• تمهيد
المؤسسات بأعضائها، والأعضاء بمؤسساتهم. هذا القول الذي يكاد يقترب من أن يشبه حلقة مفرغة، هو واقع يصف علاقة الفرد بالمؤسسة بالمجتمع. والمقال التالي يصف دور مؤسسات المجتمع المدني في منطقة الخليج، واحتمالات تبلورها في أجواء التغيير التي يشهدها الخليج وسكانه. وهو يرتبط أساساً بمدى احتمالات انتشار تلك المؤسسات في منطقة لم تكن الكثير من بقاعها تعرف من مؤسسات مدنية غير مؤسسات القبيلة والسلطة السياسية، وهي شحيحة ومحدودة. وحدَّ من انتشارها وفاعليتها، ربطها بالعمل السياسي، فبقي مجرد التفكير في إيجادها محرم سياسيا وربما دينيا أيضا لما تشكله تلك المؤسسات وفي ابسط صورها من أثر واضح في منظومة الفعل السياسي. وفي حقيقة الأمر لم يكن ذلك بعيداً عن الواقع: فالتجمع يولد تبادل الهموم، والتبادل يعطي الطريق للبحث عن الحلول، وهو ما يؤدي للسياسة.
أمور كثيرة تغيّرت، وبات الفرد الخليجي في حاجة إلى مؤسسات متينة تثري حياته وتسنده وتفسح المجال لتنشيط فعاليته، وتوسيع حرياته. حينما يود الفرد الخليجي أن يفعل في واقعه، وينشط خلايا حياته بعيداً عن الأطر الرسمية أو أطر المؤسسات الاقتصادية التي يعمل فيها ويحصل من ورائها على وسيلة عيشه، فإنه بحاجة إلى مؤسسات حديثة، ولا نقول عريقة. ولكن ضيق الفسحة التي كان يفردها المجتمع لبناء مثل تلك المؤسسات، تعني أن الأفراد سيفتقرون إلى وجودها. ولربما يتوجب عليهم بناء بعضها منذ البدء لعدم وجودها أصلاً. ولكن البدء متأخراً خيراً من عدم البدء أبداً، كما يقولون. ولقد بات الطريق مفتوحاً على تفاوت في المدن والأرياف وحتى البوادي الخليجية، وما تبقى هو أن يشمر الأفراد ويعملوا إما للبناء على ما كان قائماً، أو البدء لتشييد الأساس. وفي ذلك يجب ألا يقع سالكو الطريق بالاعتقاد أن كل شيء بيد الدولة، وبها، ولأجلها ومنها. آن للأفراد أن يتحملوا مسؤولية إمساك أقدارهم بين أيديهم.
العالم بأسره يُعاد إنتاجه من جديد في ظل ما يشهده من متغيرات استراتيجية متلاحقة، خاصة وقد أطل الدب الروسي برأسه على مناطق النفوذ في الأقاليم الحيوية، بانت مؤشراتها عندما اجتاح جورجيا فضلا عن تدخله في مجمل قضايا الشرق الأوسط كالملف النووي الإيراني وغيره، الأمر الذي يسهم في كسر طوق العزلة عنه منذ نهاية الحرب الباردة وتفتت الاتحاد السوفييتي، ليستعيد شيئا من توازنه الاستراتيجي، بل ويكون لاعبا مهما في الصراع الدائر. بهذا يدخل روسيا من جديد في معادلة قديمة جديدة تسمى بالحرب الباردة. وهنا يستحضر روبرت كيغان أحد منظري المحافظين الجدد حيث أصدر مؤخرًا كتابًا بعنوان عودة التأريخ ونهاية الأحلام كنقيض لفكرة فرانسيس فوكوياما في نهاية التأريخ والإنسان الأخير إذ يصبح عالم ما بعد الحرب الباردة وأحلام الديمقراطيّة الليبراليّة - حسب رؤية كيغان - في مهب الريح، حيث يعود ضبط الإيقاع للعلاقات الدولية على وتيرة الصراع من جديد بين معسكرين اثنين: أحدهما ديمقراطي تتزعمه أميركا وأوروبا واليابان والهند، والآخر استبدادي سلطوي تقوده الصين وروسيا، بمعنى أن الثنائية الاستراتيجيّة الدوليّة تعود بشكل مختلف وموسع، مما حدا بـ كيغان نفسه أن يقدم اقتراحًا استراتيجيًّا باعتباره معززًا للدور الذي ينبغي أن يلعبه المعسكر الديمقراطي إزاء القوة العالميّة الصاعدة، من خلال بناء رابطة الديمقراطيات التي يكون هدفها هو مواجهة معسكر الدكتاتوريات.
يأتي مثل هذا الحديث في الوقت الذي تتصاعد حظوظ نظرية التعددية القطبيّة وظهور أكثر من طرف كمنافس استراتيجي على الصعيد الدولي كـ الصين والهند واليابان وروسيا بالإضافة لأوروبا مما يؤدي إلى انحسار فكرة القطب الواحد ومبدأ الانفراد والسيطرة، فالصين والهند كبلدين فقط تشهد فيهما سرعة حركة التصنيع ما يفوق أربعة أضعاف حجمها في أمريكا مثلا، ناهيك عن الجوانب الحيوية الأخرى.
