سُعار السلطة 2
" قررت التوقف عن ممارسة مهامي كرئيس للجمهورية. قرار نافذ ابتداء من ظهيرة هذا اليوم".
قرار ديغول هذا جاء اثر إعلان نتائج استفتاء عام 1969 . استفتاء لم تكن نتائجه في صالح بعض سياساته المطلوب الاستفتاء عليها اثر احداث 1968. نتائج الاستفتاء لا تلزم رئيس الجمهورية دستوريا بالاستقالة وترك مهامه. ولأنه ديغول, ولأنه يحترم اراء وارادة شعبه لم ير البقاء بالسلطة بعد اعتراض أغلبية على السياسة موضوع الاستفتاء. استقال وذهب بصمت, محرر فرنسا من النازية ومؤسس الجمهورية الخامسة, وسط دهشة وأسف وحزن غالبية عظمى من الفرنسيين .(مسؤولية وفهم عميق لرجل دولة حقيقي للدولة والسلطة).
" من "الصحرا للصحرا سنزحف عليهم بالملايين"ومش" من ليبيا فقط. بيت بيت شبر شبر زنقه زنقه... سأقاتل ببندقيتي حتى آخر طلقة... سأجعل ليبيا كتلة لهب.. شدوا الجرذان"
قرار عقيد ليبيا مؤسس الجمهورية ثم الجماهيرية الليبية "بالفاتح العظيم", ردا على مطالب شعبه بالحرية والديمقراطية. قرار المفكر والمنظر والمثقف صاحب الكتاب الأخضر الذي أقام له مركز بحوث ودراسات انفق عليها مئات الملايين. قرار أراده خطب حربية جابت العالم باجمعه بالصوت والصورة واللحن والإيقاع , فضحك من ضحك, وطرب من طرب, وحزن من حزن. من الحالات النادرة التي وفُّق فيها القذافي في وصف وتقرير حالة ما هو قوله انه عميد القادة العرب, فبحكم الخبرة والاختلاط والمعاشرة يكتشف العقيد أن موجود وجودا فعليا في تكوين كل قائد من نظرائه ممن هم تحت عمادته, وانه يبزهم جميعا, وبذلك فهو عميدهم. ليس عمادة أقدمية في اغتصاب السلطة والتعسف بها, وإنما عمادة فعلية. النظم الاستبدادية لا يمكنها أن تنتج, أينما تواجدت, إلا قذافي وقادة طبق الأصل عنه, مع بعض الرتوش.
أليس هو العميد والرائد في ابتكار الاتهامات ضد أبناء شعبه المطالبين بالحرية والتغيير والديمقراطية بأنهم يتعاطون حبوب هلوسة؟ بأنهم عصابات مدسوسة؟ بأنهم يريدون تدمير ليبيا؟ بأنهم القاعدة؟ بان زعزعة نظامه سيحلب الويل والثبور على أوروبا من القاعدة ومن موجات المهاجرين غير الشرعيين (التي كانت سياسة القذافي تتكسب منها ماديا, مع البترول, وتبادلها بدعم سياسي وسكوت على ممارساته بما فيها الإرهابية) أليس القائل بان زعزعة امن ليبيا سيقود إلى زعزعة امن إسرائيل, (العقيد غيور على امن إسرائيل وهو الذي رفع عقودا محاربة إسرائيل ودخل طويلا في صفوف الممانعة). اتهامات اخذها عنه بحرفيتها من القادة الواقعين تحت عمادته. سير القذافي دباباته ومدرعات وراجمات الصواريخ وأرسل الطائرات لإعادة الثوار المطالبين إلى جماهيرية القذافي وثقافة الكتاب الأخضر ولشد الجرذان. وسير مثلها في بلدانهم القادة الواقعين تحت عمادة العقيد. لا نريد ذكر زيادة من مآثر القذافي فأبناء ليبيا الأبطال ردوا عليه سلما, ولما تمادى علموه أنهم أهل بطولة ويحسنون استخدام السلاح ولكن للدفاع عن قضية عادلة قضية الحرية والديمقراطية. لهث هو وما زال يلهث بسعار محموم للبقاء في السلطة, وثاروا هم بعزيمة "مختارية" (نسبة إلى بطل ورمز ليبيا عمر المختار)" لدحره خارج السلطة.
