شاعرية البانوراما عند سعيف علي
الحلول الممكن والاتحاد المستحيل.. 1/2
الناقد المصري حسام حسين عبد العزيز
منذ فترة والرغبة تنتابني لأن أكتب عنه، وكلما شرعت في تأسيس شيء يوازي جمال ما أطالعه من شعر، وألتمس بابا للحديث، يباغتني باب آخر لا يقل تأثيرا عن سابقه، وفي دواخلي لا أدري يقينا لماذا لا انفلت من شبح تهمة لا أدري لمن أوجهها، للمشروع الشعري التونسي الذي يبدو لي لم يسع لكسر الحصار، أم لذائقة التلقي ولاسيما في مصر، التي كان من المفترض أن تتابع إرهاصة المشروع، ولكنها توقفت بكسل لا مبرر له عند الشاعر المرجعي –حقا- أبي القاسم الشابي.
قارئ الشعر في زعمي كائن خفيف، لكنها الحياة التي أثقلته بتفاصيلها، وحين يتناول قصيدة ليقرأها يحمل في بواطنه رغبة للتحلل من هذه الأثقال، حتى وإن أوجعته تفاصيل الشعر، وما ينطوي عليه من عوارض قد تدفعه للبكاء أو الأسى، وأشهد أن القراءة لــ"سعيف علي" تشبه عندي الولوج إلى حديقة؛ فيها من كل أصناف الورد، ولكنها محاطة بغابات من الصبار، والنخيل السامق، والذي لا ندري يقينا هل يقف كحارس للورد، أم حزينا منكسرا لما آل إليه مصير العبير؟
في حقيقة الأمر لم أقرأ شعرا ينطوي على هذه المائية والطراوة كما أصادفها في شعر الرجل، وفي كواليس هذه المائية من السهل أن نرى صخور قاع الشلال، وتيبس الأجواء التي تحيط به، ومن ثم يثور عليها، وربما على الجانب البعيد حالة من تصحر ما تواجه عين الشاعر، تدفعه لأن يتسامى بشاعريته وببساطة مدهشة.
شاعرية الاحتجاج البريء
إن شاعرية "سعيف علي" لا تستند على أي آلية تتجه لتهويم محتوى الأطروحة الشعرية بأي حال، بل يجوز اعتبارها انتخابا مقصودا لأبسط التقنيات المتاحة لتأسيس نص شعري يناسب هذه المائية والطفولة- أحيانا- البادية في سمت النص.
أزعم أن مصطلح البساطة قد ظلمته الحداثة ظلما متوحشا، ولاسيما تلك الحمى التي لم تمنحنا بشيء من الوضوح. ماذا يقصدون بالنصوص المراوغة؟
وهل على الجانب الآخر نستطيع –جدلا- أن نجعل من البساطة والسطحية مترادفين؟
إن كتابة القصيدة قرار مسئول، وإذا كان نشرها تنازلا ضمنيا سمح لها أن تخرج من السر إلى العلن، فإن قراءة القصيدة استبطان مدروس للنوايا قبل الطرح الشعري كظاهرة جمالية تستحق الرصد، و لغة الشعر مهما تطرف دعاة التهويم، عليهم طوعا أن يتسللوا إلى ما وراء هذه البساطة متى حدثت لنوايا صاحب النص، والتي هي أكثر عصيانا من لغته إذا أخضعناها للبحث والتحليل.
إن النص الشعري في يقيني حقيقة مُلتبسة، مورس صوب عملية خلقه ديكتاتورية متطرفة، لكن حال عرضه على الناس يلتمس هذا النص بدوره أن يبدو ديمقراطيا إلى درجة، في الأولى يكتب الشاعر دون اكتراث، وفي الثانية يخشى أن يحول الغموض دون دخول الشعب كواليس القرار الشعري ودوافعه، ولكي يتم هذا الغرض لن ندَّعي بأنه يسعى إلى تبسيط ما تمخضت عنه تجربة الخلق الأول، بل إلى منْطقة سياقات النص إلى درجة، والتي من شأنها تحقيق التواصل المطلوب، إذن فالسطحية والقشور تهمة يجب توجيهها لشيء آخر غير الشعر، وإن استحق هذا الشعر هذه التهمة، فبالضرورة ليس من الشعر في شيء، وأن مقولة النص المراوغ لا يوصف بها النص كحقيقة فنية بقدر ما توصف بها نوايا خالق النص وغاياته منه كحقيقة مكتملة.
إن مقولة نص مراوغ يقولها الشاعر غالبا عندما يتماس مع نص شاعر آخر على محك التحليل أو النقد، لأن قارئ الشعر أو جمهوره للصدق لديه معطيات أولية، مفادها أن الشعر بوجه عام ينطوي على إيهام وغموض، حتى وإن بدا النص –قليل من النصوص- واضح بشكل مستفز.
إذن فلنحاول على ضوء نصوص "سعيف علي" أن نقول شيئا جديدا لدعاة النص المراوغ :
إذا كنا نشهد لنصوصه بأنها تنجز غالبا إحساس الدهشة ونحن نطالعها، وتؤسس لدينا أن هناك ثمة شاعرية قوية تقف خلف هذه النصوص، فإن الفطري هو المدهش، والبسيط في عمق هو المحرض على مس جبيننا ونحن نقرأ كي نعيد استنطاق النية الشاعرة التي أنتجت سياقاتها ولغتها. ولا أقول هذا الكلام عبثا، فالغامض والملتبس عادة لا يُدهش، بقدر ما يخلق حواجز أو أدوات تعطيل قد تحول دون التواصل مع محتوى النص. ودائما ما كنت أقول عند سماع شعر من واحد من زملاء الطريق في تعبير منّي على عدم الإعجاب : لقد رأيتها حبالا، في إشارة لعدم وقوعي تحت تأثير سحر الكلام ودهشته، لأني لو حصلت على شعور الدهشة فبالضرورة كنت سأرى الحبال مجموعة ثعابين، وسأقع كغيري تحت طائلة السحر، وأزعم أن في شعر"سعيف علي" غالبا ما نرى الحبال ثعابين، ولكنها ليست سامة على كل حال.
إن مشروع "سعيف علي" الشعري يؤسس لمعنى قد أكون مصيبا إذا أعلنته هنا: فالنص عنده دروب وممرات ليس فيها ما يعوق الوصول إلى غرفة مُهمَلة عن عمد، ولكنها مفعمة بمتون لمعان إنسانية عميقة، ورؤى نافذة لمفردات واقع تتم صوب تفاصيله حالة من التسامي البريء غالبا والاحتجاج الرحيم.
أصوات
عاود دخول الملعب للبحث في الأصوات المتبقية من مباراة قديمة، لم تستطع في بحثها أن تواصل حماس الانتصار.
إنني لم ألجأ لهذا الشاهد في الحقيقة كي أؤكد على تلك المائية والمرونة التي تغلف الطرح الشعري هنا، لكن حسبي أن أسعى لفك طلاسم هذه الرؤية الطفولية في الظاهر والبسيطة معا، والنص بالضرورة بصمة لصاحبه ودليل عليه في آن.
إذا اعتمدنا على لعبة المقابلات، فإننا بلا شك سنجد مائية في مقابل تيبس، ومرونة في مقابل جمود، وطفولة في مقابل........، في مقابل ماذا؟ غير انسحاق البراءة.
عندما نقرأ لسعيف علي، في يقيني الشخصي لا نقرأ شاعرا إشكاليا، ولا على الدرجة نفسها نصا إشكاليا، ولكننا نقرأ منظومة سماته الشخصية التي تعبر عن نفسها بهذه الطريقة، وهذه السمات في حقيقتها هي التي تنعكس بدورها على النص فتجعله رغم ما يتميز به من سلاسة وإدهاش أن يبدو وكأنه نص إشكالي إلى درجة، وليس إشكاليا في ذاته.
للصدق عندما نقرأ علينا أن نحتاط كثيرا من مغبة ظلم شاعرية الرجل، فالتأثير الظاهري لهذا المثال الذي أوردناه قد يغري بالسؤال. أين الشعر؟ فهنا ربما أنسحق المجاز أمام زاوية الرؤية التي اختارت هذا المشهد، فتتبُع ما تبقى من أصوات في مباراة قديمة عملية عبثية، ولاسيما أن حماس الانتصار في حد ذاته أثناء هذا التتبع قد فقد معناه، أو أنسحق على غرار المتبارين، على هذا يُسلم الرجل لذائقة التلقي التهمة الجاهزة، والتي تتلخص في المباشرة والوضوح، بل وربما وقع في آفة النثرية التي لم تحمل من مقاليد الشعر سوى أن الرجل بذاته قد اعتبرها شعرا.
عفوا. وأقولها هنا متحملا ما يمكن أن يقال صوب تفسيري للأمر، إن أي شعر تحركه منظومة سمات شخصية تظلمه حتما القراءة الأولى، ولا يمكن أن يكون الرجل قد مارس نوعا من المصادرة على الذائقة، ووصف ما يطرحه شعرا، ونحن على الضفة الأخرى نقف في صف المنكرين لهذه الحقيقة.
في بادئ الأمر يجب التنويه لأمر هام جدا، فنحن عندما نتجه لتوصيف نصوصه بالبراءة والمرونة والمائية ومزاج الطفولة البادي في عبثية اللغة، لا نقصد إشارة مبطنة لأي معنى يتجه لتسطيح الأطروحة ذاتها، لكننا نتعامل مع نصوص يجب أن نشير لكونها منتمية لذاته أكبر من كونها منتمية لنسق واضح في شكل كتابة قصيدة نثر، أو ذات ملمح حداثي، بمعنى أن الرجل لم يتجه، لا للتهويم، ولا إلى القشور، لكنه يمارس كتابة تقترب من معنى الهذيان الطفولي، وأعني بالطفولي هنا؛ ذلك الهذيان الذي لا ينتمي للاوعي، والذي يؤسس بدوره هذا المعنى للهذيان، لكنه في سبيل إنتاج هذيانه الخاص يحقق ظاهرية البساطة، والإدهاش، لكنه يخفي واقعيا حالة من وعي حاضر لديه ينطوي على حالة من ضبابية تعوق فضول الطفل فيه، والباحث بدوره عن معنى غير متحقق. وعندما نصف مزاج بعض النصوص بهذا الوصف لا نعني على الدرجة نفسها براءة الأطروحة، والذي قد يؤخذ على محمل مثلبة، بقدر ما نشير إلى رغبة الاكتشاف التي تعتمل في نية الشاعر، لكن تبقى أزمة "سعيف علي" في نظري في كم التساؤلات التي يعلنها النص، والتي لا يقابلها أي ملمح من إجابة متوقعة، لا من النص كحقيقة ملموسة، ولا من فضاء التأويل. لذا فدعاة النص المراوغ عليهم إعادة النظر عند القراءة لسعيف علي تحديدا، لأن هذه النصوص بالفعل ليست سطحية أو عديمة المعنى أو متطرفة حداثيا، وإن قمت بعرض دفوع منطقية للرد على هذا الاتهام، فلن أجد أكثر ضراوة من (الصوت)؛ لأن المفردة في حد ذاتها مجاز لو أمعنا النظر إذا اعتبرناها إشارة للمتبارين، فالمباراة كانت ضجيجا أو تكاد، وإذا صح التفسير فإن (الملعب) في حد ذاته مجاز عن ظرفية محيطة بهؤلاء اللاعبين المنسحقين، والذي راهنت الشاعرية على البحث عما بقى من أصوات تخصهم، وحماس الانتصار والمباراة قديمة هي قمة المراوغة بالفعل، فالدفقة لم تقدم لنا الإشارة للمنتصر الذي مع تطاول الزمن فقد هذه الحماسة.
