتم تنفيذ القتل بحسب شريعة الرومان التي تعتبر الصلب نفسه هو عملية القتل اذ يُعلقون المستحق للقتل على الخشبة حتى يموت!
واما قول يوحنا ان اليهود قالوا في المرة الثانية ان يسوع مستحق للموت بحسب ناموسهم, لأنه كان يريد ان يجعل هناك سبباً لقتل يسوع, لأنه بحسب شريعة اليهود فان كل من يجدف أي يقول او يعمل كفراً فانه مستحق للموت, ومن يقول عن نفسه ابن الإله فانه يقوم بأعظم انواع الكفر والتجديف الذي يستحق بموجبه الموت او القتل, لهذا قال يوحنا هذا القول عن اليهود, واما في شريعة الرومان الوثنية القائمة أصلاً على تعدد الآلهة والخرافات فان هذا القول لا يشكل جريمة تستحق القتل, لهذا اضطر يوحنا لكتابة هذا القول كي يجد سبباً للحكم على يسوع بالموت بحسب شريعة اليهود وتنفيذ الحكم على الصليب وهو حيّ بحسب شريعة الرومان!
ولكن فات يوحنا ان اليهود في ذلك الوقت لم يكونوا هم الحكام بل كانوا عبيداً عند الرومان, وان من اصدر الحكم هو بيلاطس وليس الكهنة, ولكن يوحنا وهو لم يجد سبباً لموت يسوع بحسب قوانين روما وهو ما صرح به بيلاطس في الاناجيل الاربعة اضطر في نهاية الأمر الى القول ان سبب موت يسوع كان لانه قال عن نفسه ابن الإله!
فلما سمع بيلاطس هذا القول ازداد خوفاً,
فدخل ايضاً الى دار الولاية وقال ليسوع من اين انت,
واما يسوع فلم يعطه جواباً,
فقال له بيلاطس أما تكلمني, ألست تعلم ان لي سلطاناً ان أصلبك وسلطاناً ان أطلقك,
أجاب يسوع لم يكن لك عليّ سلطان ألبتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق,
لذلك الذي أسلمني اليك له خطية أعظم,
في هذه الفقرات ينقلنا يوحنا الى جانب آخر من العلاقة بين يسوع وبيلاطس أثناء المحاكمة فبعدما سمع بيلاطس قول اليهود عن يسوع انه قال عن نفسه ابن الإله, ازداد بيلاطس خوفاً مما يشير الى ان بيلاطس كان خائفاً قبل هذا القول وازداد بعده خوفاً! وهذه الصفة لم تظهر عليه وهو يأمر بجلد يسوع, الا اننا سنتجاوز هذه الصفة ونقرّ ليوحنا بها لنرى أثر هذه الصفة على بيلاطس فهو عندما أدخل يسوع لدار الولاية مرة ثانية سأله من اين انت؟
فقال يوحنا أو بمعنى أدق الروح المقدس لان يوحنا لم يكن حاضراً هناك, ان يسوع لم يعط جواباً, وفي هذا القول نجد ان يسوع ما زال مصراً على عدم إعلان صفته التي تقدمها له قوانين الإيمان للكنائس.
لماذا لم يعلن يسوع صفته لبيلاطس وهو يعلم انه سيصلب بعد قليل؟
لا احد يعلم ويوحنا لم يقل لنا لماذا لم يعط يسوع جواباً!
ولكن بيلاطس كما يقول يوحنا لم ييأس من إقناع يسوع بالإجابة على أسئلته كي لا يصلبه فقال له ألست تعلم إن بقدرتي عدم الحكم عليك بالصلب وانني أيضاً استطيع الحكم عليك بالصلب.
وهنا يأتي جواب يسوع والذي يهدم قانون الكنيسة الذي يقول ان يسوع احد الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد, فيقول لبيلاطس انه ليس له عليه سلطان لو لم يكن أُعطي لك من فوق, وهذا يدل على ان يسوع لا يعتبر نفسه احد الاقانيم الثلاثة الذين هم واحد, وإلا لقال لبيلاطس إن هذا السلطان أُعطي لك مني, ولكن كيف سيكتب يوحنا ان يسوع قال لبيلاطس ان سلطانه وقوته منه وبيلاطس بعد قليل سيحكم على يسوع بالموت والصلب, وقبلها كان قد جلده, لهذا كتب يوحنا ان سلطان بيلاطس من فوق مع علمه ان هذا القول ينقض قانون الاقانيم الثلاثة, هذا اذا كان قد سمع عنه!