• العالم ومساق اللاقطبيّة
وبمعزل عن كل هذا التوصيف نستطيع القول إننا أمام حقيقة لا مفر منها، وكما يبدو أن العالم يتشكل وفق ذلك، حيث إن المؤشرات الراهنة تدفع هذا العالم إلى دخول حيز اللاقطبيّة سواء كان الصراع والتنافس بين جهتين أو جهات عدة. بمعنى أن ثمة أطرافًا دوليّة بوصفها تمتلك من المرونة ما يجعلها منسجمة والمتغيرات الإستراتيجية، وبالتالي تظل لا تبتعد عن دوائر النمو والتطور، بينما يغرق عالمنا العربي والخليجي في سديم العتمة، على اعتبار أن معظم حكوماته تبذل ما من شأنه أن يمنحها العمر المديد حتى لو كان على حساب شعوبها.
ومن جهة أخرى، واهمٌ من يعتقد أنه ولمجرد إطلاق سراح مؤسسات المجتمع المدني؛ ذلك يعني بالضرورة قد يسهم بشكل أو بآخر في زعزعة القرار السياسي وتوهينه على مستوى الوطن، هذه - ولا شك - تعد مغالطة كبرى لا تستطيع الصمود ولا الاستمرار لولا بعض العقول؛ المسكونة بـ فوبيا التغيير والتجديد، حيث وجدت من دكاكين الجمود ملاذًا آمنًا لتمرير عديد مجسات الانكفاء! يحدث هذا على الرغم من تأمثُل التجارب الإنسانية أمامنا والتي تؤكد - بشكل أو بآخر - على أن الإقرار بالحداثة وبمؤسسات المجتمع المدني باعتبارها صمام الأمان لكافة المكونات الأساسية للدولة، لما لها من أبعاد معتبرة، تتسق مع الواقع السياسي والاجتماعي معًا، فهي ولاشك تُسهم من جهة في تخفيف العبء عن المؤسسات الحكومية، ومن جهة أخرى تراهن على إيجاد أشبه ما يكون بالماكنزمات الحقوقية المدنية، الحقوق المدنية للمواطنة، الحقوق الأساسية المشتركة في الشؤون العامة، والحقوق الاجتماعية، لترسم المعالم الرئيسة لبناء الدولة الحديثة، لاسيما أن رهان بلورة كل تلك المكونات يعتمد على مدى تفاعل العلاقة ما بين المواطن، المجتمع، الدولة. إذ لا قيمة لها دون علاقة مجاذبة؛ تُؤسس إلى حراك حيوي وخلاّق، يجد المواطن من خلاله فرصته الكبيرة للمشاركة في عمليات البناء والتطوير والتحديث، وكل ذلك لا يتأتى توفره إلا برهانات الحرية والديمقراطية واحترام قضايا حقوق الإنسان.
ومهما بلغ حجم التلازم الدينامي ما بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني؛ هذا لا يؤدي بأن تندفع الدولة باتجاه تحييد حراك المؤسسات، أو أن تأتي هذه الأخيرة لتمارس الانفلات تحت مبرر الاستقلالية! بالتأكيد خاصة ونحن كمجتمعات خليجيّة للتو يتسرب إلى - الفعل الثقافي - الوعي لدينا ما يصدق عليه بمؤشرات الإصلاح، حيث لا وجه للمبالغة في القول إنّ مسيرة الإصلاح للمكونات السياسية في الخليج وإن بدت بطيئة في مضامينها العميقة إلا أنها ولا شك تظل مستمرة، وقابلة للتعاظم يوما بعد آخر، وهذا ما يلمسه المراقبون السياسيون على كافة الاتجاهات الحيوية: اقتصادية أو اجتماعيّة أو سياسيّة، مما يشير إلى أن التغيير قادم لا محالة، ولو تطلب الأمر الكثير من الوقت! لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد، هو ما طبيعة هذا التغيير؟ فليست المراهنة على التغيير من أجل التغيير بقدر ما هو البحث عن تغيير ينسجم وطبيعة المكونات الرئيسة للمجتمعات الخليجيّة؛ اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.
• التأسيس لوعي وطني
ومن هذا المنطلق، نجد أن الأمور تدفعنا باتجاه اتخاذ تدابير عاجلة تؤسس إلى وعي وطني ينتظم مع أدوار التكوين لمؤسسات المجتمع المدني بل وتمكينها أيضا، على أن تكون مساحة الحرية بالنسبة لهذه الشعوب محل أهمية، من أجل تهيئة المناخ لحراكٍ مدني واعد، وبالقدر الذي يوفر حالة من الانسجام والتجانس مع طبيعة القرار السياسي للدولة، وهذا كفيل في الوقت نفسه أن تكون فكرة مؤسسات المجتمع المدني بالنسبة للمجتمعات الخليجية في مختبر التجربة، إن لم تكن بمثابة العامل المساعد لإحداث التغيير والخروج من العديد من الأزمات العالقة، وهذا بالتأكيد لن يتم إلا عبر مراحل عديدة من الدربة والتأهيل. نحن نؤكد على الوعي الوطني كمرحلة مؤسسة إلى مبدأ العمل بـ "المواطنة" وهذا يتأتى من خلال تضافر جهات عدة مسؤولة عن ذلك، وهذا ليس وارد البحث.
وكتجربة حضارية ولمجرد القناعة بالدور الذي ما تزال تلعبه مثل هذه المؤسسات المدنية في المجتمعات الغربية خاصة وأنها لم تعد كجهة ضاغطة فحسب، بل باتت شريكة في صناعة القرار السياسي للدولة، سواء كان ذلك على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وبالتالي إذا ما أرادت مجتمعات الخليج العمل وفق الصورة المدنيّة الغربية بكل تداعياتها التفصيليّة فلا بد لها من تلمس حجم التضحية التي قدمتها تلك الشعوب طيلة حقبة زمنية طويلة. فقياس التجربة لا يعني بأي شكل من الأشكال استنساخها من الأصل، فإن لكل مجتمع خصوصيّة ينبغي مراعاتها، وهذا ما تثبته الدراسات ومراكز الأبحاث بأن لا تطابق لدى الدول الغربية من حيث الدور الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني، بمعنى أن هناك تغايرًا كبيرًا في طبيعة العمل المدني من دولة إلى أخرى، لأنه مرهون بالخصوصية الثقافية لكل دولة على حدة، ناهيك عن طبيعة الاختلافات المتبعة في تطبيق النظم الحقوقية فيها.
إذن نحن أمام تجربة إنسانية حديثة، فهي بقدر ما تتمتع به من لياقة ومرونة في جوهرها، أيضا لا نستطيع أن ننفي عنها خاصية التعقيد والتشابك، خاصة إذا ما اعتبرنا ذلك انعكاسا طبيعيا لمدى الاختلاف الذي تعيشه هذه المجتمعات في مختلف الأصعدة. وهذا لا يلغي طبيعة الدور الذي تأسست من أجله مؤسسات المجتمع المدني، بمعنى أن قابليّة الاستفادة منها كتجربة لا يعني بأي حال من الأحوال إفراغها من مضمونها الحقيقي! بوصفها الجزء المكمل لقوة الدولة الحديثة. بكلام آخر: إنّ أي ضعف لمؤسسات المجتمع المدني هو دلالة واضحة لضعف الدولة والعكس صحيح أيضًا. والدولة القوية هي التي تهيئ المناخ المناسب لاتساق المجتمع المدني بمؤسساته المتنوعة.
وبغض النظر عن امتياز الفكر الغربي في ابتكاره وتطويره للمدنيّة في كونها تجربة بشرية رائدة، هذا لا يلغي الدور الذي قامت به معظم الأدبيات العربية عندما تلقفت العديد من هذه الأفكار والتجارب البشرية على الرغم من المعوقات الكثيرة والتي حدَّت من تدفقها إلى الوعي العربي بكل سلاسة وسهولة. هذا من شأنه أن ينعكس على عدم اكتمال تمظهرها بصورة وافية لدى المجتمعات العربية والخليجيّة، يأتي هذا كنتيجة لما قام به بعض المثقفين العرب في فترة السبعينات من القرن الماضي، عندما عزز هؤلاء من دور الدولة كجهة منفردة عن دور المجتمع بجميع مؤسساته المدنيّة، ولم يكتفوا بذلك، بل كانت تتصدر معظم برامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كل ما يُغلب من نفوذ الدولة على المجتمع من حيث الدور والأهميّة! بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وقد شهدت بعض المجتمعات العربية وفي فترة لاحقة ظهور الكثير من الهيئات والنقابات والحركات الشعبية التطوعية والمؤسسات وغيرها، مما أدى بالبعض منهم إلى أن يستدرك في حينها حتمية إيجاد رؤية جديدة، تساهم في تنظيم العلاقة ما بين السلطة وجميع مؤسسات المجتمع المدني، بمعنى إعادة إنتاج هذه العلاقة بصورة عصرية يلعب فيها المجتمع بكل قواه الدور الأهم والأبرز في عملية النهضة المعاصرة.
• صناعة النظام الاجتماعي
ومن جهة أخرى وفي ظل التحولات الكونيّة الهائلة التي ولا شك ألقت بظلالها الإستراتيجية على معظم الأقاليم العربية والتي لم تكن المجتمعات الخليجيّة بمنأى عن كل هذه التحولات والمتغيرات، كان لزامًا عليها أن تتهيأ وتستعد لمرحلة جديدة وقادمة، بعد أن يسود الوعي الحقيقي إزاء مختلف الرؤى الإنسانيّة والحضارية الأخرى والتي من أبرزها فكرة مؤسسات المجتمع المدني، بحيث تكون كافة القوى السياسية لاعبًا رئيسًا، ليس في تهيئة المناخ الملائم فحسب، بل والذهاب إلى كل ما يجعل من هذه المؤسسات أن تتبوأ مكانة مهمة؛ تجعلها على مسافة قريبة من صناعة النظم الاجتماعية والسياسية، وفق رؤى عصرية تتناغم في مضمونها مع الفعل الثقافي الوطني.
وبالتأكيد إن تسهيل عملية نشأة مثل هذه المؤسسات في الواقع؛ هو بحد ذاته يُعد وثبة عالية لدفع الأمور باتجاه الديمقراطية وكافة عوامل التنمية، إذ ينبغي أن يُنظر إلى فكرة المجتمع المدني على أنها خطوة ناجزة وليست بديلة عن الدولة، كما يحلو للبعض أن يصورها، كما لا ينبغي أن يُنظر إليها في جوهرها كتجربة مثاليّة بإمكانها معالجة مجمل القضايا العالقة!. لذا من الطبيعي وفي المجتمعات الخليجيّة أن تكون علاقة الدولة بمؤسسات المجتمع المدني ليست علاقة طردية، بقدر ما تقوم على مبدأ تبادل الثقة، وإرساء دعائم التعاون بين الطرفين. وأعتقد أن تجربة مؤسسات المجتمع المدني ليس في بعض الدول الخليجية فحسب، بل في معظم الأقطار العربية لا تزال في معظمها تُعد تجربة هشة، وينقصها عامل الخبرة، ولا تزال تفتقر للشيء الكثير من عناصر التنظيم الإداري والمالي، مما يجعلها كجهة ضعيفة أمام طود النظام السياسي العام للدولة.