لون
اللون وهو يغير عباءته تعثر في مسرى الليل، ثم قبض قبضة من أثر الفراش
وهو ينادم خياله المعدم
أرى على ضفاف هذه الدفقة، أن شاعرنا يؤكد ظنوني المبدئية، أنه ولاشك يمارس التلاعب بلغة تخلق أمرين متفقين ظاهريا، مختلفين باطنيا، بمعنى تحقيق اللغة التي تبدو كالفضول الذي يصيب الذائقة بنفس العارض، بمعنى أن الدفقة ذاتها فضول باحث، ومحاولة استبطان دلالاتها تستوجب نفس الرغبة للكشف، والثاني التأكيد على سمة حداثية واضحة تتمثل في بتر السياق ومن ثم فتح الدلالة، والذي حققته بشكل جدا فاعل بساطة التناول للمفردات المتعارضة والتي شكلت في البناء الكلي للحالة الشعرية هالة من عدم الاتساق الذي يبدو مستغلقا إلى حين. استعد هنا لسؤال له ما يبرره. لماذا قلت إلى حين؟
أقول: لا ينبغي لي أن أصف هذه الشاعرية بأنها تسخر في دواخلها من الأطروحة الحداثية، وتشير بأريحية إلى معنى مفاده؛ ما أسهل التناول الحداثي!
لكن أن أقرأ دفقة بهذا التكثيف ولا تحمل أي تركيب ترادفي لأي مفردة وردت في ثناياها، فإن هذا جدا محرض لأن نسعى لشيء ربما لن تكشفه القراءة المبدئية لمتن الدفقة، لأن الشاعر الحداثي، التنافر والتناقض من جملة تقنياته، ولكنه عندما يتطرف في عدم النظر للخلف(تراث الماضي) أو يرتاب في شأنه(ملمح حداثي)، فإن هذا للصدق لا يحدث بشكل مطلق، بل إن لم يكن قادرا على الطعن فيه، فربما يستخدمه للتنوير.
إنني هنا لا أستطيع الانفلات من تأثير شخصية الشاعر التي تقف خلف فعل الكتابة، ولاسيما حالة البراءة التي تغلف تمظهرات الرؤية عنده، إن النقد الوحيد الذي يمكن أن يُوجه إلى شاعرنا على ضوء ما قرأناه، إنه بالضرورة يمتلك شاعرية بلا أظافر، ولقد قلت ذات يوم لصديق مهتم بالمسألة:
" إذا كان الواقع يتعملق في بسط معطيات شذوذه وجبروته، فلا أقل من أن يُجابه بشاعرية متوحشة" لذا تعالوا نتفق أن هناك ثمة براءة فعلا، تحركها سمات شخصية فيها من عناصر البراءة والطفولة وكراهة الصدام الكثير، والطفولة عموما تبدو لي كالحلم، لا يوجد منطق يحدد معطيات الحالتين، ربما نفسر الحلم وشفراته، لكن الطفولة لا تُفسر غالبا، بقدر ما تتعرض للزجر والغضب وربما العقاب، وقليلا من الثناء. إنني لو سألت الشاعر لماذا تكتب فربما أجاب: كي أضايق العالم، وأحرضه على عقابي كي أستمر، وامتنان العالم لصنيعي نهايتي المحتومة، لأن براءتي بالضرورة ترفض أن يكون هذا العالم ممتنا لشيء صنعته.
إن شاعرية الرجل ورغم ما يغلب عليها من مائية وسلاسة وإدهاش ولكنها بالفعل تحمل عناصر الاستفزاز للواقع المعني بالنص من جهة، ولذائقة التلقي من جهة أخرى، لم يعد "سعيف علي" ذلك الطفل المستكين، لكنه متورط في "العفرتة" كي يلفت نظر العالم لوجوده، لكنها في كل الأحوال عفرتة بريئة، تنتهي بعناق، وإن كان بالفعل عناق الشاعر لذاته في النهاية، كي يظل الوقود مستمرا، لمواصلة إنتاج استفزاز جديد.
إننا في ظلال هذه الدفقة رغم غرائبية السياق والتنافر والتناقض الذي أنبنى عليه التصوير المجازي، قد نلاحظ إننا أمام مثلث متساوي الأضلاع فعلا، فإيهام (اللون) ضلع، و(الليل) ضلع ثان، و(الخيال) ضلع ثالث، ومحتوى هذا المثلث جاء متسقا مع تساو الأضلاع جميعا، بمعنى أن الأجواء كلها تتحرك في ليل، لأن الفراش هو الذي جمع كل هذا التناقض في نهاية الأمر، كتابة قد تبدو اعتيادية قياسا على شاعرية الرجل، ولكن، وعند ولكن هذه يميط "سعيف علي" اللثام عن شاعريته ورؤاه.
أعترف أن لي عارضا من جنون ينتابني أحيانا عند قراءة الشعر، لذا أسأل سؤالا جدليا ومشروعا ربما. من كان نائما في هذا الفراش؟
إذن لنبدأ تحليل أضلاع هذا المثلث، فاللون لم يعد لونا، بل بات كالحقيقة التي كان من المفترض أن تكون مرجعية، ولكنه فقد هذه السمة في منعطف التعثر فيما جعله يتبدل، وبالضرورة هو الليل ذاك الضلع الثاني، ومن هنا تغيرت العباءة وبشكل قدري وغير محسوب أو في أثر انهيار، ومع ذلك التضارب الذي أصاب الاتجاه المتعثر في الليل، وما ينطوي على مفردة الليل من الغموض والمؤامرة، لم يتبق من جملة المؤمنين به سوى الخيال، ذاك الضلع الثالث، فنام الاتجاه(اللون) الفاقد لأي مشروعية تتناسب مع ثباته أو حتى تغيير العباءة.
ربما وقعت بعيدا عن مرمى قصدية الشاعر، لكن تحليل منجز الفطرة الشاعرة ربما يخلق دلالات أبعد في زعمي من مرمى الشاعر، وهنا أعني محاكمة منطقة التناص الوارد والذي تم المرور عليه بانسيابية غريبة، اعترف لم أشاهدها بمثل هذه السلاسة والحرفية، لن أطيل ولسوف أقفز لإجابة ذلك السؤال الجدلي فعلا. عن النائم في الفراش، واغفروا لي جنوني هنا إذا قلت: أن النائم في ذاك الفراش هو اللون أو الطرح الأيدلوجي الذي بات ضحية لغي وضلال السامري، فمرجعية التناص وبذكاء نادر تتجه للسامري الذي أخذ القبضة المشار إليها من أثر الرسول وليس الفراش كما أنتجتها الشاعرية، ولكي يصنع منها ربّا، والشاعر بالتبعية كان يحتاج سقفا مرجعيا لا يخضع بهذا الشكل المزري لغواية السامري، كان يريد أن يعيد الاتزان لنفسه أمام أطروحة فكرية تحتوي على أعلى قدر ممكن من الثبات النسبي، ولا تغير عباءتها لأي سبب، فهي قد تغيرت وهو قد صار متوحدا مع خيال معدم، ينادمه في بعض من غياهب هذا الليل.
ربما دعاة الاختيار الدقيق للمفردة المثقلة بالدلالة يعترضون على(يُغير) والتعويض عنها بـ يخلع، لكن ما يؤيد صدق ظني في اللون كإطار فكري أيدلوجي هو الذي يدافع عن مشروعية المفردة التي وقع عليها اختيار الشاعر، ولاسيما أن الخلع ربما يوحي بالتجرد كليا من المرجعية، ولكن التغيير يفيد معنى الالتباس والضبابية وعدم القدرة على تقدير الموقف، فالهروب بمعجزة من فرعون كان كفيلا بأن يعصم الشاعرية من مغبة الوقوع في ضلالات السامري الذي سوى من هذه القبضة ربَّا في فترة زمنية قصيرة جدا وملتبسة، ولا تتناسب على الدرجة نفسها مع ذلك الأمل المنتظر العائد بالألواح والوصايا ليجد هذه النتيجة الصادمة(خياله المُعدم).
أهل الذمة والقصيدة الرسول
إن المتأمل في شاعرية سعيف علي يدرك أنه بالضرورة لا يقرأ شعرا أصم، بقدر ما يقرأ تنويعات لغوية لا تحقق دورها الوظيفي في إطار قوتها التعبيرية، وإنما يقرأ لوحة تكتمل ألوانها غالبا بريشة من يتصدى لقراءتها. من هنا نلتمس طاقة مضافة للمفردة، دورها في إطار بناء السياق الشعري نفسه، ودورها في تحفيز الذائقة لأن تعيد ملء الفراغات التي تُركت هكذا عن عمد، إنني هنا لا أريد الالتفاف حول القيم الدلالية لمفردات الرجل أو قاموسه بوجه عام، فلهذا حديث، وإنما أنظر وأتأمل ما يمكن اعتباره لغة أشارية لشيء ما لم تفصح عنه الشاعرية بشيء من التصميم.
عاد يغني
يرسم بالدمع
خطوط الاستواء
…مدارا
…كوكبا درِّيا
ميناء سفينة لا تعرف أنَّ البحر ماء
في حقيقة الأمر وعند هذا المنعطف في قراءة منجز الشاعر كنت في قمة الاندهاش والارتباك معا، هل هي الفطرة أم القصدية، ولماذا تتكرر كثيرا إذن، وفي كل لأحوال من أين تأتت له هذه الطريقة في تناول مفرداته؟؟
إن ثنائية المكتمل واللامكتمل في صوب القدرات التعبيرية للشاعر لا تتحقق بمجرد قرار يتجه إلى تتميم هنا، أو بتر هناك، وهنا أقصد السياقات الشعرية التي أنبنت عليها مفردات الشاعر كي تنجز أهدافه في الحالتين، لكن يظل الأصل في المسألة تفاصيل قدراته الخاصة على البتر، والدقة المتناهية في اختيار توقيته.
