مواضيع اليوم

سيجارة بول شاوول

عبد الوهاب الملوح

2009-02-17 14:54:57

0

سيجارة بول شاوول

عبد الوهاب الملوح

 

    ’’على غير توقع’’(1) يباغت بالحضور دون أن ينزع عنه معطف الغياب ؛ دون أن يزيح عن وجهه ستائر دخان يتكثَّف و لايكف عن التجدد مازال بول شاوول يتعقَّب خلاله سيرة – تراجيدية؛ درامية؛ كوميدية ؛... ل’’ وجه يسقط ولايصل’’(2) يُقلِّب صفحات دفتره كما لو أنه ليس هنا تماما ’’  مع هذا ما كان له أن يقف بهذه الحيادية إزاء ما يتخطاه بلا إذن ولا قاعدة’’(1) وليس ثمة من قاعدة في الحقيقة غير الاستثناء.

بعبارة أوضح هذا شاعر لا يستعجل الشعر ويفتح أكثر من جبهة ليقتنصه ويحياه.يحيا الشعر وتهجس به تفاصيله من أجل أن يتحول عنده إلى إدراك ووعي ؛ يتحوّل عنده قوّ’ فعالة ؛ خلاَّقة ؛ يعدُّ من الصمت مشروعا ينهض على الاحتفال الكرنفالي بالعابر العرضي ؛ يعليه ؛ يكبره في لقطة زوم تمجِّد الأشياء البسيطة وتكشف المسافة المأسوية التي تفصلنا عنها بما تتوفر عليه من عناصر لامرئية هي الوقود الحقيقي لتشكيل هوية الذات وهي تصارع من أجل تحقيق كيونة تعمل قوى عدة على اغتصابها ومصادرتها لتفصيلها وفق مقاساتها .سوف لن يعني هذا إطلاقا إن الشعر مقاربة ميتافيزيقية ولن يكون كذلك أبدا بما إنه لا  يأتي من الشعر فقط أو الاراك الغيبي ومن يقرأ بول شاوول في جميع أعماله سيتأكد من حقيقة في منتهى البساطة ؛ حقيقة إن الشعر يأتي من الحياة  وتفاصيلها الدقيقة وأشيائها المتناثرة هنا وهناك ومشاغلها اليومية التي وإن بدت بسيطة تظل هي جوهر الوجود والأدب هو ما يلتقط هذه البساطة ويعلِّيها أو كما قال ميرلو بونتي ذات يوم ’’ كيف يتسنَّى لنا أن نفهم هذه اللحظة اللغوية الخصبة التي يتحول فيها العرضي إلى ضروري’’(3) بحيث تدشّن الكتابة لحظة النص الذي يفتح بتجلياته فعل الحياة في أبسط صوره من خلال تفاصيل الأشياء التي تبلى دون أن تفقد جوهرها وسرَّها:

...ما تساقط من قلم الرصاص بعد فعل المبراةفيه...

.....’’شميم الشارع عندما تختلط روائح الأرصفة بروائح الناس، وتتنشقها كلها في مجة سيجارة اشعلتها وسط الرصيف وأبقيتها في فمك على امتداد خطاك.’’(4)

....جورب مهمل ثقبته أعصاب المشي ...

......’’الآخر الذي يشرب فنجان قهوة إذا رفع إلى شفتيه’’(1)

رماد سيجارة في المنفضة ..-ولم لا  وقد عمل جون كيج john cage(1912-1992) وهو واحد من اهم رواد الموسيقى الطليعية ؛ عمل على الاستفادة من ذبذبات الاصوات في المنفضة في مقارباته الموسيقية-.

.....’’من البصاق إلى روث القطط والكلاب والعصافير ؛ إلى المازوت’’(1)

.....بنطلون لا ينحني تحت المكواة.

.....الخ الخ الخ ...

الاحتفال بنثريات الحياة وتوقير بساطتها وإعلاء مقامها وقد تم إهمالها في زحمة اليومي كما لو  أنها تتآكل  بالنسيان ؛ كشف حرارتها  ونضارتها لا تبلى .

إنه لأمر متكرر أن تسحب سيجارة ؛ تلقمها نارا ؛ إنه فعل عادي يتكرر ألف مرة في اليوم غير إنه في جوهره فعل ؛ متوهج مؤذن بالتجدد ولئن احتفل الشعر العامي التونسي بمثل هذا الفعل فقال أحدهم:

’’ الْفَجْر إِتْبَسِّمْ شَافُوه النَّاس ولاَّوْ ثَاروا أَضْرَاهُوا الخالْ شَعِّل سيجاروُ’’

فبول شاوول يقول :

 ’’يتذكر انه كان يعرف ان الفجر قد شعشع عندما تشعل والدته اول سيجارة له’’ (4)

كتابة اللحظة وهي تتجلى في توقها الكوني من خلال رصدها لأدقِّ التفاصيل و أشدها التصاقا بالمرء وهو يباشر شؤونه ؛ كتابتها بلغة متقشفة زاهدة في الفخامة المنبرية ؛ متخففة من المحسنات البلاغية متصالحة مع جمالها العمومي دون أن تفقد نضارتها البرية وعمقها الدلالي وإيحائها المشحون المكثف ؛ قاموس طري تشكل منلغة اليومي المتداول ؛ لغة الشارع المعتادة  يتلقفها الكاتب بكل حنو وعشق يمسح عنها صدأ التآكل وقد أعاد لها ألقها من خلال أسلوب انسيابي اتَّسم طورا بتوهج شعري جاء على شكل تفجرات إشراقية تلتمع من خلال صور شعرية أتقنالكاتب تفخيخ نصه بها دون الوقوع في إغراءات جماليتها  والاكثار منهاوما قد يحدثه تكرار هذه الجماليات من تجريد ينسف بنية النص ككل وهو ما جعل الأسلوب حينا آخر يتوفر على توتر سردي لا يكاد يتشكل فيتقوَّضُ لصالح بنية أخرى ليس من الضرورة أ ن تتشكل وفق توجه سردي ؛ وقد عزَّز نظام الشذرات  والحكايات المتشظية هذا التلون في الاسلوب ومنح الكاتب هامش حرية فسيح استطاع من خلاله التحكم في الايقاع الذي  وإن بدا خفيا بل ومهملا تماما فإنه صاخب متدفق من الداخل هادئ وخافت على السطح وهو ما أضفى على النص جمالية مغايرة لما هو معتاد ؛ وتشكيل الإيقاع وفق هذه الصيغة إنما هو مرقى جمالي لطالما عمل الشعراء والكتاب عموما على بلوغه وذلك في محاولة للإفلات من الانضباط لقوانين الإيقاع الفنية في النص الإبداعي بما إن الإيقاع ضرورة فنية و كيف يمكن تحقيقها دون الانحناء لشروط هذه الضرورة وهو سؤال الكتابة الفنية منذ الأزل ؟؟

 استطاع بول شاوول أن يصنع ايقاعا دافئا حميميا يستمد طاقته من تورط القارئ في النص وجره للتفاعل معه إبان قراءته .

مرة قال روسو في دفاتره ’’ كيف يمكن ان تكون  شاعرا في النثر ’’لقد أجاب  بول شاوول عن هذا السؤال بامتياز.

-1-من كتاب ’’ بلا أثر يذكر’’ لبول شاوول.

-2- عنوان مجموعة شعريةلبول شاوول.

-3- ’’ نثر الحياة ’’ ميرلو بونتي

-4- من كتاب ’’ دفتر سيجارة ’’ لبول شاوول






التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !