لا أعِي كثيراً ممّا يُقالُ حيال الاقتصاد اليوم والاقتصاد بالأمس والبيانات المالية التي تُفصِحُ عنها الشركات والمؤسسات المالية "الهاموريّة" و "القِرشيّة" العملاقة في الوطن العربي،ولا يُسعفني ما أدّخرُه في ذهني من مهارات حِسابيّة متواضعة أن أستوعِبَ ديونَ مصارفٍ أفلست في أمريكا ولا قلاعٍ اقتصاديّة انهارت في أوربّا،ولكنّي أسمعُ كغيري من المتطفّلين على الأخبار الماليّة والاقتصاديّة ما يجري هنا وما يُحاكُ هناك وتناقلتْهُ وسائل الإعلام لتقدّمَ لنا بذلك طبخةً دسمةً عاليةَ "الكروسترول" عن ديون دُبي ..
كشَفَت "مجموعة دبي" عن سرٍّ كان في الخفاء عن الغافلين "مثلي" والأمّيين في عالم الأرقام "مثلي" فلم يعنينا ذلك السرّ ولم يروّعنا ذلك الرّقم الفلكي الذي قال عنه بعض المصطادين في المياه الراكدة بأنّه "مائة" من مليارات الدولارات،ولم يؤثّر هذا النّبأ في العلاقة بيني وبينَ نظرتي لإمارة واعدة حالمة رائدة نشيطة منذُ أن عرفناها وسمعنا بها،ولكنّ ما يهذي به سماسرة المصارف ومنسوبي التحليل الخُرافي في القنوات الفضائيّة يجعلني أنظرُ لنفسي وديوني الشخصيّة مقارنة بما تنتهجهُ سياسة دُبي الماليّة ..
كيفَ لا وأنا مثلُ دُبي في العروبة والبقعة الشرق أوسطيّة من العالم،وأنا كدُبي في الحلم والمحاولة والرغبة والطموح،وأنا أشبه دبي في وجود أبراجٍ عالية كثيرة في دماغي تلامس سحابَ الجنون وغيوم اللامعقول،ولي في دُبي أسوةٌ حسنة أن شجّعَت التفكير والإنتاج والثقافة والفنّ وجميع ما يصدره المخّ البشري من إشارات سالبةٍ أو موجبة لتوظّفها توظيفاً حسناً فأنا قد شجّعتُ يدايَ أن تكتبا وعينيّ أن تقرءا وقدمايَ أن تسيرا حيثُ الغريب والمجهول وشجّعتُ فضولي أن يكتبَ عن دُبي ..
لم تُقدّم أيّة مؤسّسة ماليّة في شرق العلم أو غربه تسهيلاً مالياً لدبي بسبب زُرقَة مياهها ولا جمال طقسها ولا صفارِ رمالها ولا سوادِ عيونِ من يسكنها من الناس،ولم تتفضّل مجموعة اقتصاديّة بأن ضمِنَت مشاريع دبي العملاقة حُبّاً وطرباً ورغبةً في الأجر والثواب أو من مبدأ تشجيع الواعدين والأخذ بأيدي الطموحين،بل هو المالُ الذي يأتي بالمال والعلمُ اليقين بل والأكثر من اليقين أنّ في دبي بئرٌ من ذهبٍ لن ينضب ..
ولو لم تعلم دُبي بأنّ متانة وجودها وسط هذا العراك المحتدم داخل ساحة الانهيار المالي لما أشهرَتْ هذا "الدّلع" الاقتصادي في هذا الوقت بالذات،ولما رقَصَتْ هذه الرقصة التغنُّجيّة الرائعة على موسيقى المموّلين العالميّين الذين طالما أغراهم وأعجبهم وراقَ لهم دلالُ دبي وخور دبي وعنفوان دبي،فحُقّ لها أن تطلبَ تأجيل الدّفع لستّ سنوات وليس لستّة أشهر فقط وحقّ لها إن رغِبَتْ أن تُعلنَ للعالم بأنّها لن تدفعَ قِرشاً أحمر لأحدٍ ومن لا يُعجبُه فليشرَعْ في "تبليط البحر" الذي حرثَهُ حكام دبي الحُكماء ..
