لم يفهم احد من حكام منطقتنا أن السلطة وسيلة يفوضها الشعب صاحب السيادة لمن ينتخبهم ديمقراطيا لإدارة شؤون الدولة والمجتمع. وإن للشعب سحبها منهم في حالة تجاوزهم حدودها, وأنهم يفقدونها حين انتهاء فترة التفويض وأنهم في استمرارهم بها بعد ذلك يصبحون مغتصبين لها, بما يرتبه الاغتصاب من نتائج ومسؤوليات. و بان الزمن مهما طال لا يعطي مشروعية للفعل غير المشروع أساسا. وبان تزوير إرادة الشعوب هو نوع من أنواع اغتصاب السلطة.
ليس هذا مجرد كلام قانون دستوري كلاسيكي, أو نظريات سياسية مثالية يذهب بالضد منه الواقع السياسي الذي جرى عليه العمل, بحيث تصبح سلطة الأمر الواقع واقعا يستمد شرعيته من ديمومته, ومن دستور يصدره لاحقا, ومن قوانين تُشرّع بالكيفية التي تخدم أنظمة الأمر الواقع ليجعل منها واقعا يجب التعامل معه داخليا ودوليا.
صحيح أن حتى في الديمقراطيات الراسخة تحدث تجاوزات على مفهوم السلطة, وتُستحدث أسالب قد تُحرّف الإرادة الحقيقية للشعوب. ولكن ذلك لا يصل إلى التفرد بها لدرجة المرض والهيام "بدباديبها", ليس في كل الأحوال هيام على غرار هيام قيس ابن الملوح بليلاه , وإنما هيام من نوع الهلوسة (دون حبوب قذافية) و جنون العظمة, والنرجسية, وصولا إلى داء الكلب والسُعار (وهل ما رأيناه عند بن على في تونس وعند حسني مبارك في مصر وتصرفاتهما قبل الثورة وأثنائها تجاه الثوار, وما نراه في اليمن وعند العقيد القذافي, بشكل خاص, بأقل من داء الكلب والسُعار غير القابل للشفاء إلا باستئصال؟).
لا. لا يصل الأمر في الغرب إلى ذلك. ليس لعصمة في أشخاص مفوضي الشعب لممارسة السلطة, وإنما للوسائل الفعالة التي تحول دون الوصول إلى كلب أو سعار, و لوجود موانع ووسائل ناجعة للوقاية من مثل هذه الأمراض. فقد تنبه مونتسكيو لهذا في القرن الثامن عشر, وهو من كان يجزم بان كل من يملك سلطة يعمل على تجازوها والتعسف في استعمالها, فوضع نظريته الشهيرة المعمول بها إلى اليوم, وتطالب كل الشعوب الساعية للديمقراطية بتبنيها, وهي نظرية فصل السلطات, واستقلال بعضها عن بعض, لأنه لا يُوقف تجاوز السلطة والجموح بها إلا سلطة موازية ومعادلة لها. ترتب على ذلك قيام دولة القانون والمؤسسات التي يضبط عملها الدستور والقوانين. الشيء الذي لم يخلق مؤسسات ديمقراطية فقط, وإنما خلق كذلك الروح الديمقراطية التي تسود إنسانها وتنظم تفكيره وتضبط تصرفاته. فيمتنع بذلك ظهور مرض السعار بالسلطة أو انتشاره بين الحكام والمحكومين.
وعليه لم نسمع, في وقتنا الحاضر على الأقل, أن سُعارا أصاب زعيما غربيا, في دولة غربية ديمقراطية, فقام بشن حرب شعواء على أبناء وطنه للاحتفاظ بالسلطة. ولم نسمع برئيس جمهورية , في بلد ديمقراطي يتبنى النظام الرئاسي, زادت فترة رئاسته على فترتين رئاسيتين (لا نتحدث عن الملكيات الدستورية التي يملك فيها الملك ولا يحكم). وان كان في الأنظمة البرلمانية الديمقراطية يستطيع رئيس الوزراء ممارسة الحكم لدورات برلمانية عديدة, فان ذلك لا يعود لهوسه بالسلطة وعدم التخلي عنها ولو بقتل أبناء شعبه أو التهديد العلني أو المبطن بقتلهم أو قمعهم, وإنما لان الشعب نفسه أعاد انتخاب حزبه أو ائتلاف الأحزاب الداعمة له لرضائه عن أدائه في الفترة المنتهية من حكمه.
