لست أدري لماذا يحضرني في هذه اللحظات قول شاعرنا العربي: من يهن يسهل الهوان عليه// ما لجرح بميت إيلامُ !! ولست أدري لماذا تتراءى لي شعوب هذه الأمة العربية في هذه الظهيرة الملتهبة من رمضان في هذا اليوم الثامن من شهر آب، وهي تحمل السلاح، وتجتاز الحدود، وتطلق النار، وتحرق الزروع والأشجار والأطيار، وتقتل النساء والأطفال والرجال والكبار والصغار.. لست أدري لماذا يصر العربي على قتل العربي، ولماذا يصر على نسف مكتسباته، وتدمير إنجازاته، وإحراق بيته ومزروعاته، ومدارس أطفاله، وجامعات أبنائه ومعاهدهم ومشافيهم ومصانعهم ومكتباتهم ومراكز دراساتهم وبحوثهم وأبحاثهم، ووسائل إعلامهم ودور نشرهم وطباعة كتب أبنائهم المدرسية والثقافية والعلمية والفكرية والجامعية .. لست أدري لماذا يهاجم العربي العربي ، ويقتل العربي العربي، ويمزق العربي جسد العربي ، ويغتصب العربي بنات العربي وأخواته، ولا يتورع بعد ذلك عن قتلهن وإحراق أجسادهن!!! هل حصل مثل ذلك في تاريخ الشعوب والأقوام يا قوم؟ هل فعل شيئًا من هذا الغزاةُ الذين تقاطروا على هذه الديار من شرق الدنيا وغربها؟ أم أن ما يفعله بعضنا ببعضنا الآخر في هذه الأيام هو أشد وأنكى مما فعله الغزاة بأهل هذه الديار في فترات سابقة من التاريخ، بل منذ فجر التاريخ؟ وأشد وأنكى أيضًا من كل ما فعلته الوحوش في الإنسان في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ البشرية التي سكنت معها الكهوف والمغاور، وعاشت في الغابات مثل كثير من حيواناتها ووحوشها!! هل صحيح أن الوحوش في تلك المراحل من تاريخ البشرية قد فعلت بالإنسان ما يفعله الإنسان بالإنسان في هذه المرحلة من الزمان الذي تطورت فيها البشرية، وادعت فيها الحضارة والتقدم، في الوقت الذي مارست فيه ما لم تمارسه وحوش الغاب، واقترفت فيه من الجرائم والموبقات ما لم يقترفه الغزاة الذين أطبقوا على هذه الديار من شرق الدنيا وغربها؟ فلماذا يحدث كل هذا ؟ ولمصلحة من يحدث كل هذا؟ وأي عار وشنار يلحقه كل هذا بهذه الأمة التي كانت في يوم من الأيام خير أمة أخرجت للناس؟
أيهما يؤلم النفس أكثر منظر ذئب أو كلب ينهش جسد طفل أو امرأة، أم منظر إنسان يذبح طفلاً أو امرأةً، ثم يحرق هذا الطفل، ويقطّع جسد هذه المرأة بعد أن يغتصبها؟ وأيهما يؤلم النفس ويعذبها أكثر منظر عدو يجتاح بلدًا فيقتل من أهله من يقتل ، ويأسر من يأسر، ليسيطر على هذا البلد طمعًا في موارده، أو حبًّا في السيطرة عليه وضمه إلى ممتلكاته، أو رغبة في اتخاذه طريقًا لمواصلاته وطرق تجارته البرية أو غير البرية، أم منظر إخوان يتكلمون لغتكم، ويؤدون شعائركم، ويندسون بينكم: يروعونكم، ويذبحونكم ويقتلونكم ويستبيحون أعراضكم وينهبون بيوتكم قبل أن يفجّروها فوق رؤسكم، أو بعد ان يجلوكم عنها في أحسن الأحوال إلى العراء؟؟.