• المجتمع المدني ورهان الاستقرار
من هذا المنطلق إذا ما أردنا أن نؤسس لمناخ يعقد الصلة القوية ما بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في مجتمعات كالمجتمعات الخليجية لا بد أن نُجذر الثقة بينهما عبر وفاق شفاف ومعلن يأتي من روح القانون وتكفله الدساتير، بحيث تستوعب الواحدة الأخرى من أجل حراك اجتماعي وحيوي يضمن لكل جهة حضورها ومضمونها في القناعة والدور والبناء. ولأن التجربة تُعد حديثة عهد بالنسبة لتاريخ المجتمعات الخليجية، فمن الطبيعي جدًّا أن تسود حالة من الارتياب تجاهها، وبالتالي ينعكس ذلك على عدم بلورتها بشكل صحيح، في الوقت الذي تعتبر هذه المجتمعات بأمس الحاجة لأن لا تفوّت عليها الفرصة، ولا يكفي أن تقتنع بها فحسب بل عليها أن تسعى جاهدة من أجل إيجاد عوامل ضاغطة ومساعدة من أجل إرساء دعائمها؛ وكل ذلك وفق الرؤى والممارسات المدنية ذات الطابع السلمي الضاغط، هذا إذا ما أرادت أن تسجل لصالحها إنجازًا حضاريًا طالما كان تترقبه وتنتظره.
إذن القناعة بالفعل المدني باعتباره خطوة ناجزة أمر مطلوب، لكنه في الوقت نفسه لا يفي بالغرض إزاء مشروع دولة متكامل، إن لم تُدعم بمرتكزات عديدة بحيث تكون مؤسسات المجتمع المدني أشبه ما تكون بصمام أمان أمام أي خطر محدق يحاول أن ينال أو يقوض الدولة في خواصها ومسيرتها، ولعلّ من أهم ما ينبغي أن تتمتع به هذه المؤسسات سمة الاستقلالية الكاملة في مختلف النواحي التنظيميّة والإداريّة والماليّة، فهي بذلك تجسد القدرة لديها للقيام بحراك مدني، من خلاله تنأى بذاتها عن أي تدخل خارجي، من شأنه أن يوفر للمواطن مساحات كثيرة للمساهمة في مشروع بناء الدولة الحديثة.
وقد أثبتت تجارب الشعوب الأخرى بالقدر الذي تصبح فيه مؤسسات المجتمع المدني مستقلة؛ بالقدر نفسه تستطيع أن تشترك في بناء الدولة الحديثة والمجتمع المدني معًا، وهذا ما ينبغي أن تضعه الأنظمة السياسية في المنطقة بعين الاعتبار، وذلك من أجل عمل متكامل ومتكافئ، يسهل عمل تلك المؤسسات على مختلف الأصعدة، خاصة أن العالم برمته يمر بمتغيرات عميقة، شئنا أم أبينا فلابد أن يشهد العالم العربي بكل أقاليمه تداعيات كل ذلك، وها نحن نعيش بعض تلك التحولات والتي باتت واضحة، حيث اتضحت معالمها على أكثر من صعيد، ولعلّ ظهور مؤسسات المجتمع المدني في أكثر من إقليم عربي من اتحادات، نقابات، هيئات، جمعيات وغيرها، خير شاهد على ذلك، ولم يقتصر الأمر على هذا الصعيد فحسب، بل ذهبت بعض الدول العربية إلى ما هو أبعد من ذلك؛ بعد أن عززت الوعي باتجاه الإصلاح السياسي وجعله كإستراتيجية للأمن الوطني، ناهيك عمّا بذلته بعض الدول العربية من خطوات جادة إزاء الفعل الديمقراطي، حين عملت بمبدأ الانتخابات كتعبير عن المشاركة الشعبية في صناعة القرار، بينما سمح البعض الآخر من هذه الدول في توسيع هامش الحريات العامة، مما ألقى بظلاله على دفع الأمور باتجاه أن تأخذ فكرة مؤسسات المجتمع المدني اعتبارها الطبيعي لدى هذه المجتمعات، حتى أصبحت بمثابة خارطة الطريق للوصول للديمقراطية، ولعلّ ما أقدمت عليه هذه الدول سواء في تشكيل مجالس شورى أو في إقرار العمل بمبدأ الانتخابات في المجالس البلدية أو حتى في مشاركة المرأة في الحد الأدنى من منظومة الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فهو ولا شك خير شاهد على تلك التحولات الإيجابية والتي نرجو أن تستمر وتتواصل.
وعوداً على بدء ومن أجل بلورة مشروع الدول الحديثة لا بد من التأكيد على مبدأ استقلاليّة هذه المؤسسات المدنية عن مصدر القرار الحكومي إلى الحد الذي يحمي خصوصياتها كجهة متصلة بالواقع الاجتماعي، وفي الوقت نفسه لا تتغافل النظام العام السياسي للدولة، وأراني مصطفا مع المترقبين للنهوض بالحال المدني على صعيد المجتمعات الخليجية، لاسيّما ومؤشر الإصلاح يأخذ طابعًا تصاعديًّا يوما بعد آخر إلى درجة أن الوعي الاجتماعي أخذ يعتاد على عناوين عديدة لم يكن يتداولها في قاموسه اليومي، كالديمقراطية والتعدديّة والمشاركة الشعبية والحرية والعدالة والمساواة ومبادئ حقوق الإنسان، وصحيح بأن ذلك لا يفي بالغرض المطلوب غير أن ذلك ولا شك يساهم في أن يدفع الأمور باتجاه العمل الوطني المشترك بين جميع القوى الفاعلة، الأنظمة والحكومات من جهة، وكافة القوى الاجتماعية من جهة أخرى، وهذا بالفعل ما كان مترقبا ومأمولا بالحد الأدنى على الأقل. في الوقت الذي تعلو فيه النداءات الوطنية والرسمية معا؛ لتعبر عن رأي وطني واحد، يكفل لها القدرة على البناء ويحميها من أية ضغوطات محدقة في الحاضر والمستقبل.
