مقدمة لابد منها
لم يكن جديداً ولا غريباً أن يلتبس الهجوم على هذا الكتاب زيه المعتاد ، فالرأي الواحد الأحد هو الصواب الأوحد ، وما خالفه زندقة ومروق ، ومن قال بما يبدو لهم مخالفاً يصبح كافراً مستباح الدم ، حتى لو كان ذلك المهاجم ممن استطابوا لأنفسهم لقب الإسلام المستنير ، حيث ينكشف الأمر في النهاية بجلاء أن الأدلوجة بأحاديتها ووحدانيتها وتفردها السيادي لن تقبل إطلاقاً برؤية جديدة ، ولا برأي آخر ، ولا بقراءة أخرى غير تلك القراءات التي رانت على تاريخنا المتثائب المسترخي طوال الأربعة عشر قرناً السوالف ، فهي منظومة الصدق المطلق التي لا ترى الآخر إلا عدواً يجب تصفيته ، أما من قدر له أن يولد داخل قبيلتها فهو خاضع بالضرورة القاهرة راغم الأنف ، وما أيسر أن تكال له تهم المروق والكفران إن حاول تحريك الآسن في المنهج أو التاريخ ، وفي هذه الحال يوجد من يقوم بتنفيذ العقوبة المطلوبة باستبعاده الفوري من الكون الذي صادروه ليصبح وحدهم ، وأن مهمتهم تطهيره من الآخرين كلما أمكن ذلك ، بينما يضجون بصراخ العاجز المستباح إن تعرضوا لأي من الاضطهاد ، إنهم يطلبون حريتهم كاملة باستخدام لاءات الحرية التي قعدها كفاح الإنسان طوال القرون الماضية ، ويجيدون استخدام بنودها لتكريس حق إطلاق أيديهم وحدهم لتمارس القمع والقتل والتصفية ، وكبح الرأي الآخر وإخراس كل الأصوات إلا صوتهم هم وحدهم . ونموذجاً لهذا المنهج سيجد القارئ هنا نفسه إزاء حالة مثالية من بعض نماذج اخترناها تكيل الاتهامات التي تدور جميعاً حول ضمير الكاتب وسريرته ، تمهيداً لتطبيق قانون المخالفة الذي يقضي بعقوبة التصفية الفورية ، ذلك المنهج الأوحد والنغمة الواحدة المتكررة التي قتلت فينا العقل وملكة النقد طوال تاريخ تراكمت فيه أبشع ألوان اضطهاد الإنسان وحريته وفكره .
و سيجد القاري اتفاقاً واضحاً على اتهام الكاتب في عقيدته ودينه ، رغم أن اختيار الإنسان لعقيدته أمر يجب أن يكون خارجاً تماماً عن معنى الاتهام ، ولا يصبح اتهاماً إلا إذا كنا لازلنا نعيش حالة القبيلة الأولى التي يتماهى جميع أفرادها في ذات سلفها وربها ، ولو أخذنا بأنه من الممكن أن نحاكم إنساناً بحسبانه متهماً ، لأنه يقبل كذا من قواعد الدين أو يرفض كذا ، فإني شخصياً أرفض على الإطلاق ليس الاتهام ، بل مجرد التحدث بشأن ما أعتقد فالأمر يخصني وحدي ، ولا يحق لأحد أياً كان أن يسألني عنه ، ناهيك عن أن يحاسبني عليه ، ولا أجد فيما أعتقد أياً كان لون الاعتقاد تهمة ، لأن التهمة في تلك الحال ستلحق من يسوقها ، وتتهمه هو في درجة اقترابه من معنى الإنسانية ذاته ، أما تنفيذ قرار التصفية الأحمق في كاتب ، فهو أمر لا يشغلني إطلاقاً ، لأن الكتاب لا يموتون ، وحين يحدث ذلك سيكون شهادة معمدة بالدم على زمن أسود ، وعندها سيكون لما كتب انتشاره الأوسع ، بل وتخليده في ذاكرة مستقبل لا شك سيكون أفضل ، لأنه في النهاية لن يبقى سوي ما ينفع الناس ، ويذهب الباقي جفاء في مزبلة التاريخ . ورغم أن كتابنا هذا كتاب في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وليس كتاباً في الدين أو أي من علومه ، فقد تم تصنيفه تصنيفاً آخر ، ولم يتسع أفق المهاجمين خارج دائرة يكن لنا غرض إطلاقاً سوي فتح نافذة أطل زمانها ، إزاء رتل من المصنفات يملأ أرفف المكتبة