تقول أحد الدمى في أوبريت "الليلة الكبيرة" للراحلين صلاح جاهين وسيد مكاوي:
أنا شجيع السيما
أبو شنب بريمة
حالاً بالاً سأصارع . . أسد إنما إيه؟ . متوحش.
وها خللي وجهه شوارع
تصقيفة يا نا س ميصحش
تصقيفة إمال!
تشجيعة إمال!
ويصور لنا المشهد الدمية الشجيعة وهي تستفز الدمية الأسد قائلة له:
تعالالي اللالي اللالي يا حبيبي تعالالي!
وعندما يهجم عليه الأسد ينبطح على ظهره، لكنه يعاود الوقوف منادياً جماهيره:
تصقيفة إمال!
تشجيعة إمال!
وتتجاوب معه الجماهير المناضلة الوفية، بتصفيق منغم يتناسب مع نصره التاريخي!!
لقد أجاد الشاعر المصري الصميم في هذا المشهد من أوبريت العرائس، والتي أدمن مشاهدتها الكبار قبل الصغار، أجاد تصوير شخصية لها جذورها في الوجدان المصري، شخصية تجمع ما يتمناه العقل والوجدان الشعبي، بغض النظر عن تواجد تلك الشخصية الفعلي على أرض الواقع، وتتلهف الجماهير على تسميتها باسم أي مغامر أو خارج على القانون، فتسقط عليه كل الصفات المرجوة التي نسجها الخيال الشعبي، وتنسب له انتصارات لم تحدث يوماً، والحقيقة أن مسألة حقيقية تلك الصفات والانتصارات لا أهمية لها لدى الجماهير، فهي تحلم حلماً يلح عليها، ولابد من إلباسه ثوب الحقيقة، لتصنع منها ملاحم، تتخذها زاداً يعوضها عن شعور داخلي عميق بالضعف والصغار، هكذا صنعت سيرة عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي وأدهم الشرقاوي وياسين، وعلى ذات النهج أيضاً ذاعت سير الشطار، الذين يتحدون ويتلاعبون بالحكام وبالظالمين.
وأفضل من جسد شخصية "الشجيع" على شاشة السينما الفنان الراحل فريد شوقي، الذي لقب "بملك الترسو"، أي ملك جماهير دور السينما من الدرجة الثالثة، التي يرتادها عامة الشعب من الفقراء والمقهورين والمهمشين، والذين يتوقون لمشاهدة الفقير وهو يهزم الأغنياء، والكادح المهمش وهو يدحر الأقوياء المتجبرين، وهكذا يدخل المشاهد إلى دار العرض وهو محمل بكل هموم وقهر واقعه البائس، ويخرج منتشياً بانتصارات الشجيع التاريخية!
الطريف في مشاهد معارك الشجيع الظافرة، أن المعركة تدور دائماً في حارة فقيرة، بين أغلب أهالي الحارة الأخيار يقودهم الشجيع، وبين جماعة الأشرار وعلى رأسهم شجيع شرير، وأثناء المعركة تطير كراسي المقاهي في الهواء لتصيب من تصيب، ويسقط العشرات من أهل الحارة بين قتيل وجريح، وتتحطم المحلات التجارية والمقاهي، ليأتي مشهد الانتصار النهائي وقد فر الأشرار، وبقي الشجيع وحده منتصباً يبرم شواربه، ويسير مختالاً، ينقل قدميه بحرص بين أجساد القتلى والجرحي، التي تفترش أرض الحارة المنتصرة!!
هذه هي المشاهد التي أدمنتها جماهيرنا المناضلة عبر أجيالها الممتدة، وبالذات "جماهير الترسو" التي هي في مسيس الحاجة النفسية والعاطفية لظهور "الشجيع"، ليعتلي في القلوب والعقول مكانه المحفوظ، مكان "ملك الترسو"، وحين يظهر الشجيع الموعود لن تسأله أو تحاكمه عن أي دمار يحيق بالحارة، ولن تحاسبه على عدد القتلى والجرحي في صفوف أهل الحارة البسطاء والفقراء، سواء الذين شاركوه المعركة، أو الذين حاق بهم الأذى فيما هم لا يملكون سوى موقف المتفرج.