• عودة التأريخ والسلوك الديمقراطي
في الآونة الأخيرة تشهد معظم الدول العربية والإسلامية موجة من التدافع السياسي والاجتماعي معاً تجاه بعض القيم السياسية المعاصرة، والتي تتسق ومكنزمات الأنسنة بكل تفاصيلها الحقوقية والمدنية، وقيم الحرية والعدالة والمساواة والعمل بالديمقراطية بمعانيها المتعددة، كل ذلك من شأنه أن يعيد إنتاج الواقع بصورة مختلفة عن صورته الأولى؛ لتدخل مختلف المكونات الأساسيّة السياسية والاقتصادية، الاجتماعية في صياغة جديدة، وتحديث مستمر، لتعيد تشكيل طابع العلاقات إلى نحو أقرب للتجانس والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد منه للاختلاف والتداعي، على اعتبار بأنها الصيغة الشرعية والمثاليّة للعلاقة ما بين الشعوب وحكوماتها، وهذا يسهم بشكل لا يدع مجالا للشك إلى العمل بمبدأ التعايش السلمي والمشترك الذي يقوم على الحوار واحترام الآخر والقبول به؛ وفق معطيات الاختلاف الخلاق من واقع يرسخ مبدأ التعددية بمختلف أنساقها دينية أو مذهبية أو فكرية مع الاعتبار بالخصوصية الاجتماعية للمجتمعات العربية، يأتي هذا الحديث في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة الاعتراف بالديمقراطيّة كقيمة أساس من بين جملة من القيم التي تفرضها الحياة الحديثة والمعاصرة، باعتبارها من ركائز التقدم الهائل الذي يشهده الغرب منذ الإرهاصات الأولى للحداثة حتى الانفجار الضخم للمعلوماتية.
وكل هذه الإرهاصات والتي تأخذ طابعًا مدنيا وفوق العادة مدعاة للتساؤل لماذا وكيف؟ بل ولماذا الديمقراطية؟ فإنه ومن واقع تراكم التجارب البشرية الموضوعية وبفعل عامل الزمن، إذا بها تتمدد وتتسق لتصبح أشبه ما يكون بالأمر الواقع يوماً بعد آخر، لتنتقل بكل انسيابية من مواطن الدفء الغربي، ليستيقظ الشرق، كل الشرق، على أهازيج عالم جديد يضج بعناوين الحداثة وما بعدها، والتي ولاشك تفرض ذاتها كمعادل تعويضي، وليس بديلاً، عن النمط الشمولي السياسي، والذي وللأسف الشديد أصبح ماركة مسجلة تمتاز به طبيعة بعض الأنظمة العربية، لينعكس ذلك في مظاهر التخشب التي تطال حتى بنيتها التحتية، مما يؤدي بها إلى الترهل في غالبية مواقفها إزاء الكثير من القضايا الإستراتيجية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وهذا من شأنه أن يؤدي بها إلى أشبه ما يكون بالانفلات والعفوية، إذ لا غرو عندها أن يسبب الأمر اختراقات عدة لأهم وأبرز قضايا حقوق الإنسان بجوانبها المتعددة في الوقت الذي تشهد دول الغرب توازناً إلى حد ما يفوق مما عليه دول الشرق العربي مع فارق الخصوصية الاجتماعية والثقافية بينهما.
• أفق الديمقراطية في الخليج
ولا شك أن ثمة فرقاً كبيراً ما بين الضغوطات الخارجيّة ذات الطابع السياسي الضاغط وما تجسده التجارب من ثقافات حيّة تكون محط استفادة الشعوب أكثر منها الحكومات، بالتالي لا هرولة باتجاه تطبيق القيم الحديثة كالديمقراطيّة مثلا بقالبها الميكانيكي بقدر ما يكون المقصد الديمقراطيّة بتصوراتها الحضارية، وهذا من شأنه أن يجسد الصورة الحيوية للشعوب حين تنزاح باتجاه فعل ثقافي يتراكم بشكل مطرد؛ ليشكل قاعدة للتغيير نحو الأفضل، مع الاعتبار بأن أي تحول ديمقراطي في الخليج لن يبلغ ذروته الحيوية إلا بعد أن تتوفر قناعة ويقين راسخين لدى قطاع واسع بين عامة المواطنين على أن الديمقراطيّة هي السبيل الأنجع والأفضل في إحداث النظام الاجتماعي المتوازن، ولأنها في الوقت نفسه تلعب دوراً كبيراً في تقليص المسافة ما بين الحاكم والمحكومين، وصحيح بأنها ليست مفتاحا للحل في الخليج تحديدا، بيد أن ذلك لا ينفي نجاعتها خاصة وقد باتت مطلباً لكل الشعوب بوصفها حجر الزاوية لمعطيات تسهم بشكل رئيس في تحرير وتنظيم الطاقات الاجتماعيّة. وهذا لا يجعلنا أن نُسلم الأمر حيالها بكل مثاليّة، أو نضفي عليها طابع القداسة بحيث تصبح في الوعي لدينا على أنها الخلاص النهائي!.
وبطبيعة الحال أن مسار الديمقراطية في المجتمعات العربية يواجه خطرين اثنين: الأول في التوحش السياسي وابتلاعه للأدوار الحيوية كافة في المجتمع بحيث لم يقتصر الأمر على الاحتكار السياسي فحسب، بل يطول الجوانب الاقتصادية والاجتماعية أيضاً. والآخر يكمن في التابو الديني وانطلاقه عن تصور جامع ومانع لتبني الملكيّة الخاصة للحقيقة المطلقة، الانزياح بذلك إلى الحياة التفصيليّة أيضا، وبالتالي تصبح البيئة هنا ليست صالحة لاستزراع القيم الإنسانيّة بمجملها عامة، ناهيك عن الديمقراطية باعتبارها لا تبرح خانة الجدل في كيفية تطبيقها لدى نخبة لا بأس بها من الشارع العربي والإسلامي. وهذا من شأنه يساهم في إعاقة مسيرة الإصلاح برمتها، في الوقت الذي ينبغي أن يكون السعي لأجل إرساء معالم الديمقراطية مستوجباً من النظر فيها لا من إمكان تطبيقها، على اعتبار بأنها تمثل الإطار الناظم والضروري لإحداث عمليّة متوازنة ما بين المواطنين من جهة والحكومات من جهة أخرى.
التجربة التاريخية القريبة المدى تكشف حجم الانكماش لبعض الدول العربية حيال القيم الديمقراطية بوصفها عنصر خلاص، بمعنى أن الشعوب العربية لمّا تدرك بعدُ أهميّة الحياة الديمقراطية، وبالتالي هي لا تندفع باتجاهها كمطلب ضروري ومُلح؛ مقارنة بجوانب أخرى تضعها في قائمة الأولويات. وتجدر الإشارة بأن فترة السبعينات وما تلاها كان النفط مستحوذاً على معظم اهتمامات الناس مما شغلهم عن جوانب أخرى هم بأمس الحاجة إليها؛ لأننا نعتقد بأن القيم الديمقراطية من شأنها أن تؤسس لنظام اجتماعي متماسك كفيل به للمراهنة على التنمية والتطور.
ولأن هذه الشعوب تعيش حالة من الإرباك في اتخاذ قراراتها حسب الأولويات والضرورات، فهي تظل تراوح محلها أمام سيل هادر من القيم السياسيّة الحديثة، هذا يجعلها أن تكتفي بالقبول بالحد الأدنى منها، وهي بهذه الحال ليس بمقدورها أن تعي الأمور على حقيقتها لتمييز ما بين التحول الديمقراطي الليبرالي الشامل والانفتاح السياسي المحدود! وإن كان هناك ما يدعونا للدهشة بأن تقف هذه المجتمعات موقف المتفرج إزاء المشهد الدولي العام، وكأنها لم تغادر حقبة الاستعمار والاحتلال الأجنبي لمعظم الدول العربية، وما كان ليحدث لولا (قابليتها للاستعمار) حسب رؤية المفكر الجزائري مالك بن نبي، والذي به ينهار آخر خط ثقافي استراتيجي للعالم الإسلامي!
وقد تتكشف مظاهر اللعبة الديمقراطية الغربية وحقيقتها إزاء العالم العربي والإسلامي من خلال طبيعة السلوك والممارسة للغرب باعتباره يظل في حالة استنفار دائم حيال كل ما من شأنه أن يُشكل حالة من الاستقرار السياسي بالنسبة له وإلى أقصى حد ممكن، وهذا ولا شك كفيل بإعادة إنتاج القيم الحديثة حسب متطلبات العصر، ففي أميركا مثلا وفي لحظة الانتخابات الأخيرة قد تبنى المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركيّة جون مكين فكرة (رابطة الديمقراطيات) التي هي عبارة عن تجمع يشمل كافة حلفائها الأوروبيين وفق معايير النظم الإدارية العاملة بالديمقراطية، ومكين نفسه قد جعل من تحقيق مثل هذه القمة للدول الديمقراطية بعد عام من ترشحه شرطاً رئيسيّاً لا يستطيع أن يحيد عنه أبدا، خصوصاً وأن روبرت كيغان المستشار الخاص له، وأحد منظري المحافظين الجدد قد أصدر في حينها كتاباً بعنوان عودة التأريخ ونهاية الأحلام ليؤكد أن أميركا هي محور التغيير والسيطرة، ويوضح في الوقت نفسه محتوى هذه الرابطة والتي تكون غايتها الدفاع والمحافظة عن منظومة الدول الديمقراطية في قبال تصاعد موجة الدكتاتوريات العظمى كروسيا والصين وغيرهما حسب وصفه.