العربية ، يكرر ويزيد في تكرار وإملال لذات المقولات ، بنغمة واحدة وخط واحد من تفاسير وشروح التفاسير وتفسير الشروح وتعقيبات على الشروح والتفاسير .. الخ وهي النافذة التي أردنا أن نطل منها بقراءة علمية على الفرز الذي أدى إليه جدل أحداث المرحلة القبل إسلامية ، وقراءة أوضاع جزيرة العرب آنذاك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وهو الفرز الذي كشفناه مطلباً للتوحد القومي بقيادة نبي مؤسس لدولة واحدة مركزية . ويبدو أن هذا اللون من القراءة قد صدم مقولاتهم الثابتة ، حتى أنهم لم يروا فيه سوى المروق ، الذي يبدو أنه كان حكماً تأسس على عدم قدرة قبول الأمر باعتباره أمراً اعتيادياً تسبقه مقدمات لابد أن تؤدي إلى نتائج ، يقبلها العقل ومنطق الواقع ، بعد أن اعتادوا على منهج يرى أن كل شئ يجب أن يظهر فجأة من عدم ، غير مرتبط إطلاقاً بواقع ، لغزاً غير مفهوم ، بهذا فقط يكون مرهوباً ومخيفاً ومحترماً ، المهم ألا يكون مفهوم الأصول وألا يكون منطقي أو طبيعي النشأة ، وأن معرفة جذوره وممهداته ومنابته تخلع عنه حالته الإنقطاعية ، وتسحب عنه قطيعته مع ما سبقه ، ومن هنا كان لابد أن تستمر معاملته في قطيعته مع كل شئ إلا الغيب ولا يمكن تصوره إلا كذلك . رغم أننا لو أتستخدمنا منهج الدين ذاته بشكل أكثر احتراماً للدين نفسه ، ولله صاحب هذا الدين ، لأدركنا أن فهمنا للدين سيكون أكثر جمالاً وفهماً عندما يكون الرب متسقاً مع ذاته ، لا يخالف قوانين المفترض أنه هو واضعها ، وأنه كي يتم المراد من رب العباد وقيام نبي الإسلام بدعوته ، فإنه كان لابد من تمهيد الواقع كي يفرز نتائجه المنطقية التي تتسق مع تلك المقدمات ، وتتفق مع كمال ذلك الرب ، ذلك الكمال الذي يفترض اتساق قراراته مع قوانينه و سننه ، ناهيك عما سيحققه مثل ذلك الفهم على المستوى التربوي للعقل ، لنخرج من حالة الركود البليد الذي ينتظر بكل سقم معجزات مفاجئة تعيدنا لعصر الفتوحات تتقدمنا جيوش الملائكة . تحت قيادة جبريل على فرسه حيزوم ولأننا لا نتصور إمكان حدوث المعجز الملغز ، ولا حدوث أمر جلل دون مقدمات موضوعية تماماً تؤدي إليه وتفرزه ، ولأننا لا نتصور ممكنات ، كسر قوانين الطبيعة الثابتة لأجل عيون أمة مترهلة ، فلم يبق سوى أن نحاول إعادة قراءة ذلك التاريخ قراءة أخرى ، تربط النص بواقع ، وتعيد النتائج إلى مقدماتها وأصولها الحقيقية لا الوهمية ، من أجل إعادة تشكيل بنية العقل ومنهجه ، ومن أجل غد أفضل لأجيالنا المقبلة ، ولتراثنا ذاته .
سيد القمني
ترجمة لحديث رسول الله محمد"صلى الله عليه وسلم" : (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها).. ودفاعا عن حرية الرأي..وتأكيدا على الحق الاصيل للباحث المفكر في التعبير الحر عما تتوصل اليه جهوده من نتائج وما يقع تحت إدراكه من معطيات يرى فيها تحقيقا للنفع العام..ولتحقيق بعض القدر من التفهم والاقتناع..ولتجنب اصدار الاحكام المتشنجة غير المستندة الى سابق اطلاع على المادة العلمية المطروحة للنقاش..اعيد نشر مقدمة كتاب الحزب الهاشمي للاستاذ سيد القمني ليتسنى للجميع التعرف على وجهة نظر الكاتب ومنهجه العلمي في بحث هذا الموضوع الشائك ..واترك للقاريء الكريم اتخاذ الجهة التي يقف بها بحرية والتزام.. ولكن بمعرفة ودراية وقناعة ايضا..
التعليقات (0)