"مؤامرة صهيونية تحاك في الغرف الأمريكية ... محاولة انقلاب على الشرعية الدستورية ... لا يوجد يد أمنية تستلم السلطة من بعدي ...حثالة وقطاع طرق يريدون تخريب اليمن ... كفاكم لعبا بالنار ...)
لهذا لم يقرر العقيد اليمني التنحي وله في عميده قدوة. أليس الاقتباس من هذا الأخير يكاد يكون حرفيا, وان افتقد فن القذافي في الإلقاء والإخراج رغم خطاباته شبه اليومية (وعليه لم يجد ملحنا واحدا لخطبة واحدة), وكانّ الرئيس تنحى عن مهام الرئاسة فعلا وتفرغ كليا للخطابة. خطب تريد الإقناع بان اليمن مازال بحاجة لقيادته بعد 32 عاما فالرجل معطاء, واليمن متسامح وسعيد.
ليس سعار السلطة هنا فقط محبة السلطة عند هؤلاء إلى درجة العبادة وإنما الخوف من تركها وفقدانها بما يتضمن ذلك من فقدان لحصاناتها وملاحقة الشعب لهم ليقول لهم ولأبنائهم وإخوته وكل المقربين منهم من أين لكم هذا. في محاكمات مدوية وليقولوا لهم أين أوصلتم ليبيا بعد استبداد دام 42 عاما؟ أين أوصلتم اليمن بعد استبداد وفقر وتخلف دام 32 عاما؟. جرائم مالية وجرائم جنائية ثقيلة بثقل الحكم وطول مدته جرائم ممتدة على عقود. يحس العقيدان بذلك, وبحكم الخبرة في المراوغة, يحسا أن شعبيهما جادان ولن يرحما (الم يفعلها شعب مصر ويطالب بها شعب تونس دون كلل), وان المحاكمة قمة الحضارة. وان التخلي عنها خيانة للشعب وتضحياته ومكافأة للمجربين وتشجيع للجريمة. وهذا ما يزيد سُعار التمسك بالسلطة سُعارا.
الأمر في سوريا مختلف من حيث الطرح والمعالجة. لا احد من السلطة يخطب أو يصرح. السلطة تفعل. وتترك الخطابة والتبرير وفن الإقناع لإعلامها. والغناء لفنانيها, والخطابة لمثقفيها, والوعظ لحزبييها (مع الاستعانة عند اللزوم بالاحتياطي اللبناني) فنسمع عن ملاحقة للسلفيين والإرهابيين والعصابات والخونة والمدسوسين الذي جاءوا سوريا من كل حدب وصوب وكالفطور ظهروا دون نمو طبيعي, دون أية إشارة تدل على سابق وجود. وعليه يؤيد هؤلاء ملاحقتهم بالدبابات والمدفعية. قتل منهم إلى اليوم حسب أكثر الإحصاءات تفاؤلا ما يزيد على 800 مندس, إضافة للجرحى والمفقودين والمعتقلين, ومع ذلك لم تنتهي بعد إعداد هؤلاء المتآمرين على الدولة السورية الذين يتظاهرون في كل المحافظات السورية تقريبا. ويتساءلون لماذا الآن؟. لماذا الآن يتحرك أصحاب المؤامرة على سوريا المستهدفة منذ 42 عاما؟. لماذا سكتوا وانتظروا 42 عاما للمطالبة بالحرية والديمقراطية, رغم أن ورشة الإصلاحات بدأ التحضير لها جديا, أليست هي المؤامرة ؟. هذا ما يكرره الإعلام السوري دون توقف أو كلل. البلد مستهدف منذ 50 عاما.
لم يصرح مسؤول سوري واحد باسم السلطة ما تريد فعله لوضع حد للمؤامرة ولا لما تريد فعله من غير الحل الأمني. تركت المهمة بذلك للإعلام وموجهي الإعلام من المراكز الأمنية. فأبدع الإعلام. وان استمر بإبداعه هذا فانه سيكون العامل الأساسي في إسقاط النظام. من يستطيع أن يستمع لاستراتيجي واحد برتبة دكتور على المحطات السورية أو متحدثا لمحطات عربية , ويفهم كلمة أو يقتنع بكلمة؟, فما بالنا بالاستماع لغير الاستراتجيين من غير الدكاترة, وهم يحللون ويركبون ويهاجمون ويقلبون الحقائق بشكل لا يمكن أن يقبله احد, موال ساخر أكان أم معارض . محايد, أم غير مبال. ولا نتحدث عن المستمعين والمشاهدين العرب وغير العرب, المتحدثين بالعربية ,و عن دهشتهم مما يرون ويسمعون.
هل التخوين والتخويف والترهيب والقمع الجسدي والفكري هو ما يمكن أن تتبعه الحكومات التي تدعي الوطنية والمفترض أنها تعبر عن شعبها وإرادته؟. هل في هذا الحل لمطالب الشعوب؟ هل لا يعيب السوري ويحزنه أن يُخوّنه مواطنه السلطوي أو المتسلط لان الله لم يخلقه (والحمد لله على ذلك) صورة عنه بقضيضه ونقيضه, ولا يحمل فكره وثقافته وعقليته؟ (و مرة ثانية الحمد لله). هل له الفخر بان تُتهم غالبة الشعب السوري بالخيانة والعمالة؟. هل من يلجأ إلى مثل هذا التقييم إنسان سوي أو أخلاقي أو وطني أو مثقف أو يعي ما يقول؟. لماذا لم نر في الدول الديمقراطية خائنا واحدا لهذه الأسباب, أو نسمع بان من في السلطة اتهم من هو خارج السلطة بالخيانة, ويعطي نفسه حق توزيع صكوك الوطنية وقصرها على مؤيديه, وتهم الخيانة على معارضيه. هل نعت الآخرين بالخيانة هي خاصية عربية, وعند بعض العرب؟. ولكن لماذا لا نسمع هذا التهمة عند عرب آخرين, إلى اليوم على الأقل, في رد المغاربة على مئات الآلف المتظاهرين في المدن المغربية, ولا نرى الدبابات تطاردهم وتقصفهم بالمدفعية ورصاص الشبيحة ورجال الأمن والقناصة, بجريمة المطالبة بالحرية والإصلاح, ومزيد من الإصلاح؟ هل هي خاصية رسمية سورية صرفة؟.
مسؤول دون منصب رسمي في السلطة, أي انه مسؤول غير مسؤول أمام السلطة أو أمام أحد!!!, (هل كان سيف الإسلام القذافي مسؤولا رسميا في سلطة أبيه أو مسؤول أمام احد؟) يصرح دون أن يرد على تصريحاته أي مسؤول له صفة, بأنه يملك القوة الكافية لينهي الأمر مع المتآمرين, ويمنع الوصول إلى عدم الاستقرار. لان في هذا ضرر ليس فقط على امن واستقرار سوريا, وإنما كذلك على أمن واستقرار إسرائيل (ليس هذا اقتباسا من القذافي). قد يعتبرها البعض زلة لسان ممن ليس له في السياسة والسلطة, سلطته الوحيدة, إلى الآن على الأقل, ليست على أرواح مواطنيه وإنما فقط على جيوبهم. لم يحاول أي مسؤول أو شبه مسؤول التعليق على ذلك. علق عليه الاستراتجيون الدكاترة الإعلاميون واعتبروا أن لا زلة لسان هنا ولا خطأ, الكبار لا يزلون ولا يخطئون.هذه فقط من عيوب الشعب, عامة الشعب, وعلى الشعب أن يفهم بالتي هي أحسن و إلا .. وإلا سيبقى يدفع الدماء, وسيبقى الدمار, وستبقى الدبابة في كل شارع ومنعطف, إلى أن يعود لطوره ويفهم ما يجب عليه فهمه.
هي مدرسة المترنح عميد القادة العرب, مدرسة الاستبداد.انه سُعار السلطة. سعار التمسك بالسلطة وسعار الخوف من ترك السلطة.
المطالبة بالحرية والديمقراطية اكبر من تتهم بأنها مطالب عصابات متآمرة وسلفيين ومهلوسين..إنها مطالب شعوب مضطهدة لعقود طويلة من قبل سلطات أبناء جلدتها, شعوب ثارت فأسقطت, إلى الآن, أنظمة في تونس ومصر وإفريقيا, وتتوسع ثورتها لتعم منطقة الشرق الأوسط بأكمله والشمال الإفريقي . إنها مسيرة التاريخ. هلا قرأتم جيدا التاريخ؟ حديثه على الأقل. انه تحول عصر أيها السادة.
د.هايل نصر
التعليقات (0)