قد يبدو من العجيب ألا تتأثر جماهير الترسو سلبياً بمشاهد معارك الشجيع، وهي ترى عامة الناس يصيبهم فيها أبلغ الضرر، فيما يبقى الشجيع وحده منتصباً، ووجه العجب هنا أن هذه الجماهير تنتمي واقعياً للطبقة التي تكون في المشاهد وقوداً للمعارك، لكن ما يحدث خلال الاندماج مع الفيلم المثير، أن هذه الجماهير تنسلخ عن وضعها الحقيقي، والذي تتوق للخلاص منه، وتتوحد – ولو وقتياً - مع شخصية الشجيع، ويكون مشهده منتصباً (يبرم شواربه) هو الانتصار الذي تتوق إليه، وحتى إن انتبهت بعد ذلك إلى الضرر الهائل الذي أصاب الحارة وسكانها الفقراء، فإن الجرم يمكن أن يسند بسهولة إلى جماعة الأشرار التي تم هزيمتها، ولا يتطرق إلى ذهن أحد من "جماهير الترسو" التساؤل عن مدى مسئولية الشجيع عن خراب الحارة، وعن شرعية اتخاذه الحارة وأهلها ضحية وثمناً بخساً لصنع انتصاراته المزعومة!!
أدمنت جماهيرنا المناضلة معايشة مسرحية الشجيع هذه، من خلال الاستماع إلى شعراء الربابة في المسامر والمقاهي، وفي عروض الأراجوز التي كانت تجوب القرى والنجوع، وعروض خيال الظل، ثم على شاشات السينما، وأخيراً وبعد ثورة الاتصالات التي أنتجها الغرب الكافر، الذي يتربص بأمتنا ليسلبنا هويتنا، استطعنا امتلاك قنوات تليفزيونية فضائية مناضلة، كرست جهدها لسب الغرب وفضح مؤامراته والتنديد بعنصريته، لكن الأهم أن هذه الفضائيات المناضلة قد وجدت ضالتها، الكفيلة بتحقيق أقصى إقبال جماهيري على برامجها، وهي ثيمة "شجيع السيما"، فانتشر مراسلوها في أقطار الأرض، يبحثون عن كل "ملك للترسو"، يعظمون بطولاته ويحقرون أعدائه، هكذا كان الشجيع بن لادن والشجيع الملا عمر، ثم الشجيع الزرقاوي وختام المسك حتى اللحظة، الشجيع سماحة السيد حسن نصر الله، والشجيعين خالد مشعل واسماعيل هنية!!
لذا لا ينبغي يا سادتي العقلاء في أنحاء عالمنا العربي المناضل أن تندهشوا، لا تتعجبوا وأنتم ترون المظاهرات الجماهيرية الحاشدة في هذه العاصمة أو تلك، وترون جماهير الترسو ترفع صور بطلها ملك الترسو، وتهتف: بالروح بدم نفديك يا شجيع . . . . ، فهي تهتف لبطلها الذي تنتظره عبر العصور، لا تندهشوا ولا تمتعضوا، فهذه الجماهير المقهورة بالفقر والظلم من حقها أن تبحث عن بقعة ضوء ولو وهمية، من حقها أن تهتبل الفرصة السانحة للتوهم أنها تعيش انتصارات!!
لكن إذا لم يكن من اللوم بد، فعليكم يا عقلاء العالم العربي أن تتوجهوا به إلى قطعان الإعلاميين في الصحف والفضائيات المناضلة، الذين يبيعون دماء أهاليهم مقابل الدولار النفطي وغير النفطي، والذين يبيعونه مجاناً مقابل اليسير من الشهرة، وتوجهوا باللوم أيضاً إلى الكثيرين ممن كنا نعدهم في صفوف الأحرار، لكننا - سواء بدافع الخوف أو مسايرة للتيار الجارف - وجدناهم أخيراً، يهتفون لشجيع السيما أبو شنب بريمة، وينادون بملء حناجرهم: بالروح . بالدم نفديك يا "ملك الترسو"!!
كمال غبريال
التعليقات (0)