لقد كتب التاريخ أن هذه الأمة كانت قوية متماسكة ذات يوم، وأنها كانت منتصرة غازية قادرة مقتدرة مرهوبة الجانب ذات يوم، وأنها كانت عزيزة متحضرة متطورة ذات يوم، وكانت غير ذلك في فترات مختلفة من التاريخ.. ولقد كتب التاريخ أيضًا أن هذه الأمة كانت موحدة حينًا ممزقة حينًا آخر تخضع أجزاء من أوطانها لغزاة طامعين، ثم لا تلبث ان تتحرر، ولا تلبث أن تتوحد من جديد.. ولقد كتب التاريخ ان بعض ملوك هذه الأمة قد تحالفوا مع أعدائها، وقد حاربوا في صفوف أولئك الأعداء، ولكنهم سرعان ما بادوا ، وسرعان ما حلت عليهم لعنة ربك، ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين.. لقد كتب التاريخ كثيرًا من هذا، وكثيرًا من غيره أيضًا، ولكنه لم يكتب أن العربي قد هان ، وأن العربي قد طأطأ رأسه للعدوان ، وأن العربي قد باع أرضه وعرضه وشرفه لغاز طامع في أرضه.. صحيح أن تاريخ العرب قد أشار إلى فئة أو فئات خانت الأوطان، وتحالفت مع أعدائها.. وصحيح أن تاريخ العرب يروي أن كثيرًا من ملوكهم البائدين قد كان على هذه الشاكلة أيضًا، ولكن التاريخ لم يكتب يومًا أن الشعوب قد سارت على نهج أولئك الملوك المتحالفين مع أعداء هذه الأمة، ولم يكتب أن الشعوب قد اختارت التبعية للعدو، وأنها قد فضلت ذلك على التصدي له والخروج لمقارعته، حتى وإن كان الملك خائنًا متواطئًا مع هذا العدو أو ذاك.. إن من يقرأ تاريخ هذه الديار تذهله هذه التناقضات التي عاشها الناس في هذه الديار، ولكنه يخرج بحقيقة تقول إن الناس في أغلب الأحوال كانوا بخير، وإن الشعوب في أغلب الأحوال قد تصدت للعدوان والمعتدين، وإن روح المقاومة والمقارعة والتصدي قد بقيت قائمة في الأمة، وإن العلماء والفقهاء كانوا هم القادة الذين يوجهون الأمة، ويحرضونها على القتال، وهم القادة الذين كانوا يحاكمون القادة المتخاذلين والملوك المتواطئين مع أعدائهم على أوطانهم وشعوبهم.
لم يكتب التاريخ يومًا أن العرب كانوا شعوبًا وقبائل ومجموعات وتجمعات وأفرادًا وحكامًا يخضعون للأجنبي، ويتحالفون معه، ويساعدونه على من لم يدخل في حلف العدو من إخوانهم وبني جلدتهم .. ولم يكتب التاريخ يومًا ما يكتبه في هذه الأيام من إصرار بعض العرب على القيام بهذه الحرب الشاملة المدمرة على بلد عربي نيابة عن الأجنبي، لا لشيء إلا لأنه يزرع أرضه، ولا لشيء إلا لأنه يبني هذا البلد كما ينبغي أن يكون البناء الاقتصادي العسكري الثقافي العلمي، وكما ينبغي أن تبنى المؤسسات والجامعات والمدارس والمعاهد والمشافي، وكما ينبغي أن تقام المصانع والقناطر والجسور والشوارع، وكما ينبغي أن تكون الصناعات العسكرية والمدنية التي تخطو بالبلد خطوات وخطوات إلى الأمام، بحيث تضعه في مصاف الأقطار المتقدمة التي تحسب لها القوى الدولية ألف حساب وحساب.