من وجهة نظرٍ موغلةٍ في السطحيّة والعفويّة أرى أنْ لا حرَجَ على دبي أن قامت بهذه الخطوة الصريحة الواقعيّة في مناخٍ يعجّ باعترافاتٍ من كلّ حدبٍ وصوب عن إفلاس أو اندماج أو تقليص أو جدولة ديون لشركات لها من التاريخ في عالم الصناعة والتجارة أضعاف ما لدبي في تطوّرها ونهضتها السريعة الفذّة،وكلّ إناءٍ بما فيهٍ نضَحَ،وكلّ فتاةٍ بأبيها مُعجبة،أم أنّه حلالٌ على "شركة جنرال موتورز" الأصيلة القديمة العتيقة الوقورة وحرامٌ على "مجموعة دبي" الناشئة الشابّة القادرة؟
إذا كانَ القانون الذي يتعامل به هؤلاء الكبار في مجال المال والاقتراض والضمان والديون يُعطي لدبي الحقّ في أن تقولَ ما قالت فلقدْ قالتْ شعراً وأفصحتْ عن خبرٍ بمثابة الغربال لنوايا الجميع ليحيا من حيّ عن بيّنة ويُغادر من غادرَ وهو موسوم بإضمار الشرّ وتَحيُّن الفُرص،ولا أظنّ بأنّ دبي تُقدِمُ على مربّعٍ جديد في رقعة الشطرنج الهامّة إلا وهي تدرك ما وراءها وتستبصرُ ما أمامها،وللطموح ضريبةُ لا تُعجزُ دبي عن دفعِها وللنظرة البعيدة "فاتورة" تعي دبي أرقامها جيّداً ..
ما أعجبني في كلّ هذا الموضوع رغم فهمي الضئيل للاقتصاد السياسي والسياسة الاقتصادية هو أنّ دبي لم تطلب المساعدة من أحد ولم تعلن عن رغبتها في تسهيلات إضافية ولا لجأت لاستضعاف نفسها واستثارة شفقة المتربّصين بها دائرة الغرق،ولكنّه العكسُ تماماً هو ما يحصل،فالعالم انقسمَ إلى أربعة أقسام نحو دبي،قسمٌ أبدى قلقاً شديداً حيال ما له من ديون على شركات دبي،وقسمٌ أبدى شماتةً غبيّةً سخيفةً في جزءٍ من عالمنا العربي لم يعرف التاريخ لتطوّره مثيلاً،وقسمٌ تداعى ليقفَ بجانب دبي ـ كما يزعم ـ وفي داخله أملٌ أن يستفيدَ من أموال دبي في وقتٍ مناسب مقتنعاً بأنّ مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ،ورابعُ الأقسام التزمَ الصمت قابضاً على قلبه خائفاً من حكمِ العالم عليه وظهورِ ديونه كما ظهَرَت ديون دبي ..
حتّى من ديونِ دبي نتعلّم،فلقد عرفنا نحنُ المساكين في الأرض بأنّ هناك فرقٌ كبير بين شركاتٍ حكوميّة وشركاتٍ تملكها الحكومة،وبأنّ هناك ديونٌ على الحكومة وديونٌ تضمنها الحكومة،وبأنّ للإفصاح المالي شنّةٌ ورنّةٌ في عالم الفقراء أكثرُ منها في عالم المُلّاك والأغنياء،وأنّ علاجَ الدَّينِ تأجيله وتخفيف الدَّين جدولتُه،وأنّ عِظَمَ الديون دلالة المكانة الاقتصادية وثقة المُقرضين،وأنّ من حقّ المدين أن يجمعَ الدائنين في يومٍ عاصف حافل مهيب ويخطُبَ فيهم أن لا وفاءَ لهم عندَه ولا هم يحزنون ..
أمّا عن غراماتِ التأخير وعقوبات التأجيل وضحايا الجدولة فتلك مسائل تكفلُها المباحثات والاجتماعات واللقاءات الودّية التي غالباً ما يتنازلُ فيها صاحبُ الدين العالمي عن حقوقٍ ـ ورقيّة الكتابة ـ له مقابل استمرار تدفّق المال مستقبلاً ولو في بعض "الصّنابير" ودبي تعرفُ من أينَ تأتي المصارف والبنوك العالميّة في مقاتلها وتستسلم لها صاغرةً منقادةً لأنّها الأقوى ..
ليتَ البنك الذي أتعاملُ أنا معه وقد موِّلَني قبلَ خمس سنوات تمويلاً شرعيّاً ـ كما يقول ـ ينظرُ إليّ اليوم وقد بقي من سنواته العشر خمسٌ عجاف مثلَ ما ينظرُ أكبرُ بنوك "بريطانيا" لديون دبي واستعداده أن يقفَ معها مالاً وتمويلاً وصبراً حتى تؤتي أُكلَها ويأكلُ معها ذاتَ التّمر وذاتَ الدولار ..
إنّي أُعلنُ من اليوم أنّي لن أُسدّدَ هللةً واحدةً للبنك،فسِعْري من سِعر دُبي ..
التعليقات (0)