"عاد" تستوجب ظرف مكان غالبا أحتوى الأنا الشاعر قبل اتخاذ قرار العودة، أين. لم تفصح الشاعرية، ربما من خلال المقطع السابق في هذا النص والذي ينتهي هكذا.. حين تصنع لي أمي من القطر المطر. فربما عاد طفلا، أو من ظرف الزمان الطفولي الذي يتيح له الرغبة في الغناء، أو العودة له، لذا، في صدامية الفعل الماضي(عاد) والمضارع(يغني) الذي يتجه بدوره لإحداث صيرورة، هناك ما ينذر بانقطاع الغناء وتوقفه لأسباب كثيرة في فترة سبقت قرار العودة، للآن لم يفصح عنها الشعر، تم بعدها إضافة حالة أخرى أكثر إعلانا عن محتواها للسابق لها، وليس في مدلولها حتما، فالغناء قد انتقل تلقائيا لموهبة أخرى تجيدها الذات الشاعرة وهي الرسم، لكن لم يكن بالألوان وإنما بالدموع، الشاعرية والتصوير تقبل هذا طواعية، لكن الأكثر عمقا أن الغناء لم يكن مؤشرا لفرحة تعيشها الذات أو سعادة تنبعث من فعل الغناء نفسه، لأن المآل قد وصل للرسم بالدموع، لكن محتوى المرسوم واقعيا لا يمكن أن يمر دون أن نقف عند تسلسل منطقي منزوع المشروعية، وتلك آية سعيف على كشاعر، في الأولى رسم خط استواء، ثم مدارا، ومن ثم كوكب دُري، لم ترد الأنا الشاعر أن تصوغ مأزقا منطقيا بأي حال، هكذا يفهم أصحاب القراءات البريئة، فالواضح أن الرجل قد قرأ خريطة العالم بأريحية وتركيز.
ما أتعس النقد حين يختزل الفطرة لمعان لا يصل إليها طفل يتصدى لقراءة الشعر!!
إن الشاعر هنا يحتال بالجغرافيا كي يبث لنا المضمر الذي ينطوي على طموحاته التي تضاءلت رغما عنه، كان مقبولا أن يسعى للاستواء كمنطلق يتحرك من خلاله نحو المثالية المرتجاة، ولما أيقن بالفشل قبل على مضض أن يكون مدارا، هو أكثر قناعة مما يظن الآخرون، وعلى اعتبار أن المدار ليس مستقيما حسب الحقيقة الجغرافية التي رسمته منحرفا في صورة نصف قوس، لكنه الفشل المطبق الذي دفع به لأن يتوهم كوكبا دريا قد يسمح بالمكوث فيه، لأن الحقيقة الجغرافية بدورها لم تعد صالحة لاستيعابه، لكن هيهات ولقد خانته الريشة ورسمت له ميناء لسفينة عمره الضائع، والتي تحتاج لأن تدرك أن البحر ماء وليس شيئا آخر.
سأفترض تهمة وأرد عليها ضمنيا. ليس افتتانا بالتفكيك، ولا يوجد من يكره هذه التصنيفات أكثر من كراهيتي لها، لكن حسبي الرغبة في حسن التعامل مع منجز الشاعر، وللصدق فنصوص "سعيف علي" لا تدفعنا دفعا للنظر إليها بنيويا، لا لشيء، ولكن الرجل يبدو لي منفلتا بمرجعياته في الكتابة من سيطرة النموذج البنيوي، ومن خلال ما يمارسه من انحرافات ووثبات سياقية وأسلوبية لا يمكن الركون عندها كنسق لشعر مموضع، بقدر ما يسعى لإنتاج شاعرية تغطي العديد من تصدعات عالمه الخاص أو العام، والذي بدوره لا يحتفل بأي مشروعية منطقية. لذا من السهل في شعره أن نعلن بصراحة انتقال القصدية إلى رحمة الله أو تكاد، لأننا بالضرورة أمام شعر، رغم ما يغلب عليه من وضوح مراوغ، لكنه لم يسع بأي حال لأن يثبت موضوعه وأهدافه بشكل نهائي، بل يمكن القول أن هذه النوعية من النصوص إذا حددنا قصدية صاحبها؛ لكنا بمثابة من يشوه النص لحساب معنى غير محدد بالكلية.
إن إنتاج النصوص المحددة أهدافها، نصوص لا تستوجب سوى قراءة استهلاكية مُسطحة، بينما تظل النصوص المنفلتة من تأسيس معنى وهدف محدد منتجة دوما للدلالات الجديدة، والنصوص المضافة للنص الأصلي شارحة ومفسرة بدون سقف يضع نهائية للتفسير.
قال صاحبي : لماذا ترك البحر؟
و جلس عند الشعراء يسمعهم
هل هو حارسُنا؟
هل خرج من ذاك الورق البُني؟
ومن تلك الأشباح التي ترقُبنا من تلك القصة،
أم من ذاك الكهف المغلق عنَّا ؟
أنظره على الوصيد يمد يديه،
يتملق أن نأتي بمذاق الشِّعر
انظر؟ أتُرانا نيامٌ..
من لغة هذا الشاهد ومفرداته، يبدو لي "سعيف علي" مفتونا بالمفردات الهائمة، التي لا يعرف على وجه اليقين أين سينتهي بها المطاف، لغة مُستغربة، تحتج احتجاجا منزوع الضجيج، ولكنه متسق بالكلية مع غرائبية اللغة التي انطوت عليها سورة الكهف كآية من آيات الأسلوب الغائم، والتي استقى منها تناصه الرائع في شفافية.
إن تقنياته هنا لا تضر شاعريته في شيء، ولكنها تضرب إلى حد بعيد آليات الإحالة، كي يظل مرمى الشاعر وأهدافه تتحركان كمركز دائرة تخلق العديد من الدوائر المنطلقة من هذا المركز بدون محدودية لكم الدوائر كي تصل لاستشراف الدلالات القريبة، فالأقرب وهكذا، ومن خلال لغة أشارية في المقام الأول.
مؤكد قد فطن "سعيف علي" أن مقولة الموضوع الشعري لم تعد ذات بال، وأن اللحظة تفرض شاعرية الموضوع، حيث بات الشعر هو خالق موضوعاته المنفرد، وبالتالي فإن اللغة المعيارية التي يتطابق فيها الدال والمدلول كطرفي للعلامة اللغوية قد أصبحا شيئا من الماضي، لأن المتأمل للغة هذا الشاهد سيدرك يقينا أن ما قاله"مالارميه" متحقق هنا بشكل كبير : "السطر الشعري ليس ألفاظا ذات معنى، بل ألفاظ ذات نوايا".
أن لعبة التناص المعرفي الحادث مع سورة الكهف إجمالا، لا تمنح الشاعر فقط صلاحيات الاستخدام، بقدر ما تساعده بشكل أو بآخر لمحاكمة منطقة التناص وربطها بالمضمر في نواياه كخالق للحالة الشعرية المتناصة مع القصة، بمعنى إننا أمام مفاتيح تناصية إذا جاز التعبير، البحر/ الكهف/الوصيد/ نيام.
البحر: الخضر عليه السلام مرموز العلم اللدني، في مقابل نبوة لم تحط بكل مفردات الحكمة.
الكهف: مرموز الفرار من طغيان أوشك أن يبتلع معسكر الإيمان.
الوصيد: الأمان المتمثل في باب يحفظ ما بداخله من فارين بدينهم، ويحول دون اقتحام المارقين.
نيام: سبات آمن إلى حين.
إذا اعتبرنا أن كل هذه المفردات إشارات تناصية فهي بالضرورة تختزل في ثناياها دلالات أنتجها تكثيفها من جهة، ودورها الموظف دراميا والمقصود من التناص ذاته من جهة أخرى، بمعنى أن ترك البحر كمسألة مستغربة استدعت السؤال من قبل الصاحب رغم وضوح إشارتها للخضر، لا تؤسس لحضوره بشكل حاسم، لأنه واقعيا لم يكن ملزما بتتبع أحاديث الشعراء، فحتما هو إحالة لشيء أبعد، ولاسيما أن الحقائق ملتبسة أصلا داخل الخطاب الشعري، الذي لا يدرك يقينا هل هو الحارس، أي كلبهم الممسك بالوصيد، أم هو صاحب موسى الممتلك لزمام حكمة أكبر من المتاح للآخرين، وخصوصا أن الوصيد أكثر رموز التناص ضيقا بالدلالة، لكن صعودات المشهد الغرائبي دراميا قد تجاوزت هذا التساؤل المضلل الذي ينطلق للبحث عن المكان الذي سمح بخروج الأنموذج المنتج الملائم للدلالة: من البحر، أم من الأوراق البُنية، أم من أشباح القصة وأطيافها؟ للحيلولة دون الولوج السريع للكهف كمركزية للتناص.
أزعم أن شاعرية "سعيف على" عندما أرادت فتح المعنى، أوقعتنا في إشكالية كبرى، فشاعريته لم تتناص مع القصة بقدر ما تماهت معها، فإن كان هناك ثمة وشائج تربط القصة بالأنا الشاعر، فهي ولاشك الكهف نفسه، وإن كان الأخير قضية النص المضمرة، فلا غضاضة من استحقاق أهل الكهف في القصة والشعراء في إطار النص لأن يقوما بالفرار من معسكر الطغيان، فالشعر دين في الحقيقة، يخاف أصحابه من أن يُفتنوا فيه.
إن التناص الذي جاء على هذا القدر من الاتساع هو في دواخله منطلق للتأويل، وما كان الالتفاف حول مضامينه إلا للكشف عن مضامين أخرى ذات علاقة بالمضمون الأصلي، والرصد الفاعل للعلاقات على محك استجلاء مناطق التشابه والتنافر، أو العلة التي يستتبعها بالضرورة أثر، تربط بدورها بين هذا التفسير الأولي وغيره من التفسيرات المنبثقة منه، إذن يمكن القول أن منطقة التناص لم تكن شاهد ملك على حرفية الاستخدام بقدر ما كانت فاعلية تناصية لإنتاج تشكيل مضموني جديد يضاف إلى قدرات الخلق الفني لدى شاعرنا.
إن الشاعر الحقيقي خليق به أن يدخل لكهف أقرانه ممن صاغوا بعد عناء القصيدة المستحيلة، يحترقون بنار الكافرين بحلمهم في إنجاز قصيدتهم الخالدة، فارين من المعتاد والمكرر والنمطي والمجاني، وخروج الخضر أو ذلك الإلهام المتطرف في صورة منتهى الحكمة أو ذاك الحارس الذي يحول دون دخولهم، باسطا يديه بالوصيد، لم يكن يتملقهم ويتودد إليهم ساخرا أو ضامرا لشيء سوى أنهم للآن مازالوا يبحثون عن ضالتهم التي تستطيع أن تلحقهم بأهل الكهف من الخالدين بنصوصهم التي نحتوها بأرواحهم ومداد دمائهم.
إن الشعر ضد في الحقيقة، لكنه لا يرضى بهذا الدور وحسب، ولكنه يتجاوز حتى دواخل رؤيته، ولا يمكن الانفلات من هذا المعنى" ترانا نيام؟" كي نلتمس أن مقولة الصواب والمنطقي مقولات هلامية لا مكان لها في نص شعري أراد له صاحبه أن يجرده من براثن المنطق المألوف، أن من يحاول صبغ شاعرية "سعيف علي" أو ربطها بالمنطق لا يصادر على شاعرية الرجل وحيرته وارتباكه حتى ولو ارتدى ثوب الاحتجاج الطفولي البريء غالبا وحسب، وإنما يقلص تجربته الإنسانية في المقام الأول، وأسره في نطاق المتاح والعقلاني، والذي هو في ذاته أشد ضيقا وإجحافا.
إن الشاعر الذي اختط لنفسه هذه اللغة والتراكيب ما كان ليتكلم عن مواجيده كي يُسقط كينونته بالكلية في ضمير الآخرين، وما كان ليمارس رغبة لا تخلو من إيهام وهو يسمع نفسه مبدئيا قبل أن يتورط في بث ما لديه من تفاصيل تؤرقه، فلقد انكشفت له نفسه، ولكنه عندما أراد الإعلان، فكر كثيرا قبل أن يسقط كليا في ضمير من يستمع لمناجاته.
أن حرفيته لا تهتم كثيرا بتماسك السياقات الشعرية، لا من خلال دلالاته، ولا من خلال أدوات الربط النحوية، فكل أساليب الاستفهام التي وردت في هذا الشاهد مجاب عنها سلفا، لكنها صيرورة المعاناة، تداخل الفعل الماضي والمضارع أعطى مشروعية درامية تليق بغرائبية المشهد، الأداء الصوتي الخافت والمثير معا، أجواء الحيرة والفضول لكشف غموض العارض الذي ألم بهما، الديالوج القائم على أطياف الحدث، الاستهلال المنبثق من تراث فن المقامة"قال صاحبي"، والمتسق مع قدم القصة ذات الأوراق البنية، التوظيف الموسيقي في زهد: البحر/ الشعر، حارسنا/ عنَّا، الحركات والسكونات في خواتيم السطر الشعري، ضجيج غريب وغامض ولكنه للصدق مدروس بعناية.
سيناريوهات الفجيعة
إن حرفية "سعيف علي" رغم ما يغلب عليها من براءة كما سبق القول، لا تحاول أن تركز كثيرا على تماسك سياقاته الشعرية، وبشكل مقصود في الحقيقة، لا على مستوى دلالاته المتفجرة في كل اتجاه، ولا من خلال وسائل الربط النحوية على مستوى الكلمات والجمل.
الرَّاكضين خَلف الُّسؤال
خلف خدٍّ يركبُ في الُحلْم سِفينة
على ضوء هذا نعترف أن مصطلح الوحدة العضوية في النقد الكلاسيكي قد تراجع هنا، وهي تهمة لا يمكن إنكارها، لكن جدير بنا أن نوجه الذائقة لمفهوم الوحدة المتحقق في نصوصه، وبيان خصوصيته على ضوء مغاير لهذه الوحدة، لأنها تنبثق من وحدة الحالة كإطار مهيمن على العديد من الحالات المتناثرة، احتجاج، حيرة، ثورة ناعمة في صوب ثابت لا يتفق مع معتقدات ومرتكزات ذاته.
إن مفهوم الوحدة الأكثر بروزا يظل في كم التوتر الحادث من أجواء فعل الإشارة الممتعضة لموضوع الأطروحة الشعرية نفسه، شظايا تنفجر، لتتجمع، لتنفجر من جديد، إن انتماء شاعرية "سعيف علي" إلى مرجعية حداثية أو تكاد يعطي المشروعية الكاملة لحدوث تداعيات هذه الحالة، والتي يفجرها فعل الكتابة، وإن العودة إلى مفهوم الوحدة العضوية في معناها القديم يعود بدوره إلى دوائر التلقي.
إن كثرة الفراغات والتشتت والتوتر في نماذج بعينها في شعر الرجل، لا يعني وحسب إيمان الرجل بالطرح الحداثي، ولاسيما أن الصورة الشعرية عنده مُصممة بعناية تجعلنا إلى حد كبير نتأرجح بين داع القصدية والفطرة، دون أن نتيقن في واحد منها من فرط ذلك الأداء الفاعل الذي أنتج الصور بالضرورة. فلا نستطيع –مثلا- الاندفاع للإيمان بها كتعبير عن موار داخلي لاواعي، أم هي ملمح سريالي، لكنها في كل الأحوال ترتكز على أجواء هذيانية منضبطة تعكس توتر خاص لانعكاسات العالم المتوتر بدوره، فانعدم الرابط وتراجع المنطق والتآزر، في بانوراما من العبث، أبرز ما فيها إنها تأكيد للغربة وعدم الاندماج في مفردات وتفاصيل عالمها.
أنت اليوم نخل وحيد
شارع واسع طويل
سماءٌ تضيع فيها الكتب
وسَحابةٌ بيضَاء ؛ وجهك المُعْدم بالفرح
من هذه التقدمة، ودون المصادرة على العديد من الملامح الجديرة بالنظر في شعر سعيف علي، سنتحدث عن أجمل وأعمق هذه الملامح من وجهة نظري، وهي كيمياء الأداء التصويري في شعره.
في حقيقة الأمر عندي عادة غريبة أمارسها أحيانا عند قراءة الشعر، ولاسيما النصوص التي تتسم بشيء من المراوغة، أو النصوص التي أشعر أنه قد تم تفعيل أساليبها لإنجاز حقيقة شعرية ذات ملمح درامي، أو ما شابه، حيث أبدأ القراءة من أعلى إلى أسفل كالمعتاد، ومن ثم أقرأ من أسفل إلى أعلى، كي أراقب حركة الصعود والهبوط، وما نتج عنها من معان في الحالتين، ليس بغرض استقراء العامود الفقري للنص أو منطقيته، بقدر الحرص على استلهام ما يمكن اعتباره مفاصل درامية أنتجها الشعر، وللصدق ففي شعر الرجل كانت هذه المسألة مرهقة جدا، ونتائجها لم ترض فضولي على الدوام. ربما أوجزت أسبابي –على سبيل المثال- في :
الأول: إن لغة هذا الشاعر تعاني ورطة، لغة تريد أن تقول كل شيء ولا تريد في نفس اللحظة، هي لغة أزمة ولاشك، لذا بدا لي المجهود الكبير الذي تبذله شاعرية الرجل أن تبدو كلغة متجاوزة لمنطقها ذاته.
الثاني: لم يتسن لي النظر لأنساقه الشعرية وكأنها تجربة خلق أول على الدوام، بل بدت لي كسلسلة متواصلة من إحلال وتبديل، وشطب، مؤكد قد احتفلت بالعادي والمهمش ولكنها حاكمته بلغة مجازية بامتياز، كي تبرز تناقضات هذا العالم.
الثالث: غض الطرف من قبل شاعريته على عدم التدخل أو التحكم في فياضانات هذه اللغة أحيانا، بل قد تستسلم طواعية للحشو والإطناب والالتفاف حول المعنى لتعطي منحى جديدا لمعنى العجز الجمالي إذا جاز التعبير، والذي ينطوي على التلميح بلغة لا تمنحنا إجماعا أو حصرا للمشكلة وعناصرها داخل المتن الشعري.
في تقنيات كهذه، تظل الصورة الجزئية أداة تنجز وظيفة أكبر منها، بمعنى أن مرتكزات شاعرية الرجل لا ترى في تصميم الصور منتهى ما تطمح فيه شاعريته، بل أن الرغبة في التصوير باتت أكبر من هذا بالفعل، والغريب أن نصوص الرجل عموما ليست على الدوام طويلة، بل تبدو لي كاختزال شعري لمشهد مقصود بذاته.
إن عبقرية هذه التقنية تشبه عندي إلى حد كبير كاتب السيناريو الحاذق الذي يستطيع بأريحية أن يصمم المشهد، دون النظر إلى تداعيات المنطق والصعودات الدرامية التي يحرص عليها كاتب السيناريو، ولكنه صممها لتكون دليلا حاسما على تشتت الصورة ذاتها، أو بالأحرى عناصر هذه الصورة، وللصدق فإن هذا لا يحدث بشكل عشوائي، بقدر ما تصنعه هذه الرغبة المبدئية في إزعاج العين الذائقة التي تتصدى لقراءة شعره، كي تسأل نفسها في خواتيم القراءة.. ما سر هذا التخبط التصويري الذي غلف المشهد برمته؟
الشاعر الجيد هو الذي يستطيع توريط الذائقة في بسط معطيات الأسئلة للنص المقروء، ومحاولة استقرائه بالشكل الذي يقترب من سلامة التأويل أو يكاد، لأننا مع "سعيف علي" لا نقرأ سياقات شعرية، بقدر ما نقرأ منظومة كاملة من العلاقات التي أنبنى عليها المتن الشعري نفسه، بمعنى إننا واقعيا لا نستطيع الرهان على نهاية واضحة أو حاسمة لأي نسق شعري سابق، من شأنه أن ينتج المعنى اللاحق له بشيء من الوضوح والمنطقية، ومع ذلك لم نكن نستطيع الانفلات من عميق تأثير الأفق المشهدي نفسه، وما انطوى عليه من صور تتم صياغتها ببساطة مقتدرة، ولكنها تسعى لأن تكون حجرا في بناء تصويري مكتمل.
إن المنطق المقبول الذي يحكم لغة هذا الشاهد على محك الصورة الكلية، هو صعود الكاميرا من الشارع العريض بتفاصيله إلى السماء التي ضاعت فيها الكتب، لكن يظل المدهش والغريب حقا. لما جاء التمهيد للمشهد بـ أنت (اليوم) نخل وحيد؟ والأشد أثرا هنا استسلام الشاعرية للمنطق على غير العادة والاستمرار في تكثيف المشهد بسحابة بيضاء تتسق مع ورود السماء في ثنايا المشهد.
أزعم أن هذا المشهد في حقيقته حديث أريكة، صدا لاعتراف قالته الشاعرية، ومن ثم يعيده طبيب يعالج هذه الحالة التي أنتجت هذا المعنى المتوتر والشجي في آن.
لا يمكن بأي حال الانفلات من الظرفية المحكومة قدريا بأنه من هذا اليوم قد صار نخلة وحيدة، والإقرار بهذا كحقيقة هو تضمين هامشي لصورة أخرى لم تفصح عنها شاعرية الرجل، فالتوحد المشار إليه قد خلق ظلالا من ظرفية متناقضة مع حقيقة الشارع العريض الذي تم الوثوب إليه في إطار المشهد، فالمآل لأن يكون نخلة وحيدة يستوجب صحراء ممتدة، أو واحة معزولة على الراجح، وإذا صح التأويل، فسماء وسحابة أو ما يتبعها من عارض ممطر، غاية لا يمكن أن تتخلى عنها هذه الصحراء التي تؤيد وجودها الذات النخلة، فهل يمكن اعتبار الشارع نتوءا ظهر على هذه الصورة؟
في حقيقة الأمر، الشاعرية التي أنتجت هذا السيناريو المختزل، لا تعاني بالضرورة أزمة قرار، ولا تحاكم حركة الأقدار، رغم يقينها في ضياع الكتب في هذه السماء، لكنها موجوعة إلى درجة النزف، لكنها تأبى أن تعلن عن هذا تصريحا، إن الأزمة التي يريد بثها المشهد برمته معنيين على درجة مخيفة من الوضوح، يرتكزان على ثنائية العبور والمرور. لذا فالشارع ليس نتوءا على تفاصيل الصورة، لأننا لا يمكن أن نجرد هذا الوصف المزدوج لهذا الشارع كونه عريضا وطويلا، عريض؛ فأصبح عبوره مسألة محفوفة بالمخاطر، حقيقة لأي شارع يحمل هذه الصفة، تستوجب تفادي العديد من الأشياء أثناء تنفيذ رغبة عبوره، وفي ذات الوقت مسألة المرور منه تستوجب وقتا كبيرا جدا، حقيقة أخرى فرضتها مسألة طوله. إذن فنحن لسنا بصدد شارع عادي، بقدر ما نصادف شارعا إشكاليا، يقف بين حقيقة التوحد كنخلة في صحراء الهموم، وتحت مظلة سماوات ضاعت فيها الكتب. وأنت اليوم. إعلان مبطن أن الذات الشاعرة قد اعترفت يقينا أنها جدا عاجزة على العبور أو المرور معا.
ربما أمارس شطحا معينا، لكن حسبي أن الوجه معدم بالفرح، كي نكتشف مأساة هذا الشارع، الذي انتهى لصحراء التوحد، ولم نعرف من أين بدأ؟
أقول أناديه بعد رحيل القاطرة
لا لباس لك إلا الشعر و القول الهاذي
لا رسم لشعرك على جبين الموت
لا ألواح تبني بها سفينة نوح
لا أحد يعرف انك ستأخذه من طمي الطين
من بحر يغرق في رائحة العرق
للصدق لم أرد بهذا الشاهد التدليل على صدق ما وصلت إليه من دلالات في الشاهد السابق، لكن للمرة الثانية، وربما لأكثر من هذا، وفي كل ما قرأت للرجل، لمست هذا التكنيك الفاعل والمقصود، ولا يمكن للذائقة أن تخطئ هذا الكم من الكبرياء الذي يتسامى فوق لحظة تفرض في كل مرحلة أن تتركه دون أن ينهار كليا، ولكنه يقاوم باستماتة لأن لا يحدث ذلك.
لم ينفلت الشعر عند سعيف علي من مفهوم الدراما، والتي هي في واحد من أبسط تعريفاتها صراع محتدم بين الإنسان وظروفه وعالمه، وأقداره أحيانا، وشعر الرجل –ربما- في المطلق آية من آيات هذا الصراع، سواء في صوب العالم وتفاصيله، أو بين الذات وما حدث منها في أثر أزمة ما لم يفصح عنها الشعر بشيء من التصريح، وحتى في الخطاب الشعري العاشق المفعم بثورة وجدان متأجج يبدو التماس واضحا مع معان توحي بأن الموقف نفسه بين الأنا الشاعر والحبيبة المفترضة لم يكن وليد لحظة من لحظات تسامح القدر مع الرغبة.
لا أريد التورط في بسط معطياتي كي أحلل التاريخ الشخصي الكامن خلف هذه الكتابة، ولاسيما أن الدراما قد تبدو لي في كثير من الأحيان ثورة على النمطي والمكرر، والحياة كرسم ثابت رهان ساذج إلى درجة، لكن الحقيقة الجلية هنا أن حيثيات الدراما تغلف معظم ما صادفناه من نصوص، ارتدت ثوب المشاهد المُصممة بعناية، أبعاد، شخوص، تفاصيل، أصوات، حوار، مونولوج داخلي يثري شكل الإرهاصة المراد طرحها شعرا. لذا يظل السؤال مطروحا.. إلى أي مدى تم تصوير الشعر دراميا، وعلى حساب أي سكون؟
أزعم أن أجواء هذه الكتابة قد أتت كتعبير عن مرحلة ما بعد النظام، فالمعنى الشائع في شعر مبدعنا دائما ما يتحد مع معنى الثوابت المتحولة، أو المنهارة أحيانا، أو زوال السقف المرجعي لأسباب لا يستطيع حصرها، بقدر ما يعبر عن دهشته حيال انهيارها ببراعة، وتمسكه لأن يعرض حدوسه الشعرية بروح طفل حزين ومندهش وممتعض دليل حاسم يعبر عن عجز ما يحول دون الفهم، وتصميم شعره من حيث الشكل والمتن على هذا النحو بالفعل رغبة ملحة لإزعاج العالم المعني بالأطروحة، كي يظل هذا العالم بدوره جاهزا لاستدراك موقف، يجب أن يستدركه حتما.
إن تعميق فكرة صراع لا يتأتى من منطلق قرار فردي، ولاسيما أن الصراع وما ينطوي عليه من تفاصيل قد يفقد معناه إذا كانا المتصارعين ليسا على درجة من الندية، الذات الشاعرة عموما أضعف من أن تظهر في إطار نص تبدو فيه أكبر من ذاك الهاجس الذي تقاومه، بل أعظم الشعر في رأيي هو الذي أنبنى على معنى الانسحاق النبيل أمام جبار واقع أو فكرة. وإبداء مشاعر الانتصار على العالم ومفرداته قد تبدو نرجسية لا يطيب للمقام الشعري أن يقف عندها طويلا.
إذا افترضنا-جدلا- أن هذه الكتابة حقا وصدقا كتابة ما بعد النظام، فعلينا أن نفترض خطا وهميا يفصل بين الهدوء الذي لم يفرز دراما أو صراعا للدقة، وبين مرحلة فارقة في حياة الذات الشاعرة، سقطت فيها تفاصيل الصراع كالسيل المنهمر، والواضح إذا صح التفسير أن الذات الشاعرة بدورها لم تذق لمعنى المرحلة الانتقالية طعما في حال هذا الصراع القدري الحادث فيما بينها وبين عالمها، فبدا الصراع وتفاصيله بين الذات الشاعرة المرتدية ثوب الطفل الممتعض، وبين ذاك الواقع المارد الذي لا يقاوم، إلا بمضايقته ومن ثم الاختفاء عن عيونه تفاديا لغضبه القاهر، وهذه الروح هي أهم ما ترتكز عليه جوهرية النصوص جميعا أو تكاد.
إذا سلمنا بهذه المعطيات كأدوات فاعلة خلقت ذاك المزاج الشعري الذي يلمح بدرامية مشاهده، فإننا لا نقرأ شعرا بقدر ما نقرأ فصولا من مأساة، خلقت فيما خلقت صدقا عارما، يبرر للذائقة بعض الشطحات الشعرية في العرض والصياغة والتكنيك، لكن هذه الفصول في الحقيقة انتخاب مقصود، لتداعيات بعينها من أصل المأساة إجمالا، تبدو وكأنها حالة من التفكير بصوت مرتفع في تداعيات أكبر من تحملها.
{أقول أناديه بعد رحيل القاطرة}، وما جدوى هذا النداء الذي ينم عن زوال خيوط الربط بين مُطلق النداء والمعني به؟
{ لا لباس/ لا رسم/ لا ألواح/ لا أحد} معظم هذه اللاءات المتتالية لم تكن جزءا من المشهد المراد عرضه لزاوية القطار الراحل، والنداء اليائس، ولاسيما أن الشاعرية لم تحدد من تنادي واقعيا، وإن كانت الإحالة قد تبدو حديثا للذات من الخارج. إذن فنحن هذه المرة أمام مونولوج داخلي يعمق حالة شعرية تبدأ من مشهد القاطرة حتى تنتهي عند البحر الذي يغرق في رائحة الغرق، إن اللاءات الأربعة لم تكن سوى دليل على علاقة نفي حادثة بشكل أكبر من أن تتخيلها الأنا الشاعر مطلقا، ولاسيما أن واحدة من هذه اللاءات توجهت للألواح لإنجاز سفينة نوح، وما تستوجبه هذه الإشارة للوقوف في البين بين، فلا هو قد رحل من الطوفان مع معسكر المؤمنين، ولا هو ضمنيا في واقعية البحث عن جذور تليق به في مرحلة ما بعد الانتكاسة، من منطلق شعر وقول هاذي لا يحقق سوى وجوده على جبين الموت.
ربما قد أصابني عارض من شطط، لكن حسبي هذا الخلق المتوازي بين الأفق المشهدي والأفق الدلالي، والذين سارا إلى أبعد نقطة ممكنة من التعاطي السريالي في ختام المشهد برمته.
أزعم أن هذه التركيبة{ لا أحد يعرف انك ستأخذه من طمي الطين } وثنائية البحر/العرق قد كتبت بمداد من دموع، وربما في منحى معين من تأويلاتها تكمن درامية الحياة ذاتها التي أنتجها الشعر.
حاشاي أن أدلو بدلوي في الحقيقة السريالية، فقط أشير إلى مسمى فوران اللاوعي أو التجرد من الواقع والسمو فوقه وفق أغلب التنظيرات، والتي لا يعنيني منها سوى الوصول إلى مرافئ المشاعر المكبوتة واستحضارها شعرا.
يقيني أن سعيف علي أكثرا كرما من أن يحرمني الرغبة في محاكمة التفصيلة الأخيرة من ثنايا هذا المشهد، والتي أعده أن تكون منصفة إلى درجة، ودون المصادرة مني على نوايا لا يعرفها إلا من منحه موهبة هذه الكتابة.
هل يمكن انتفاء الصلة دلاليا بين الطمي/ الطين؟ ربما يبدو السؤال صعبا، لكن زعمي أن السؤال التالي قد يكون سهلا.. هل انقطعت وشائج القربى بين البحر/العرق؟
من العبث بمكان النظر إلى هذه المفردات الأربع على أنها حشو زائد لمشهد انتهى واقعيا عند اللاءات الأربعة، وبصورة تعكس يأسا مطبقا فجَّره القطار الراحل. بل أن ما تم صياغته قبل التورط في هذا المعنى الرباعي الأبعاد؛ الطمي/الطين، والبحر/العرق، ما كان إلا للوصول إلى هذه الحقيقة الواردة في ختام المشهد برمته، وحين أقول الحقيقة، للصدق أعنيها تماما، لشاعرية تؤسس ميلودراما من وجع، يبدو صاحبها قويا، ولكنه منطو على أعلى قدر ممكن من الضعف النبيل والمنضبط.
إن تزاوج الطمي بالطين قد يبدو عند أصحاب القراءات البريئة نافلة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر العميق لآليات استخدام المضاف والمضاف إليه، الذي يجعل من الطين إطارا تعريفيا للطمي الذي تقصده شاعرية الرجل، إذن فالأصل طين، والفرع طمي بالضرورة، وهنا لسوف انتحل السذاجة واعتبرهما شيئا واحدا، فكلاهما طين، لكن أي طين، والـ التعريف قد وضعت الإطار وانتهى الأمر للإطلاق وليس للتخصيص، ومائية الطمي ذاتها هي التي تسمح بحدوث الانفصال أو الاشتباه في حدوث الفارق بين كيمياء الفرع والأصل المشتق منه، ربما يدفعني لهذا الاعتقاد قصة آدم نفسها، رغم عدم الإشارة لهذا الأصل الطيني بالطمي أبدا. إذن فمائية الطمي واقعيا قد انفصلت عن يبوسة الطين في واحدة من حالاته.
لا أدعي النجابة، لكن فقط أسأل هل { من بحر يغرق في رائحة العرق } جملة استئنافية للسابق لها؟
أزعم أنها كذلك فعلا، حتى لو جاءت (إلى بحر) بدلا عن (من)، على اعتبار من طمي الطين (إلى) بحر يغرق، لكن بقاء (من) هو مفجر السؤال في الحقيقة، لأن هذه الشاعرية تريد أن تنحت بأزميل خاص تكثيفا مروعا لمشهد مراد تصميمه بهذا الشكل لأن ينجز معنى الانفصال من جهة، وتساو النتيجة في كل الأحوال؛ بدليل الاستغناء كليا عن (إلى).
وهل هناك ما يفجر معنى اليأس الذي بدأ به الشاعر صورته غير تساو النتائج، أو هكذا كان حسب مقتضيات الحالة؟ وهل صوت البحر القادم من ظلال التصوير يختلف في كثير عن صوت الكفاح القادم من (العرق)؟ أليس الاثنان منطويين على الملح في أصليهما؟
قلت: إن هذه الشاعرية لا تعاني أزمة قرار في الواقع بقدر ما تعاني نتائج القرار نفسه، وأزعم أن هذا المعنى هو أصعب ما قرأته في كل ما صادفني من شعر سعيف علي، ولو فقدت في سبيل هذا الرأي الحد الأدنى من الموضوعية، لاعترفت بكل صدق أن دلالات هذا المشهد وختامه أبكاني فعلا، فلو آمنت أن الأنا الشاعر هي ذلك الطمي الذي لن نقول انفصل عن طينه، بل حري بنا أن ننعته نفيا، ولم يكن كذلك سوى انفصام عرى الاتحاد بين الطين ومشتقاته، ولم يكن البحر رغم ما تنتجه المفردة من معنى الثراء والاتساع سوى عين وقحة تراقب رائحة عرق الكفاح كداع من دواع الانفصال على محك القطرة وبحرها لصناعة مفارقة تليق بشاعريته.
عبر البحر و عبر طريق دائرة
ستقبض عن قانون الموت الأبدي
وتقبض عن جرم الآلهة القديمة
و تفتح أوزار الحجارة الكلسية بطريقة البوليس السياسي
وتقتحم عند الفجر’منازل الكلمات
ستركض على الكراسي
لتأخذ من مطبخ دائري ملاعق للأكل و صحناً
ثم تتهم الشعر بالخيانة
كثيرة هي النماذج التي يمكن أن نستشهد بها للتدليل على حرفية سعيف علي في تصميم مشاهده، لكن كالعادة قرأت نماذجه القليلة التي تحت يدي، بالعديد من الأمزجة المختلفة، ومجددا وجدت السيناريو المحكوم بإرادة الخلق الفني لديه لأن يبدو على هذا النحو حاضرا بقوة، لكن استوقفني في هذا النموذج مسألة أخرى في شكل التعاطي مع تفاصيل المشهد، ولاسيما الإصرار الحادث على تثبيت صوت الشاعر وهذا الآخر المعني بالخطاب الشعري البادي على ظلال المثال الوارد هنا.
بطبيعة الحال، تخيل ديالوج داخل إطار المشهد جزء لا يتجزأ من طبيعة التقنيات التي يحافظ عليها الرجل سواء بالقصدية أو العفوية، حال إنتاج صوره ومشاهده، لكن خطاب{mono} قد منحنا بعدا جديدا للرؤية في شكل تحليل عناصر هذا المشهد ونواياه، ولاسيما تثبيت المعنى الدائري كمن يفتح قوسين للمشهد نفسه، وليس كتوزيع لعناصر السيناريو ذاته والمنطوي عليه التصوير بالكلية، بمعنى أن يظل تحليل المشهد على محك الصورة ليس مجرد سيناريو منطو على تفاصيل، بقدر ما هو شرح مخرج النص كله للبطل أو الشخصية ومتطلبات دورها في المرحلة التي أفرزها المشهد ذاته، من معان ودلالات يحرص عليها مخرج العرض كي ينجز نواياه من المشهد.
الأزرق(البحر)، أو الأزرق والرمادي(الموت)، والفجر، ألوان ظهرت في ثنايا الصورة تلميحا للصدق، لكنها على الترتيب: المكان/ الحال أو المآل/ ظرف زمان. ولأن الضباب هو السمة الغالبة على هذا المشهد وفي اتساق واضح مع الحالة، ولأن حركة الكاميرا الساعية لرصد هذا التتابع من الأفعال: ستقبض/ تفتح/ تقتحم/ ستركض/ لتأخذ/ تتهم؛ ومن منطلق هذا الإيقاع اللاهث المتسارع، فلابد للكاميرا أن تتحرك في شكل دائري لا يقل سرعة عن سرعة المطلوب ممن يؤدي دوره المرسوم بعناية في ظلال هذا المشهد، إذن فمستوى الرؤية البصرية على الغالب يتحرك بشكل متوسط أفقي، لا من أسفل ولا من أعلى، وربما دوران الكاميرا على هذا النحو هو ما يبرر القوسين الذين سبق الإشارة لهما مرتين في سياق الشاهد( طريق دائرة/ مطبخ دائري). ربما سألت نفسي عن المطلوب من بطل المشهد ولاسيما في شكل ملامحه حيال إنتاج هذا المشهد؛ والواضح أنها صارمة وقوية، فكل المطلوب منه يستوجب قوة وبطشا، وعندما افترضت موسيقى تغطي الأحداث، وجدتها مثيرة بدرجة تتناسب مع حركة البطل المعني بأداء المطلوب، لكن ربما غفلت في لحظة ما عن متابعة cut التي كان جديرا بسعيف علي كمخرج المشهد أن ينطقها في دبر التفاصيل المتلاحقة للسيناريو الذي صاغه. إذن لنتكفل نحن بوضعها على هذا النحو ...
عبر البحر و عبر طريق دائرة
ستقبض عن قانون الموت الأبدي
وتقبض عن جرم الآلهة القديمة
و تفتح أوزار الحجارة الكلسية بطريقة البوليس السياسي
وتقتحم عند الفجر منازل الكلمات cut))
ستركض على الكراسي
لتأخذ من مطبخ دائري ملاعق للأكل و صحناً
ثم تتهم الشعر بالخيانة cut))
لا شك واعترف، القيام بعمل مونتاج لشعر الرجل مسألة محفوفة بالمخاطر، فالرهان على نواياه قد يبدو من سذاجة التلقي في الحقيقة، لذا سأفترض أن قارئ السطور السابقة قد ذهب في ظنونه إنني أمارس عبثا ما في التحليل للمشهدية في شعر سعيف علي. سامحهم الله على حال.
في حقيقة الأمر لم أكن أبتغي من هذا الحديث إلا أمرين:
الأول: إثبات أصالة الإرهاصة في طريقة تناول"سعيف علي" لمفهوم التشظي في الكتابة الحداثية، ولكن على محك الصورة هذه المرة.
الثاني: أثبات فطرية الشاعر في شكل التماس مع آليات سرد من منطلق شعر يحتفل احتفالا بمفاهيم الحيرة والارتباك والضبابية المدروسة.
يجب أن نتفق مبدئيا، وبغض النظر عن مسألة وعي الشاعر بما يصنع، أن في الفن عموما لا يوجد شيء عشوائي مطلقا، ولاسيما إذا كان ما نرصده أصلا يحمل سمت التكرار، وليس عارضا يتيما، بل عندما قلت أصالة الإرهاصة، فحتما لا أمنح الرجل شيئا لا يستحقه واقعيا، ولست أنا من يتحمل ممارسة هذا الظلم إن حدث.
كنت أمتلك وجهة نظر قديمة في مسألة التشظي كنمط من أنماط الكتابة الحداثية مفاده: أن أطروحة التشظي البادية في الحداثة الغربية لا يمكن الاحتفال بها شكلا وموضوعا في أطار اللغة عندنا بشكل كامل، ولاسيما أن اللغة العربية لغة دلالة في الأساس، ولما كانت كذلك، فإنها بالضرورة لا تمتلك استقلالية خاصة كأداة منتجة للدلالة بشكل منفرد، بقدر ما تستطيع إنجاز هذه الدلالة في نسق تكويني غالبا، يخضع لعناصر التآزر والتعاون كي تنجز أهدافها، وتتسق نحويا وتركيبيا في الغالب، ومن خلال تراتبية معينة في داخل إطارها، وربما هذا الذي يفسر نعتها بالإنشائية. وبإعادة النظر ثبت لي أن اللغة تستطيع أن تنجز توترها من منطلق توتر الذات التي أنتجت سياقاتها، ومن السهل النظر لها ككائن حي ينمو باستمرار، للتدليل على كيمياء التفجير الحادث لهذه اللغة من أجل تأسيس دلالات جديدة تغادر دلالاتها المعجمية التي يجوز اعتبارها كلاسيكية إلى درجة.
لكن تظل قضية "سعيف علي" في المشهدية نفسها، فالصورة الكلية عنده تعاني اضطرابا من نوع خاص، مؤكد تبدو كصورة متوترة، سريالية أحيانا، ولكن بانضباط فاعل ومقصود، هي كرنفال من التشظي في الحقيقة، لذا يبقى السؤال .. ما الجديد الذي قدمته شاعريته في هذا المضمار؟
سأجمل بحث المسألة في مفاتيح ثلاثة كي أصل لهدفي :
الأول: طبقات الصورة.
مما لاشك فيه أن تفاصيل الصورة عنده، ولأن لغته أشارية إلى درجة مرعبة، فإذا أخضعناها للحصر فلن نجد صعوبة في تحديد أركانها، فيما بين الأماكن، وربما الطقس أحيانا، والصوت والهوامش، والألوان، والتفاصيل المغشية بضبابات عارضة، للتعبير عن تفاصيل مهملة عن عمد، لكن هذه التفاصيل ليست مكونات مشهد واحد في حقيقتها، بل يجوز النظر لها كطبقات زجاجية، تتجه لها الذائقة ظاهريا كمشهد واضح، ولكن بالتركيز فيما وراء شفافية هذا الزجاج، سنلحظ صورة أخرى تكمن في الخلفية، ومن وراء هذه الصورة صورة ثالثة ربما، تأتي غالبا كتكملة لفراغات لم تكن واضحة حيال النظرة لأولى الطبقات، ومن ثم الثانية منها.
تعالْي إذًا نَّتئد
سيكون البدر اليوم مكَتملا
فاصنعي للأزقة المعتمة نافذة
تطل على البحر النائم في إطراف المحَّار
إن ظاهر المشهد هنا ليلي حتما، ومسوغات هذا اليقين المبدئي ورود البدر، وعتمة الأزقة، والمشهد مؤكد على درجة من الاتساع، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دعوة الحبيبة للاتئاد قد صدرت في زاوية رؤية تتجه لخط الأفق، لنظرة تتم من شاطئ صوب البحر، يسمح بعيدا عن غابات الأسمنت أن تتحقق هذه الرؤية المنتظرة لذاك البدر(طبقة شفافة أولى).
رغم ما يبدو على المشهد من اختزال كمي للمفردات والتفاصيل التي تتناسب مع حجم الدفقة ذاتها، لكني لا أستطيع أن أثق في نهائية المشهد عند هذا الحد، لأني ألمح على البعد ومن ثنايا المشهد نفسه حبيبين قد فرغا للتو من جدل عنيف وثائر، وحالة عارمة من التخبط، ومزاج عجلة وتوتر، ويأس قد ضاق بالانتظار، وألا لما دعاها للاتئاد؟ (طبقة شفافة ثانية).
هنا، وقبل الولوج إلى هذه الطبقة الثالثة التي تقف خلف المشهدين، جدير بي أن ألفت النظر لذاك التشظي الحادث بين الصورة وظلالها، رغم عدم زوال الرابطة المنطقية بين الحالة النفسية التي تأسس عليها، ولاسيما أن اشتهاء البدر كي يتم فتح نافذة للأزقة المعتمة قد جاء على أثر صراع مرتبك بالفعل بين حبيبين يعيشان على أمل، أثبتت المشهدية الأعم كم عبثيته، بل وعدمية الصورة برمتها. فلا البحر هو البحر، والذي انتهى إلى غفوة على أطراف المحار، كصورة منطلقة من عمق غير مرئي لهما، أنسحق على أثره ذلك البحر في معنى غرائبي إلى درجة مرعبة فعلا، لكن شاعرية "سعيف علي" المأزومة ما كان لها أن تترك هذا المعنى لعدمية كل أهداف المعنيين بالمشهد(الحبيبان)، أو زوال عتمة الأزقة كطموح مشروع، بل أدعو الذائقة التي تتصدى لقراءة هذا الشاهد أن تمعن النظر قليلا في ( سيكون البدر- اليوم- مكتملا) لندرك بلا مواربة أن هذا الشاعر عندما حطمت طفولته الشاعرة لعبة المجاز، لم تكن تقصد تحطيمه في إطار مشهديته وحسب، ولكن في إطار منطقية غائبة، ينحت فيها من روحه ما يؤكد هذه الحقائق الضاغطة والمميتة في أداء تصويري مبهر، وهل كان البدر إلا قمرا مكتملا. فكيف سولت له نفسه أن يعدها بأن هذا البدر في ذاك اليوم سيكتمل. فأي بدر هذا الذي تشير إليه شاعريته؟؟ من هنا ندرك أن الطبقة الثالثة لهذا المشهد هي صورة العدمية الكاملة والارتباك حيال بدائل غير متحققة.
الثاني: توزيعات الإضاءة:
إذا كنا نتحدث عن صورة مشهدية عامرة بالتفاصيل، فلا أقل من تلمس مسألة توزيع الإضاءة، ومن ثم رصد حركة الظلال، ومساحتها في آن، وعلى حسب التفاصيل التي نالت من هذا الضوء أي قدر.
في معظم ما قرأته- قليل للأسف- كانت مفردات العتمة تتأسس على ثنائية الليل/ المساء، مضافا لهما الظل في عوارض قليلة، وعلى الجانب الآخر كان الضوء يدور في فلك( الشمس/ النور/ الصباح/ الفجر/ الضياء/ نار/ أضواء)، ومؤكد يبدو هنا أن الرجل لم يستخدم أي حيلة لأن يبرز مساحات الضوء والقتام بأي وسيلة أبعد من مفرداتهما التقليدية إذا جاز التعبير.
مؤكد قد يبدو ذلك تناولا بسيطا لمفردات الضوء ونقيضه، لكن هذا الحكم إذا سلمنا به بشكل كامل لكنا كمن يتجاوز قيمة الظل النفسي الذي يغلف معنى المأساة الكامنة في شعره، ولاسيما أن كل تناول لمساحة ضوئية في التناول المشهدي في حد ذاته كان واضحا بشكل أو بآخر، وزعمي أن كثرة المفردات الدالة على الضوء قياسا بالمطروح من مفردات الظلام قد يؤكد لي عكس ما يتوقع الكثيرون، فربما قلت إن سعيف علي هو رجل الظل بلا منازع، رغم هذا الإفراط في مركبات الضوء، ولاسيما على ضوء تأسيس تجاربه الشعرية على أقل تقدير.
جدير بي أن أشير لتنكير مفردتي ليل ومساء{ سترة ليل/أسود ليل} ولم يأتيا معرفتين بـ (ال) على ضوء ما طالعناه للرجل سوى مرة ربما(يبنيه في الليل)، فيما يعطي الإحساس بشمولية هذا الظرف الزماني وعدم محدوديته، والليل كمفردة تتجه عموما كظرف للآلام، والتوجس، والمؤامرة، والخوف، واللوعة لعاشق يناجي محبوبته.
إذا اعتبرت أن "سعيف على" يعيش كل هذه الدلالات واقعيا والقادمة من مفردة كالليل، فلماذا بدت في مثل هذا الزهد؟
لا أسعى لتصدير أحكام قيمة في الواقع، لكن زعمي أن الشعر لا يحتفل كثيرا بالمنطق، بل أن المنطق في حظيرة الشعر عندي على الأقل هو أول بذور السفسطة، لذا لن أسير مع تداعيات هذا الزهد الواضح، وأدعي أن شاعرية الرجل مؤمنة إلى حد كبير بالضوء، ولاسيما أن الضوء في واحدة من تجلياته دليل حاسم على حدوث وضوح ما يغلف شكل الرؤية عموما، رغم أن الحيرة والأرتباك، وبعض الأجواء الضبابية تنفي هذا الزعم. وعلى الجانب الآخر من النهر قد يكون الضوء أو النور دليلا حاسما على تفاؤل، وهذا المعنى لا يبدو لي متحققا على الدوام في جل ما قرأته، رغم وروده كثيرا قياسا على مركبات العتمة إذا جاز التعبير.
إن صحت هذه المعطيات، فإن سعيف على لا يمنحنا ظلاما كأي ظلام مألوف، ولا الضوء نفسه هو الضوء العادي الذي نعرفه جميعا، والأوقع أن ضبابية الرؤية وأجواء الحيرة والصدمة قد امتدت لهذه الثنائية التي ما كان لها أن تظهر بهذا الشكل، لولا الشاعر نفسه، وعناصر مأساته التي تقف في الأساس خلف فعل الكتابة. ولا أدعي النجابة فالرجل يقول في شواهد متفرقة:
نور وجوهنا الكالحة
جيوش الصباح
تتوه في أضواء الشوارع
ولست أدري تحديدا كيف للوجوه الكالحة أن تنتج نورا، ولا كيف تسني لهذا الصباح المدجج بالسلاح وكل أدوات التنكيل أن يلوح لشاعر حالم قد راح في أمل بريء أن يأتي الصباح، فجاء كجيش لا قبل له به، ولا أعرف يقينا كيف تكون الشوارع مضاءة ويحدث هذا التيه؟ بينما ظل الليل والمساء محتفلا بقيم مضافة تعمق معنى القتام في قمته( أسود ليل) و( سترة ليل). إننا بالضرورة أمام أضواء بطعم القتام تقريبا، هي ليل إلا قليلا.
إذن يبقى السؤال.. كيف تم توزيع عناصر الإضاءة في مشاهد رغم هذا الكم من الالتباس والتداخل، بل والتماهي أحيانا كثيرة بين ثنائية الضوء الظلام؟
ماذا يعني ظلام؟
والصحراء حولي متاهة؛
موتٌ ،رحيلٌ، لا ظلَّ فيها
و لا حتى السَّراب
مؤلم هذا التساؤل، ومؤلمة الإجابات المتوقعة، لكن ولأن جنوني قد بات أكبر مني، سأفكر في الأمر بصوت مرتفع؛ لماذا نسأل أصلا؟
بطبيعة الحال، السؤال والفضول ممارسة تتجه عموما لاكتشاف مجهول، لكن موطن السؤال أن الشاعر هنا لا يدرك يقينا حقيقة الظلام، وعبقرية السؤال أنه يبحث عن معناه، ربما من فرط اندماجه في مركبات الضوء كان يجهله تماما، ولم يصادفه على الراجح، أو لم يكن مهتما بأمره، لكن، ولأن الشيء بالشيء يذكر، فالرجل مؤكد لا يعرف ماذا يعني الضوء نفسه، وألا لعرف ماذا يعني الظلام. لذا قد أميل أن في خلفية السؤال عدم معرفة للمعنيين معا، إذن في هذه الدفقة على قدر تكثيفها واختزالها تعلن ضمنيا الضرب في الحالتين ونفيهما، الظلام والضوء معا.
تم فتح المشهد، ومن ثم وجب التدليل على هذا الكم من الارتباك والحيرة، وتم توزيع الإضاءة على محورين نفسيين في الأساس، الظلام مبدئيا، والضوء القادم في ثوب الظلام.
