سيميولوجيا الشكل الهندسي لقنطرة الحسن الثاني الجديدة
عبـد الفتـاح الفاتحـي
إن الأكيد على مستوى البناء الدلالي لمشروع بناء قنطرة الحسن الثاني (الرباط وسلا)، أن يعكس بالضرورة هوية الحضارة المغربية أصيلة ومعاصرة، ذلك أن القنطرة والمنشآت العامة الكبرى هي عنوان العمران وحضارة الأمم.
وعليه فإن التحكم الدلالي في الشكل الهندسي مدروس ومخطط له على أساس استيعاب الخصوصية المغربية بل وإبرازها في بنية القنطرة وشكلها، وهو ما برز واضحا في عنصر المقابلة الذي وظفه المهندسون في الارتقاء بعلو القنطرة الجديدة أمام انحدار القنطرة القديمة، وهذه المقابلة لها الكثير من الدلالات لأنها تضمن لصناع القرار السياسي حجية خطاب "مغرب الأوراش الكبرى" ولأنها تبرز قيمة المشروع وكبره، أي لها القدرة على التأثير في نفوس الشعب ولا سيما "سكان العدوتين" بتبني نظرية الارتقاء الحضاري والاجتماعي والاقتصادي لمغرب حداثي متجدد.
ذات المقابلة في شكلي القنطرة القديمة والجديدة تضع بعين الاعتبار توحيد العدوتين، لأن القنطرة القديمة كانت تجسد صعودا نحو الرباط وانحدارا نحو مدينة سلا، مما كان يعزز مظاهر احتقان اجتماعي بين الرباطيين والسلاويين، ولذلك سوت قنطرة الحسن الثاني تلك الانحناءة من الرباط نحو سلا.
لقد ظلت انحناءة القنطرة القديمة تشكل حاجزا نفسيا لدى المسؤولين، حتى غذت مدينة سلا حديقة خلفية للعاصمة الرباط. وهو ما ترتب عنه دعوة فعاليات سياسية ومدنية من سلا إلى جعل الرباط وسلا عاصمة واحدة للمملكة المغربية (منظمة الشبيبة الاستقلالية، جمعية سلا المستقبل...).
إن ما يعزز استنباط هذه الدلالات يتعزز بقول المدير العام لوكالة تهيئة ضفتي لأبي رقراق السيد المغاري صقل: "إن قنطرة مولاي الحسن الثاني"، التي ليست مجرد قنطرة بل هي صلة وصل بين الضفتين، وهي رسالة بأن سلا والرباط يجب ألا تظلا مدينتين متباعدتين يفصل بينهما نهر أبي رقراق".
وفي محاولة لتجسيد معالم التحديث والتطور وخلق التوازن بين مدينتي الرباط وسلا، اقتضى الأمر أن يصل طولها 1200 متر في تناغم لا يمكن أن يكون اعتباطيا مع 1200 سنة على تأسيس الدولة المغربية، وإن كان التوافق ومراعاة الحركة السياحية على نهر أبي رقراق هي الأخرى قد اقتضت أيضا بناء القنطرة الجديدة على علو 13 متر.
إن معالم التحديث والعصرنة في دلالة قنطرة مولاي الحسن الجديدة تعززت باشتمالها على مسلكين للطراموي يربط الرباط وسلا، وهو ما يؤشر على أن بناء القنطرة الجديدة وإن تكن جزءا من مشاريع الشطر الأول لمشروع تهيئة ضفتي أبي رقراق المعروف بباب البحر، فإن أهميتها تقتضي أساسا انضباط شكلها الهندسي لخصوصية العمران المغربي ولتاريخ العمارة المغربية ومنها عمارة الرباط وسلا، وهو ما سيفرض تضمينه في هيئة وشكل وتصميم القنطرة الجديدة.
ولتجسيد البعد الحضاري المغربي ومشروعه الحداثي المتجدد اعتمد في تصميم القنطرة على خبرة أجنبية أوربية وكندية لوضع تصاميم الشكل والتقنية.
إن القراءة الدلالية لهيئة وشكل قنطرة الحسن الثاني الجديدة يمكن ضبط محدداتها بناء على مرجعتين حاسمتين:
- الشق الحضاري والتاريخي والعمراني للمملكة المغربية؛
- الشق العصري الحداثي المتجدد؛
إن عملية التأويل والتفكيك الدلالي لشكل هندسة القنطرة الجديدة يليفيها أنها عكست رمزية الركوع والبيعة، وتجسد هذه الرمزية في هلالية القنطرة الجديدة، كأنها في حالة ركوع أمام شموخ صومعة حسان. إننا أما فعل تقديم البيعة كأداة دينية وسياسية في تدبير نمط الحكم في المملكة المغربية (بيعة الملك) المتوارثة وبيعة العمران الجديد أمام شموخ التاريخ العمراني المغربي العريق المتمثل في صومعة حسان.
ولتجسيد مضمون هذه العناصر الدلالية وظفت (التقويسة) الشكل الهلالي للقنطرة فوق نهر أبي رقراق حيث تنعقد انحناءة -(تجسد ركوع)– الاحترام والتواضع للعمران المغربي العريق.