ثم نرى يسوع يتكلم بنوع من القوة والصلابة فيقول ان الذي أسلمني إليك له خطية أعظم!
وهذا القول يمثل مفاجئة للناس, اذ كان الناس يتوقعون من يسوع ان يقول هذا القول لبيلاطس, ولكن يسوع يوجه كلامه الشديد للخائن يهوذا, وهذا ما أشرت له سابقاً ان كتبة الاناجيل كانوا حريصين على عدم اثارة العداوة والكراهية تجاه الرومان والقيصر وولاته.
من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب ان يطلقه ولكن اليهود كانوا يصرخون قائلين ان أطلقت هذا فلست محباً لقيصر, كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر,
فلما سمع بيلاطس هذا القول اخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جباثا,
وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة,
فقال لليهود هو ذا ملككم, فصرخوا خذه خذه اصلبه,
قال لهم بيلاطس أأصلب ملككم,
أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك الا قيصر,
فحينئذ أسلمه اليهم ليُصلب. (يوحنا19/1-16)
هذه الفقرات التي تتحدث عن قول اليهود ان يسوع يقول عن نفسه انه ملك وانهم سيشتكون على بيلاطس ان هو أطلق يسوع كنت قد ناقشت ما فيها من تناقضات سابقاُ فأغنى عن إعادته.
وما أود الإشارة إليه هو ان يوحنا يقول ان صلب يسوع بدأ في الساعة السادسة وهو ما يتناقض مع الاناجيل الاخرى التي قالت ان يسوع صلب في الساعة الثالثة!
ثم نقرأ في الأناجيل أن بيلاطس كتب على الصليب جملة هذا نصها:
- وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة هذا يسوع ملك اليهود. (متّى27/37)
- وكان عنوان علته مكتوباً ملك اليهود. (مرقس15/26)
- وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية هذا هو ملك اليهود. (لوقا23/38)
- وكتب بيلاطس عنواناً ووضعه على الصليب وكان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود, فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لان المكان الذي صلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة,
وكان مكتوباً بالعبرانية واليونانية واللاتينية,
فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس لا تكتب ملك اليهود بل ان ذاك قال انا ملك اليهود,
أجاب بيلاطس ما كتب قد كتب. (يوحنا19/19-22)
كما نرى في هذه النصوص ان الاناجيل اختلفت في ذكر الكلمات التي كتبت على الصليب, فمتّى كتب هذا يسوع ملك اليهود. ومرقس كتب ملك اليهود, ولوقا قال انه كتب ملك اليهود باللغات اليونانية والرومانية والعبرانية, واما يوحنا فكتب انه كان مكتوباً يسوع الناصري ملك اليهود وانها كتبت بالعبرانية واليونانية واللاتينية.
والاهم من هذه الاختلافات ونحن نتحدث عن شخصية بيلاطس هو هذه الجرأة من اليهود على ممثل قيصر الذي يخلط دماء أعدائه بذبائحهم, ولكن ما العمل ونحن نرى ان كتبة الاناجيل يريدون ان يظهروا بيلاطس وكأنه مغلوب على أمره في محاكمة يسوع وإصداره للحكم بصلب يسوع, حتى قال متّى ان بيلاطس غسل يديه من دم يسوع, ويسوع عندما أراد ان يظهر عِظَم جريمة صلبه بدلاً من ان يوجه لعنته لبيلاطس الذي أصدر الحكم نراه يصدر هذه اللعنة على يهوذا الخائن كما كتب يوحنا!
فكتبة الاناجيل كان يهمهم بالدرجة الاولى ان تتوجه كل الكراهية والحقد على اليهود واظهار بيلاطس انه بريء, وكان حرياً بهم ان يكتبوا قصة لصلب يسوع من قبل اليهود مباشرة دون تدخل بيلاطس بدلاً من وضع قصة تمتلئ بالتناقضات والأخطاء التي أقل ما فيها أنها تنسف قانون الإيمان بالثالوث كما قرأنا سابقاً!