بيد أن مظاهر ترهل هذه النظرية سرعان ما تتكشف عندما يتناول روبرت كيغان السياسة الأميركيّة في ممارسة الضغوط على معظم الدولة العربية والخليجية من أجل نشر الديمقراطية فيها، إلا أن وصول مثل حركة حماس للحكم في الانتخابات التشريعية الفلسطينيّة يجعل من الإدارة الأميركية أن تعيد النظر في مخططاتها المعلنة، وذلك بعد موجة من التقارير والدراسات، والتي صدرت عن أغلب المراكز البحثيّة والإستراتيجية الناصحة للإدارة الأميركيّة بالتروي والإبطاء في مسألة نشر الديمقراطية في معظم الدول الإسلاميّة والعربيّة، وعدم ممارسة أي ضغوطات على الحكومات العربية. يأتي ذلك خشية الإدارة الأميركيّة من وصول الإسلاميين بالطرق الديمقراطية للحكم في معظم هذه الدول، خصوصاً وأن هناك مكاسب حظي بها الإسلاميون في إيران مثلا، وفي لبنان، وفي مصر فضلاً عن فلسطين، فالمشروع الأميركي الذي كان من جملة أهدافه نشر الديمقراطية في مسعى لمكافحة الإرهاب!
تعود الإدارة الأميركية لتتراجع عن ذلك في سبيل رعاية مصالحها الدائمة في المنطقة نفسها. ومما لا يدع مجالا للشك بأن مثل هذا التراجع يلقي بظلاله على شعوب الدول العربية برمتها، والتي ينبغي أن تتنبه بأن عملية التغيير تأتي عن قناعة ووعي من الداخل وليس من الخارج، والتجارب تشير لذلك أن أياً كان حجم الضغوطات التي تأتي من الخارج فإنها لا تساوي في تأثيرها مثل الداخل، وهذا ما ينبغي أن تدركه هذه المجتمعات تجاه ذلك.
من هنا يأتي الحديث عن القيمة الديمقراطية لدى المجتمعات الخليجية، والذي لم يعد كما في السابق حديثاً مقتصراً على النخب منها، عندما أغرقوا الوعي العربي في النظريات والمعارف أكثر منها الوقائع والمستقبليات، وكان هذا قبل عقدين وأكثر عندما كان اهتمام النخبة منصبّاً على الثروة النفطية وكيفية الاستفادة منها، مما شغلهم عمّا يتعلق بموضوعات السياسة ونحوها آنذاك. وهذا ما يختلف عليه الحال بالنسبة للواقع اليوم، في حين وقد قطع الوعي الشعبوي شوطاً كبيراً في مضمار التغيير والسعي إلى تحسين الحياة نحو الأفضل، يأتي ذلك بعد موجة من الإرهاصات الهائلة، والتي بالقدر ما كانت عائقة إلى حد ما، بالقدر نفسه قامت بعملية عكسية ساهمت في دفع الأمور باتجاه مختلف عززت بدورها كل ما يشحذ الإرادة لديهم نحو التغيير، ورسم معالم الطريق إزاء الديمقراطية بكل مقوماتها التنظيميّة. بمعنى أن الشعوب الخليجية بات بمقدروها أن تشكل ديمراقطية وفق خصوصياتها وحسب طبيعتها، لاغية بذلك مبدأ الترقب والانتظار الخارجي!.
بكلام آخر: إن معظم العناوين التي تتساوق مع الحياة الحديثة باتت في متناول العامة من الناس بعدما كانت محل اهتمام - النخبة - الفئة القليلة منهم. في الوقت الذي كان العالم يبشر بمنظومة حديثة ومتطورة من العلاقات التي للتو تتشكل حسب الأجندة الكونيّة ووسائل الاتصالات الحديثة، مما أدى إلى سهولة وسلاسة نقل المعلوماتية بانسيابيّة خلاقة، انعكس ذلك على تدويل الثقافات الإنسانيّة، والتي سلكت طريق التفاعل مع بعضها البعض، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التفاعل كما أنه ليس شرّاً مطلقاً أيضاً لا يجعلنا في محل تفاؤل إزاء ذلك، إذ الأمر لا يُعد بريئاً في صورته الكلية إذا ما استثني المشتركات الإنسانية العامة كافة، لتتشكل عندها قواسم مشتركة من المعاهدات والمواثيق والأنظمة، والتي وإن حاكت في مخرجاتها الإطار الأدبي، لكنها في الوقت نفسه لا تبتعد عن جوهرها القانوني أبداً.
• سيوسولوجيا التحديث الاجتماعي
إنه رهان الوعي الذي ما برح يقصد إرادة التغيير في البنية الأساس من المكونات الاجتماعيّة؛ تطلعاً لأنساق المدنيّة الحديثة، وبشتى أشكالها المؤسساتيّة، حينها بالإمكان أن يعي المواطن الخليجي مدى الحاجة لإعادة إنتاج حياته (= فضائه السياسي) من جديد وفق منظومة من القيم الإنسانيّة التي تنسجم وشرعة القانون، وبما يتوافق والخصوصية الثقافية لديه، هذا إذا ما أراد أن يكون قادراً على إدارة الأزمات والتحديات بكل مسؤولية، وأن يدخل العالم المعاصر بكل تحدياته وتطلعات بروح الاستعداد والاستجابة، أي أن لا يكون رقماً هامشيّاً من معادلة التغيير، وهذا ولا شك يتطلب منه كفاءة عالية جدّا، لا تؤهله لأن يدرك حجم متطلبات المرحلة فحسب، بل تساعده في الوقت نفسه للانخراط في عملية البناء الديمقراطي المقبلة لا محالة، لاسيّما والمجتمعات في الخليج باتت تتهيأ إلى الدخول في طور العمل بإرادة جماعية، في عالم ما عاد ليعترف بالفردانيّة – الوظيفية - كقيمة جادة في عملية التغيير، إذ يصبح بمقدوره ومن خلال ذلك أن يجاري معظم الرهانات السياسية، التقليدية منها أو الحديثة، والتي - ولاشك وعلى مدار فترات طويلة- استطاعت أن تحد من استجابة هذه المجتمعات إزاء المعطيات الحديثة، لكنها في الوقت نفسه لم تتمكن من قطع الطريق أمام مسيرة حافلة بالعطاءات.
