السياسة لعبة قذرة.. السياسة لا عداوات دائمة ولا صداقات دائمة بل مصالح دائمة، السياسة لا علاقة لها البتة بالقيم والمثل والأخلاق.
هذه العبارات وغيرها تتردد على أسماعنا كثيرا حين نتحدث عن السياسة أو في السياسة، وهي في الواقع انعكاس لما آلت إليه الممارسات العملية في المجال السياسي على مستوى العالم، حيث أصبحت الممارسات السياسية من مرادفات المكر والدهاء والخبث والنفاق الذي تم تخفيفه كمصطلح حين أطلق عليه المعايير المزدوجة.
فالسياسي المحنك هو الذي يجيد اللعب بالبيضة والحجر – كما يقول المصريون -، والسياسة هي الحرب التي لا تسفك فيها الدماء حسب ماوتسي تونغ، أو التجارة المتوحشة التي يخسر فيها التجار الورعون حسب آخر، والديمقراطية في داخل أمريكا نظام نخبوي لصنع القرارات وتمريرها على العامة الذين تم ترويضهم من خلال “صناعة القبول” وأدوات ضبط الرعاع ، وفي خارجها أن تضمن واشنطن وجود مقاليد الحكم في أيدي ( الأخيار على قلتهم! ) حسب رؤية نعوم تشومسكي الثاقبة والساخرة في كتابه ( الهيمنة أم البقاء ).
وإذا كانت السياسة كذلك فلا عجب أن يتبرأ ويتعوذ مصلح اجتماعي مثل الشيخ محمد عبده من جذر هذه الكلمة (ساس) وكل ما له صلة قرابة به، وأيضا لا عجب أن نقرأ لأحد المشتغلين في الحقل الدعوي الإسلامي أنه ينبغي على العلماء والدعاة أن لا يغرقوا في السياسة ؛ فإنها مشؤومة تدخل العالِم والداعية في دهاليز مظلمة، والسياسة متقلِّبة كالحرباء، كل يوم لها لون، وهي تقوم على لعبة النفاق الدبلوماسي، وتغيير المواقف حسب المصلحة، وهذا ينافي العلم النافع القائم على الوضوح والصدق والصراحة.
وللأسف فإن هذا المفهوم للسياسة انسحب على ميادين الحياة الأخرى عندنا في عالمنا الثالث، فالوظائف المدنية أصبحت مسيسة بهذا المعنى، فالتعيين لا يتم على أساس الكفاءة والنزاهة، بل على أساس الولاءات والانتماءات، والموظف الناجح هو الذي يداهن وينافق، وأصبح ينظر للشخص صاحب المثل والقيم على أنه ساذج وبسيط أو مثالي لا يفهم الحياة كما ينبغي أن تفهم.
ومن هنا فإن العودة إلى المفاهيم النقية للسياسة كما يطرحها أهل البيت عليهم السلام أصبح ضرورة حضارية، والمطلوب ليس طرح المفهوم فقط وإنما تجسيد هذا المفهوم عمليا حتى نستطيع أن نقنع الآخرين بوجود وجه آخر محجوب يمكنه أن يعيد تكوين الحياة إذا سنحت له الفرصة، وهذا بالفعل ما مارسه أئمتنا عليهم السلام كسياسيين لا يلتفتون إلى شيء غير الله سبحانه وتعالى، وإلا كيف نفهم مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عيه السلام (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته)
هي أن ترعى حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات، فأمّا حقوق الله فأداء ما طلب، والاجتناب عما نهى، وأمّا حقوق الأحياء فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخّر عن خدمة أمتك، وأن تخلص لوليّ الأمر ما أخلص لأمّته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا ما خلا عن الطريق السويّ، وأما حقوق الأموات فهي أن تذكر خيراتهم وتتغاضى عن مساوئهم فإنّ لهم ربّا يحاسبهم.
هل هناك أجمل وأشمل من هذه السياسة في أبعادها الثلاثة ( حقوق الله وحقوق الأحياء وحقوق الأموات )، فالسياسة في نهاية الأمر حقوق يجب مراعاتها، لا سلطة تنتهز الفرصة لتحقيق أكبر المكاسب الخاصة بشتى الطرق ولو على حساب الآخرين، إذ الغاية عندها تبرر الوسيلة وفقا لمبدأ ميكافيلي مؤسس مدرسة التحليل والتنظير السياسي الواقعي.
30 / 3 / 2008م
التعليقات (0)