وبعد الصلب يأتي رجل اسمه يوسف يطلب من بيلاطس السماح له بدفن يسوع كما في النصوص التالية:
- ولما كان المساء جاء رجل غني من الرّامة اسمه يوسف وكان هو أيضاً تلميذاً ليسوع, فهذا تقدم الى بيلاطس وطلب جسد يسوع, فأمر بيلاطس حينئذ أن يُعطى الجسد, فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي,
ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة ثم دحرج حجراً كبيراً على باب القبر ومضى,
وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الاخرى جالستين تجاه القبر. (متّى27/57-61)
- ولما كان المساء اذ كان الاستعداد أي قبل السبت جاء يوسف الذي من الرامة مشير شريف وكان هو أيضاً منتظراً مملكة الرب فتجاسر ودخل الى بيلاطس وطلب جسد يسوع,
فتعجب بيلاطس انه مات كذا سريعاً,
فدعا قائد المئة وسأله هل له زمان قد مات,
ولما عرف من قائد المئة وهب الجسد ليوسف,
فاشترى كتاناً فانزله وكفنه ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر,
وكانت مريم المجدلية ومريم أُم يوسي تنظران اين وضع. (مرقس15/42-47)
- واذا رجل اسمه يوسف وكان مشيراً ورجلاً صالحاً وبارّاً, هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم وهو من الرامة مدينة لليهود, وكان هو أيضاً ينتظر مملكة الرب,
هذا تقدم الى بيلاطس وطلب جسد يسوع, وأنزله ولفه بكتان ووضعه في قبر منحوت حيث لم يكن أحد وضع قط,
وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح, وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده, فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً, وفي السبت استرحن حسب الوصية.
(لوقا23/50-56)
- ثم ان يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس ان يأخذ جسد يسوع فأذن بيلاطس فجاء وأخذ جسد يسوع,
وجاء أيضاً نيقوديموس الذي أتى أولاً الى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّاً, فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان مع الاطياب كما لليهود عادة ان يكفنوا,
وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان وفي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط,
فهناك وضعا يسوع لسبب استعداد اليهود, لان القبر كان قريباً. (يوحنا19/38)
تتفق الاناجيل الاربعة على الدور الذي لعبه بيلاطس في عملية دفن يسوع كما تتفق على دور يوسف الذي من الرامة في هذه العملية, مع بعض الاختلافات وفي هذا المقام أود الاشارة اليها حتى يتضح لنا طريقة الأناجيل في عرض الشخصيات والقصص والعقائد المراد توصيلها لنا, ولمعرفة صدق الكنائس بقولها ان الروح المقدس كان يسوق كتبة الأناجيل.
تتفق الأناجيل الأربعة كما نقرأ على ان يوسف الذي من الرامة قام بتكفين يسوع بكتان نقيّ, وان اختلفت صيغ الإشارة لذلك, فمرقس ولوقا قالا ان يوسف لفه بكتان وهي للإيحاء بان يسوع لم يتم تكفينه بحسب شريعة اليهود مما يستدعي تكفينه مرة أخرى وهو ما كتباه عن قيام مريم المجدلية بمحاولة تكفين يسوع كي يكون مبرراً للكشف عن قيام يسوع من القبر!
مع انهما أوضحا ان يوسف الذي من الرامة قام بتكفين يسوع, وزاد يوحنا الأمر ايضاحاً بقوله ان نيقوديموس الذي أتى أولاً الى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّاً, فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان مع الاطياب كما لليهود عادة ان يكفنوا, فيوحنا يقول ان يسوع قد كفّن كما لليهود عادة ان يكفنوا, مما تنتفي به حجة مرقس ولوقا القائلة ان سبب ذهاب مريم المجدلية للقبر هو تكفين يسوع!
كما نلاحظ ان متّى ومرقس حددا وقت أخذ يوسف لجسد يسوع مساء, في حين ان لوقا حاول ان يظهر عكس ذلك بقوله وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح, كي يُبقي يسوع وتلاميذه ملتزمين بشريعة اليهود في السبت حتى بعد مماته, وهو ما لم تلتزم به الكنائس فيما بعد حتى انها استحدثت يوم الشمس بدلاً منه, وهو يوم الأحد باللغة العربية.
أما يوحنا فكتب ان نيقوديموس الذي جاء أولاً الى يسوع ليلاً, وهذه الفقرة تلقي بظلال الحيرة على معناها, لانه يمكن ان يكون المقصود بها ان هذا الرجل التقى بيسوع سابقاً كما كتب يوحنا في انجيله ليلاً كما انها تعني انه جاء مع يوسف الريماوي لاخذ جسد يسوع ليلاً, وعلى الحالتين فان دفن يسوع لم يحدد له يوحنا وقتاً او انه كان ليلاً, وهذه المحاولات لا تستطيع اخفاء ان بقاء يسوع وقيامته من القبر تتناقض مع ما وعد تلاميذه به من القول انه كما كان يونان في بطن الارض ثلاثة أيام وثلاث ليال فان ابن الإنسان, وهنا يقصد نفسه, سيبقى في بطن الارض ثلاثة ايام وثلاث ليال, لانه كيفما حسبت هذه المدة التي تذكرها الاناجيل عن بقاء يسوع في القبر فانها لن تحقق كلامه!
واما قول لوقا وكان يوم الاستعداد والسبت يلوح, وتبعته نساء كن قد أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده, فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً, وفي السبت استرحن حسب الوصية, فهو وان كان يريد ان يجعل له مبرراً لعودة النسوة للقبر لاظهار ان يسوع قام من القبر فهو يتناقض مع ما كتبه هو شخصياً وما كتبه مرقس من ان يوسف كفّن يسوع كما انه يتناقض بكل وضوح مع ما كتبه يوحنا لانه اذا كان احد سيفهم من كلام لوقا ومرقس ان التكفين ليس كاملاً لانه بدون حنوط وأطياب فان يوحنا أوضح الامر بان التكفين كان بحسب عادة اليهود من التكفين باطياب وكتان وزادنا يوحنا علماً للتدليل على صدق روايته ان التكفين تمّ بحضور نيقوديموس وهو ما ينفي حجة ذهاب مريم المجدلية للكشف عن قيام يسوع من القبر.
وانا أتساءل عن السبب الذي دفع كتبة الأناجيل لكتابة قصص تتعارض فيما بينها لإظهار ان يسوع قام من القبر, ألم يكن في استطاعتهم ان يقولوا لنا ان النسوة قد ذهبن لزيارة القبر فتبين لهن انه فارغ ثم يكملوا كتابة الاناجيل بعيداً عن هذه التناقضات؟
مع العلم ان التلاميذ كما ذكرت الاناجيل لم يصدقوا قولهن!
فهل عدم تصديق التلاميذ للنساء من انهن لم يجدن يسوع في القبر جاء من الحجة التي ذهبن بها الى القبر, أي ان التلاميذ لم يصدقوا قولهن انهن ذهبن الى القبر لتكفين يسوع لان يوسف الذي من الرامة كان قد كفّن يسوع وبالتالي اعتبروهن كاذبات فيما قلنه عن قيامة يسوع من القبر لانه لا يوجد سبب لذهابهن!
وآخر ذكر لبيلاطس في الاناجيل بحسب الواقع الزمني جاء في النص التالي:
- وفي الغد بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون الى بيلاطس قائلين يا سيد ان ذلك المضل قال وهو حيّ اني بعد ثلاثة أيام أقوم , فَمُرْ بضبط القبر الى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه ويقولوا للشعب انه قام من الأموات, فتكون الضلالة أشرّ من الأولى,
فقال لهم بيلاطس عندكم حراس, اذهبوا واضبطوه كما تعلمون,
فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر. (متّى27/62-66)
في هذا النص يخبرنا متّى ان رؤساء الكهنة اجتمعوا ببيلاطس وطلبوا منه ان يرسل جنداً ليحرسوا القبر كي لا يأتي تلاميذ يسوع ويأخذوا الجسد ويقولوا للناس ان يسوع قام من القبر فتكون فتنة أشر من الاولى!
وأول ما يخطر على قلب الانسان وهو يقرأ هذه الفقرات هو التعجب! لان التلاميذ الذين أشار اليهم رؤساء الكهنة هم انفسهم لم يصدقوا ان يسوع قام من القبر, لا بل ان بعضهم لم يصدق حتى وضع أصابعه ويده في جروح يسوع كما تذكر الاناجيل, فكيف سيفكرون في أخذ الجسد للقول انه قام من القبر!
من هذا الإستعراض لشخصية بيلاطس وعلاقته بيسوع هل يستطيع أحد أن يقول أن صفات يسوع سواء كمسيح أو كأُقنوم كانت ظاهرة؟
وللاطلاع على المزيد من مواضيع الاناجيل ارجو من القارئ الكريم زيارة روابط المدونة
نادر عيسى
التعليقات (0)