تعالوا نتفق على كلمة سواء، ونحلل شكل حياة شاعر في يوم استهلكه في صحراء ممتدة، عُرض عليه الليل فكان تأكيدا عظيما لمتاهة، تنطوي على موت ورحيل، ومبتغى المسافر في ليل الصحراء قمر، أو نجمة شاردة ولاشك، ولأن الليل معتم إلى درجة فالرجل قد استجاب لداع الشاعرية وجرد ليل هذه الصحراء من أي شيء قد يساعد على حدوث حركة للحياة بلا متاهة، لكن هيهات أن يحدث والليل قد أتي على هذا النحو، ثم عُرض عليه النهار، لكن أين النهار؟ هو موجود على كل حال، بل هو السمة الأبرز التي حرصت شاعرية "سعيف علي" على تثبيته كحال لإضاءة حادثة، ولكنها منفية، أو عديمة المشروعية، فالرجل يقينا لم ير ظلا، أو سرابا، بالله أسأل شاعرنا.. عن أي معنى للظلام يبحث، وعن أي معنى للضوء يتحرك في دواخله السؤال؟
إن الشاعر ليس مطالبا أن يطرح أحاجي تبحث عن حل، فإن كان السراب ظاهرة صحراوية تظهر في نهار شديد الضوء، وتم نفيه بهذا الشكل، فأين النهار الذي يسمح بوجوده؟
إن انسحاق الظل وزواله، لم يكن سوى حيلة لا ينتجها إلا شاعر يعرف بالضرورة كيف يبلور فطرته الشاعرة في صوب إنتاج عناصر ضوئية موجودة، ولكنها بلا أي سند مرجعي من وحي حالته، فالحقيقة أنه لا ظل في ليل معتم، وإن كان النهار والضوء قد فشلا في إنتاج ظل له، فلا أقل من الاعتراف الضمني بهذا الكم العارم من العدمية، فمهما سقط عليه من ضوء ما كان له لأن ينتج ظلا. من هنا نكتشف رغم هذا التوزيع الضوئي والذي تسللت عناصره من مجرد المفردات المفاتيح الدالة عليه، ولكننا يقينا في ليل، والنهار بدوره فاقد معناه، وفقدان المعنى أو المعيارية وهذا المزاج العدمي هو جوهر الدفقة نفسها.
الَبدرُ مكَتمل
لم يبق للجوْعَى خبْز
سوى أعمدة الكهرباء المزروعة في منتصف الليل،
ستكونين معي
سيبقى لي ظلٌّ واحد
فلا تلبسي معطفا للمساء
لن أقف كثيرا عند هذا الشاهد، فالبدر مكتمل للمرة الثانية هنا، تم كسر حدة العتمة في منتصف ليل الجوعى، بمصدرين واضحين للضوء، البدر وأعمدة الكهرباء، المشهد ليل خارجي، النهار لا وجود له هنا، فالحبيبية ستحل ضيفة على حبيبها، والنهار ظرف زمان لا يليق بهذا اللقاء بالضرورة.
في تأسيس صورة هذا الشاهد كان "سعيف علي" منفتحا في استخدامه للإضاءة، فالواضح أن المسألة تكاد تقترب من استخدام ضوء مبهر إلى درجة كي ينتج ذاك الظل المفرد والذي يشير إلى ذوبان الحبيبين، ومؤكد لا حاجة لمعطف في هذه الأمسية. لكن حسبي أن الظل هنا متحقق على كل حال، وليس منفيا على غرار الشاهد السابق، إذن فهناك ثمة وجود، وليس عدمية بأي حال، في الحقيقة عندما نظرت إلى(لي) وليس (لنا) على مقتضيات السياق، ضحكت في إعجاب، مؤكد قد تماهى الحبيبان، لكنه الرجل في الواقع، صولجان الاحتواء ولاشك، ولكنه أكثر وعيا من أن ينفي تحقق وجوده إلا من خلالها، حتى وإن بدا البديل عن معطف المساء. للمرة الأولى التي يبدو فيها الظل إيجابيا إلى درجة، وليس محض تشرذم وحيرة.
الثالث: الأداء الصوتي
في كل ما قرأته للشاعر على رغم قلة النصوص، لم أشعر بأي ملمح للضجيج، رغم أجواء الاحتجاج، والحيرة والارتباك، وتلك الثورة الناعمة في صوب العديد من مركبات الضغط الذي مورس ضد أحلامه ورغباته، بل يجوز الزعم أن تقنيات الأداء الصوتي ذاتها كانت إلى حد بعيد أكثر الملامح انتظامية، بعكس مضامين المتون الشعرية ذاتها، وما انطوت عليه من تفجيرات وصعودات وبعض التهويمات الرحيمة على الغالب.
في حقيقة الأمر نحن أمام ضفيرة من نصوص نثرية مُفعلة، أو تفعيلات منثورة، لكنها ليست زاعقة، بل تبدو لي على أعلى قدر ممكن من الانسيابية والصفاء، والمائية التي تغلف أطروحة الرجل إجمالا.
في حقيقة الأمر، إذا كانت الأطروحة الشعرية الآن تنذر بتحطم النموذج الرومانسي، على صخرة الواقع أو التناول الحداثي في حد ذاته، في محاولة لتأسيس واقعية جديدة على انقاض واقعية استهلكت نفسها، فإن الممارسة الشعرية ستظل ممارسة رومانسية في حد ذاتها، وفي شعر سعيف علي تتجلى آية الرومانسية فيما يمكن اعتباره تمركزا حول الذات، مع فتح قنوات شرح المأساة الخاصة من منطلق واقع خانق يبدو كأطروحة ضدية أمام مشروع الشاعر الفني والإنساني في آن.
قلت إن منظومة السمات الشخصية للشاعر هي التي تجعل هذه النصوص للذائقة المتزنة في حال النصوص الإشكالية، وليس لأنها بذاتها كذلك، إذن وكما قلت منذ قليل فنحن نقرأ فصولا من مأساة خاصة، وفي ذات الوقت نقرأ تلك الروح التي تتصدى لعالمها وإحباطاتها.
إن النظرة العميقة للتناول الإيقاعي في نصوص شاعرنا تتجه للوثوب في منطقة لا يجوز توصيفها منطقة البين بين، رغم وجود ما يبرر هذا الزعم، حيث وقفت البنية الإيقاعية بين داع الهمس ولكنها لم تقترب يقينا من الصراخ، وهذا إن دل، فإنما يدل على هدوء طبيعي في الشخصية الفنية في إطار الشعر، وكراهة الصخب على المستوى الإنساني. ولأن مساحة الهم الخاص تبدو لي أكبر من الهم العام رغم وجود أطياف الأخير بشكل فاعل كمعبر عن واقع مأزوم، الشاعر جزء لا يتجزأ من مفرداته، فإن الهدوء سيد الموقف بلا منازع، لكن يبقى السؤال، فرغم تواجد هذا الكم من الصدمات والإحباط، وانكسار النموذج وانسحاق المثاليات، ويقين الهزيمة أمام العديد من جبابرة عوالم الشاعر الداخلية والخارجية في داخل العديد من النصوص، والتي كانت بدورها مدعاة للصراخ، فلماذا لم يفعل؟
إن منطقة البين بين التي أشرت إليها بشيء من التوجس، على اعتبار أن ميكانيزم الصوت تجاوز الهمس وتوقف عن اختراق حاجز الصراخ، تناول إشكالي في أساسه، لشاعر قام بتوظيف الصمت نفسه لأن يكون نوعا من الصراخ أو يكاد، لأني لو نظرت للدراما في شعره، ما كان لي أن أنفي حسابات الصمت نفسها من خلال رصدي لمفردات الصوت في إطار المشاهد التي صاغتها شاعريته، ولاسيما أن الرهان على وجود قصدية ما للصمت وتجنب الصراخ المحتج قد تورطنا في بسط معطيات التحليل النفسي للمسألة، لأننا يقينا لا نعرف طبيعة هذه الشخصية بشيء من الوضوح.
منغمس في لوث الصحو
غرٌّ لا أسكر إلا في تيه الشِّعر
كنت أحمله إلى كرسي، و أسمعه يغنِّي من شعر الحب أبياتا
و يبيتُ لا يدري، إن كان قطار قد حمل معطفه الشتوي
أو نسي البرد و قوارير نبيذه
آه… قال : لولا البرَّاد ما كنت عرفت أنَّك من صخر البحر
حاشاي أن ألوث بحماقاتي هذه المشهد، لكن حسبي فقط أن أفكر بصوت مرتفع مع شاعرنا لعلنا نصل لما نبتغيه. مكمن صوتيات هذا المشهد على الترتيب: يغني/ آه/ قال، ومحمول جملة القول هو بالضرورة صوت. فهل يمكن الاحتكام لباقي تفاصيل المشهد على كونها مصدرة لجلال الصمت؟
في حقيقة الأمر كل مركبات الصمت في هذا المشهد لا وجود لها، ولن احتاج واقعيا لدفوع أكبر مما أنطوى عليه المشهد نفسه، فهناك صوت الغضب القادم من لوث الصحو، وللصدق فقد قرأت الصحو هذه بمعنيين، الصحو الخاصة بالطقس، والصحو بمعنى اليقظة، واللوثة هي غضبة ولاشك، تبدأ على حسب اختيار الشاعرية مع داع اليقظة، وفي كلا المعنيين فالغضب مبرر حتما، ضجيج القطار صوت، قوارير النبيذ، البحر، البرد وأجواء الشتاء والمطر. لكننا لم نستجب إلا لثالوث الصوت الظاهر يغني/آه/ قال، لكن استوقفني بالفعل يغني من شعر الحب أبياتا، كي أسقط حكمي كذلك بغنائية المشهد كله، ولاسيما أن القاسم المشترك لكل مفردات المشهد ترتكز على أكثر حروف الأبجدية العربية رقة (الراء)، بل جدير بي أن ألفت النظر لمائية سعيف والتي تسللت من انسيابية موسيقا الدواخل نفسها. فـ واو العطف التي عطفت أبياتا ويبيت، لم تكن سوى فطرة مقتدرة في الحقيقة.
كان يحب أن يسمعني قافية البيت..
يروي حكايات عن جدار يبنيه في الليل ليعانق نجما يعشقه،ثم يغيب
يرمي دوار البحر لسحابٍ يحبُّ ظل الجدران
ويحب أن لا يمطرَ إلا على موت الأنهار
للصدق لم أقرأ شاعرا يبث مواجيده ومعاناته في خلق قصيدته بمثل هذه السلاسة والإدهاش والرقة في نفس الوقت، ولأن الشعر هو في الأساس واحد من فنون المشافهة بامتياز، فلنسمع مع سعيف علي قافية البيت، ونشاهد على ظلال مشهده هذه الصومعة التي تتسع لحيرة الشاعر فيه لأن ينتخب مفردات العشق التي تليق بالنجمة المشتهاة، يستحيل مطرا لا يحلو له الهطول إلا بعد جفاف أنهار الآخر أو رفاق الطريق ممن يصنعون صومعتهم في ذات الليل الباحث عن القصيدة.
في حقيقة الأمر لم أكن مستعدا لأن أعرض هذا الشاهد كي أبرر صوتيات الشاعر وتقنياته في هذا الصدد، ولاسيما أنها واضحة ( يسمعني/ يروي/ قافية/ يمطر) وخصوصا أنها لم تحقق توزيعات صوتية وحسب ولكنها أفرزت حركة وموارا جليا، لكن لا أخفي هنا سرا، وليغفر لي الشاعر جنوني على كل حال، فكلما نظرت إلى قافية البيت، ثم الوصول إلى (دوار البحر) كنت أصفق بعنف، وأقول لصديقي الشاعر: لقد نجحت بامتياز أن ترمي دوار البحر يا سعيف، فالمشهد هنا لا يمكن كتابته شعرا إلا هكذا أيها المراوغ. وبلغ عني التحيات الطيبات لقافية البيت.