هذا ما تؤكده الحقائق على الواقع في دول مجلس التعاون الخليجي كافة مع الفارق في النسبة، ولعلّ تجربة المجتمع الكويتي والتي بالإمكان وضعها في خانة الصدارة بالنسبة للتجارب الأخرى المجاورة، فهي كتجربة قد ناهزت العقد الرابع من الزمن نستطيع القول: بأنها تمتلك رصيداً طيباً من الفعل الديمقراطي باعتباره رافعة للتغيير نحو الأفضل، وهذا لا يعني التقليل من التجارب الحديثة لسائر الدول الخليجية الأخرى، فتجربة المجالس البلدية في السعودية، والتي خضعت لعملية انتخاب شعبي بامتياز، ورغم أنها لا تلبي طموحات المواطن وتطلعاته إلا أنها كتجربة بالإمكان اعتبارها بداية تمهيديّة إلى المشاركة الشعبية. أيضاً تجربة المجلس البلدي المركزي في قطر، فهي ولا شك تعد تجربة ديمقراطية غير مسبوقة، حيث يكون الاقتراع حرّاً وبصورة مباشرة، من شأنه أن يؤسس إلى مشروع ديمقراطي حقيقي يكون للتشريع والرقابة دوراً كبيرا وبارزاً، وهذا الحال ينسحب أيضا على سائر الدول الخليجية الأخرى كالبحرين والإمارات وعمان.
وعلى الرغم من كل تلك المؤشرات الإيجابيّة والتي تدفع باتجاه التغيير الديمقراطي إلا أن معظم المكونات تلك تكون أكثر مقاربة للشكل أكثر منه المضمون، حيث لا تزال تلك المكونات – وللأسف - تؤدي أدواراً تقليدية وفي أطر ضيقة، ولعلّ الأسباب تبدو في مجملها واضحة، وربما يكون من أبرزها عامل الأخذ بالتعيين للأعضاء، حيث لا يخلو الأمر من تداخل المحسوبيات والمنسوبيات في ذلك وفق توازنات قبلية أو مذهبية أو فكرية أو أي كانت!. وهذا يعزز النظر الوفاق بأن كل هذه التجارب لا تزال في طور البناء للمنهج الديمقراطي المنشود، خصوصاً والعالم يمر بتحولات إستراتيجية هائلة وعودة توازن الرعب ما بين المعسكرين الشرقي والغربي بعد أن استشرس الدب الروسي في جورجيا وبات مهدداً لنظرية أحادية القطب وكأن نُذر العودة للحرب الباردة يلوح في الأفق، وهذا ولا شك يُلقي بظلاله للمراهنات السياسية وعلى كافة المستويات ومختلف المسارات.
• خاتمة القول
إذن هي الفرصة للإقدام على مصالحة تاريخية مع الشعوب في الوقت الذي تستنفد هذه الدول خياراتها كافة، إذ لا خيار لاستقرارها وإطالة عمرها من دون الأخذ بأسباب الديمقراطية إن لم تكن هي الضمانة الوحيدة لحفظ الاستقرار الداخلي، وهذا لا يتم إلا أن يعاد إنتاج الأداء السياسي وفق منظومة حديثة، تمتاز بالرصانة والمتانة، وتؤصل بدورها إلى مبدأ الشراكة الشعبية والحقيقة في صناعة القرار، بكلام آخر: أن تتبنى هذه الدول العمل بمبدأ المشاركة السياسية، لما لذلك من أثر كبير من شأنه المساهمة في مكافحة البيروقراطيّة المستحكمة، وتهيئة الفرصة المتكافئة، وفرض حالة من الرقابة والمتابعة، بل والمشاركة في عملية البناء والتطوير، ومحاولة التقليل من الوقوع في الأخطاء. وهذا من شأنه يسهم في الحد من اليد السياسية المبسوطة عن معظم مؤسسات الدولة فضلا عما يصدق عليه القول من ملامح الهياكل المدنية.
الديمقراطية أولا باعتبارها الحبل السري للمكونات المدنية الحديثة كافة، أو أن يكون سلوكًا ديمقراطيًّا على الأقل لكي يصل الأمر إلى ما يصدق عليه بالمقاربة التحديثية والحداثوية في المجتمعات الخليجية، فالغرض ليس العمل بنسقية التمرحل أو التأرجح على حبال؛ أيهما يسبق الآخر في منظور الأولويات الدول العربية والإسلامية، الديمقراطية أم مؤسسات المجتمع المدني، بقدر ما يكون المقصد هو جوهر الحاجة لمنظومة اجتماعية رصينة تتعهد العدالة كقيمة إنسانية، وتلعب دوراً كبيرا في ترسيخ مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، والعمل الجاد لضمانة العمل بمبادئ حقوق الإنسان وكافة المعاهدات الحقوقية الدولية. لذا وقبل فوات الأوان كان لزاماً أن تدرك الشعوب والحكومات معاً، ليس في مدى حاجتها للديمقراطية فحسب، بل لأنها لاعب رئيسي في عملية التحديث والتطوير في عالم لا يقر ولا يعترف بشيء من الثبات!
علي آل طالب – السعودية
مركز آفاق للدراسات والبحوث
التعليقات (0)