إن الذي سيكتبه التاريخ- يقينًا- أن كل هؤلاء المسلحين الذين تزج بهم أقطار الجوار، وغير أقطار الجوار إلى هذا البلد بهدف تدميره وإحراقه وتخريبه وإضعافه ونشر الخوف والرعب فيه وترويع أهله وتهجيرهم وتقتيلهم وإحراق مزارعهم ومصانعهم ومساكنهم ومدارس أطفالهم وتقسيم وطنهم وتمزيقه وتفتيته .. إن الذي سيكتبه التاريخ أن كل هؤلاء قد فشلوا في تحقيق أهدافهم على الرغم من الأموال التي تتدفق عليهم بدون حساب، وعلى الرغم من الأسلحة التي تتدفق عليهم بدون حساب، وعلى الرغم من كل أجهزة الاتصالات ، وكل وسائل الدعم والإسناد والتوجيه والإمداد التي تزودهم بها دول الغرب بشقيه وأتباعها وتوابعها وأدواتها في هذه المنطقة من العالم، وفي كثير من أقطار العروبة والإسلام ممن تنكروا لعروبتهم، وتنكروا لإسلامهم.. نعم سيكتب التاريخ أن كل هؤلاء الأعداء الذين تكالبوا على هذا البلد العربي، وعلى جيش هذا البلد العربي الأبي، وعلى حلفاء هذا البلد العربي في هذه المنطقة من العالم، وفي غير هذه المنطقة من العالم قد فشلوا في تحقيق شيء من أهدافهم وغاياتهم.. صحيح أنهم قد قتلوا وأحرقوا وخربوا ونهبوا وسلبوا وخطفوا واغتصبوا ، وصحيح أنهم قد روعوا وأرهبوا وأرعبوا وعذبوا، ولكن صحيح أيضًا أنهم قد انتحروا على أبواب دمشق، وأسوار دمشق، وأنهم قد انتحروا على أبواب حلب، وأسوار حلب، وبوابات حلب، وأحياء حلب، وصحيح أيضًا أن سيوف بني حمدان، وفارس بني حمدان، وسيوف أبي الطيب شاعر العرب والعروبة قد مزقتهم شر ممزق، وقد ردت كيدهم إلى نحرهم، فمنهم من قتل، ومنه من أسر، ومنهم من تمكن من الهرب، وهو يجرر ذيول الخيبة، ويتجرع كؤوس المذلة والمرارة والهوان .. فهذه هي الشام.. هذه هي الشام.. هذه هي أحب بقاع الأرض إلى الله، وأحب بقاع الأرض إلى رسوله حبيب الله: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا: اللهم بارك لنا في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.. أفبعد هذا الحديث يريدون حديثًا؟ وما هو هذا الحديث الذي يريده هؤلاء بعد هذا الحديث يا كل عباد الله؟؟.
سيكتب التاريخ-يا قوم- أن كل هذه الأخلاط المتناقضة من المأجورين الخونة الضالين المضلين والمتخلفين والطامعين والمرتبطين بالأجندات الأجنبية قد هُزمت شر هزيمة، وأن هذا البلد العربي الحر الأمين الذي دأب على صنع التوازن الاستراتيجي لأسباب نعرفها جيدًا قبل أربعين عامًا قد تمكن من تحقيق أهدافه، وقد أصبح قويًّا بالشعوب التي تلتف من حوله، وبالقوى الشعبية التي تؤيده وتناصره، وبالدول الصديقة القوية الفاعلة التي تقف إلى جانبه جهارًا نهارًا، وبسواعد أبنائه، وبسواعد قواته المسلحة التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنها على مستوى الحدث، وأنها على مستوى المسئوليات المناطة بها، والمسندة إليها، وأنها فعلاً سياج الوطن ودرعه، وأنها القوة التي بات يحسب لها ولحلفائها وأصدقائها ألف حساب وحساب في هذه المنطقة من العالم، وفي هذا العالم بأسره.
وسيكتب التاريخ أن هذا البلد العربي الأبي العصي على الكسر قد انتصر على كل أعدائه في هذه الحرب الكونية التي فرضت عليه، وأنه قد خرج منها أشد قوة، وأمضى عزيمة، وأنه سيسهم –يقينًا- في صنع النظام العربي الجديد، وأنه سيستعيد كافة أراضيه التي سلخت عنه، وفصلها عنه الغزاة المحتلون ذات يوم.. نعم سيستعيد كل هذه الأراضي التي أقيمت عليها كل هذه الكيانات في غفلة من الزمن ذات يوم، ولن يكون في هذه الديار إلا أهلها الشرفاء المخلصون المقاومون الذين يسيرون على هدًى من ربهم ويفعلون ما يؤمرون. ولسوف تكون هذه الديار المباركة المقدسة منطلقا للمشروع العربي الواحد الموحد على أرض العرب من المحيط إلى الخليج ولو كره الكارهون، والله أكبر والنصر للعروبة والعرب الشرفاء الأحرار. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.صدق الله العظيم.
التعليقات (0)