كما يحمل القوس الكبير فوق نهر أبي رقراق رمزية قوة التحدي، ورمزية الدين الإسلامي الذي تأسست عليه إمارة المؤمنين في المغرب. وفي انحاءته الخضوع أمام هيبة الحضارة والعمران المغربي العريق، وفيه إشارة إلى مشروع باب البحر للدلالة على صفة الترحيب بالآخر في الأرض المغربية.
وإذا كان الشكل الهندسي للقنطرة قد تضمن دلالة الولاء للقديم فإنه قد عكس أيضا ملامح البعد الطبيعي والبيئي أمواج البحر العاتية أثناء المد، وانحناءة الجزر تحمل دلالة التواضع والتهذيب الذي يلائم اعتدالية المغرب ووسطية نهجه دينا وفلسفة في الحياة.
إن الشكل التموجي للشكل الهندسي للقنطرة رُوعي فيه أيضا اسم مشروع أمواج البحر، وإقرار ارتباط الدولة المغربية وخاصة مدينتي الرباط وسلا بالبحر ولا سيما الجهاد البحري والصيد... وحماية الدولة الإسلامية من الغزو الأجنبي الاسباني والبرتغالي.
وتأكدت عملية احترام المرجعية التاريخية للمدينة المغربية ببناء مرفأ سـلا "مارينا" قرب باب لمريسة (المرسى التاريخية للمدينة) وفي ذلك إشارة إلى ارتباط مدينة سلا بالبحر والجهاد البحري، وقد كانت المريسة نقطة انطلاق قراصنتها للقيام بالجهاد البحري في عرض البحر، ولذلك كانت المارينا لتعوض انعدام ميناء سلا البحري.
وعليه فإن الشكل الهلالي للقنطرة استوعب رمزية دينية الدولة المغربية بالهلال رمز الإسلام، واستوعب في الوقت ذاته محورية البحر في بنية واستمرارية الدولة المغربية، وانفتاحها على رياح الجار الأوربي، وهو ما جسده مشروع أمواج البحر، وخاصة مفهوم باب البحر، ولذلك فإن التقويسة الكبرى فوق وادي أبي رقراق كشفت ترحيب المغرب بالآخر لزيارة مشروع سياحي كبير.
لقد روعي إذن في تصميم وبناء قنطرة الحسن الثانية الجديدة مبدأ التوازن بين مدينتي الرباط وسلا، واستدعى ذلك بناء القنطرة فوق أعمدة رشيقة بعنفوان مغربي، وانكسر امتدادها المستقيم بتقويسات تجسد المد والجزر لأمواج المحيط الأطلسي العاتية، وفي ذلك الشموخ إشارة إلى مكانة البحر كبوابة على المغرب، وأن المغرب كان ولا يزال قبلة ترحيب للجميع، وهو ما استدعى إبراز هذه الدلالة ببناء مشروع سياحي "أمواج البحر".
وجسدت رشاقة أعمدة القنطرة من جهة سلا (الامتداد التاريخي لحضارة وثقافة مغربية متلاقحة، ومحافظة على نَفَسها الديني، تضمن الامتداد الثقافي المستمر للدولة العلوية، ولتجسيد هذه الدلالة أريد للقنطرة أن تبدأ انطلاقا من باب فاس أحد أبواب مدينة سلا، لتضمين دلالة الامتداد في بناء الدولة المغربية على يدي مولاي ادريس الأكبر مؤسس مدينة فاس (الدولة المغربية).
أما أقواس القنطرة من جهة سلا والرباط فقد جسدت الارتباط القوي للدولة المغربية بالبحر، ورمزية أمواج البحر القوية دلالة التحدي على الدولة المغربية منذ القدم، أما تقويسة الأمواج تجسيد للقدرة المغربية على ترويض هجومات الخصوم الأوربيين وتهذيب سلوك الهيمنة والاستعمار، وجعلهم ضيوف مشاريع سياحية مغربية، تجسيدا لنوع العلاقات التي يجب أن تطبع معاملات الطرفين المغربي والأوربي مستقبلا.
إن دلالة "التقويس فوق النهر تكشف أيضا بأن قوس الهلال يجسد روح الاعتدالية ومرونة النهج الإسلامي المنفتح البعيد عن التعصب، ولذلك لم يمنع انعراج شكله في توفير سلاسة المرور العادي والعصري (نقل تراموي) من سلا نحو الرباط أو من الرباط نحو سلا.
أنهى مصممو قنطرة الحسن الثاني بانحناءة على جهة اليمين حفاظا على الطابع الثقافي والديني والسياسي المغربي، لفة على اليمين لا يمكنها أن تدل الهلالية إلا على الدين الإسلامي للدولة بطابع الاعتدال حين التعاطي مع التحديات التي يجب أن يكون تدبيرها مغربيا برفق ولين، ولذلك انعطف مسار القنطرة ليوجد مسارا جديدا في اتجاه نفق الأوداية الذي بني تحت المآثر التاريخية.
التعليقات (0)