بعيدون كل البعد عن هذه المفاهيم طغاة منطقتنا. السلطة عندهم شبيهة بالتفويض الإلهي. اختارهم القدر لها فأصبحوا الحكام الضرورة. فالتفويض من هذا القبيل مطلق غير مقيد ولا محدد بزمن, فكم سمعنا من شعارات أوحوا بها لأعوانهم وأوصلوها لشعوبهم للهتاف بها ببغائيا: إلى الأبد إلى الأبد .. وترويج مقولات الزعيم الخالد الذي لا ينفق, تحديا لكل إرادات التغيير, ولإرادة الله الخالد وحده.
لا غرابة عندئذ إذا ما اعتبر الطاغية أن يده مطلقة في القبض على كل مفاصل السلطة, وان الدستور والقوانين مجرد وسائل لتأكيد ما يريده هو وإعطاء مشروعية لإعماله, ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون قيودا عليه وحصرا لسلطته.
ومن هنا يرى في أية مطالبة من قبل المواطنين بإصلاح ما مساسا بهيبته وعظمته. فهو وحده الذي يقرر ضرورة الإصلاح أو عدمه. وهو الذي, وبالإرادة المنفردة, من يُنزّل مكرمات أو هبات أو منح بعض الحقوق على من يشاء ووقت ما يشاء. حقوق يجب توسلها لتُنزّل تنزيلا. تنزيل من كريم مهيب وهاب على متسولين, عملا أو وظيفة أو مهنة, أو عفوا عن سجين, أو لعودة مغترب ضيّق به بلده ففر ينشد الفرج والسعة والحرية في أرجاء المعمورة, حيث لا يوجد زعماء الضرورة. وعند كل مكرمة أو هبة تجيش له جيوش من الرعية للحمد والشكر والهتاف بالروح بالدم نفديك يا زعيم.
لم تبق الأمور كما أرادها هؤلاء, وكما فرضوها عقودا وعقود. فقد جاءهم الشباب من حيث لا يحتسبون فارضين وضع السلطة في مكانها الطبيعي, معيدين السيادة للشعب صاحبها الحقيقي. فسقط طغاة ويترنح غيرهم قبل السقوط , وآخرون وآخرون ينتظرون ذات المصير.
لقد رأت شعوب المنطقة أية مستويات مخزية هي مستويات من كانوا يُسموا عظماء وملهمين وقادة لا يتسرب الباطل إليهم من أمامهم أو خلفهم أو من أي جانب. فضحتهم المليارات المسروقة والمحولة للخارج في بنوك العالم اجمع. وكشف ذلك ــ وقت الخوف وارتعادهم وزنقتهم ــ فن الخطابة والتصريحات التي يرثى لها, كم هم مرضى هؤلاء وبأسون, وكم هم عديمو الأهلية , عديمو الضمير والأخلاق, وفاقدو كل المؤهلات السوية. أي إنسان في عالمنا هذا لم تضحكه كلمات وإشارات وحركات وتعابير, صاحب الكتاب الأخضر, مبدع النظرية الثالثة, عميد أشباهه من الحكام العرب, من سوق نفسه زعيما ثوريا عالميا وقائدا أمميا, وحمال أوسمة. مفكر وفيلسوف ملهم , لا يقل في ذلك عن إلهامه في فن السياسة, انه "الأخ العقيد" المصر على إفناء "إخوته" ليبقى في عنفوان سلطته, وليسلمها بعد أن ينفق إلى سيفه المثلوم الذي لا يقل كفاءة عن أبيه, فالولد سر أبيه.
لقد سقط العديد من الطغاة وسقطت معهم أحلام التوريث, في سلسلة من الفضائح الإجرامية والمالية والأخلاقية, فضائح ما خفي منها أعظم مما طفا على السطح.
كم هو مطلب عادل وحضاري أن يقف هؤلاء أمام المحاكم العادلة ليكتب التاريخ بالوثائق تاريخهم كاملا ويسطر: بأنه في غفلة من الزمن أغتصب أفراد, ولدوا من لا شيء دون أهلية دون ثقافة دون قيم دون ضمائر دون شرعية, السلطة ونصبوا من أنفسهم, على ضالتهم, عظماء ملهمين وقادة للشعوب, ونُودي بهم, في سلم الأولويات, بعد الله وقبل الوطن.
لا غرابة انه وضع السلطة في غير أهلها. انه سُعار السلطة. وأي سُعار.
د.هايل نصر
التعليقات (0)