لا يستطيع أحد أن يماري في أن الشباب المغربي يعاني من حالة اغتراب داخل وطنه جراء التهميش والإقصاء،وهذه الحالة دفعته إما للانعزال والسلبية، وإما إلى التطرف والخروج من هذه المجتمعات التي يشعر أنها مسوؤلة عن مأساته.
وهذا الاغتراب داخل الوطن يعانيه الشباب المغربي حاليا من زاوية الانفصال بين الذات والواقع، وشعورهم بالاختلاف عن الآخرين، عقلية ونمطا في الحياة ثم افتقاد القدرة على اكتشاف المغزى والعبرة من الحياة، ومن زاوية تعرضهم لإحباطات نفسية نتيجة حرمانهم من شروط تحقيق ذواتهم الاجتماعية، كبشر أولا ناهيك عن وجودهم كإنسان، متموقع في المجتمع له حقوق وواجبات، ويشعر بمعنى لوجوده ببلد يحمل جنسيته وهو مطالب بالدود عنه، حتى أن بعض الشباب الذين تمكنوا من الإفلات من عنق الزجاجة وحصلوا على موقع تحت شمس وطنهم كبر شأنه أو صغر، غالبا ما يكونوا ضحايا هؤلاء الذين دأبوا على اغتيال الأمل وهم ذوو الفكرة القائلة إن العبقرية ليست هي الخلق والإبداع وإنما العبقرية حاليا بالمغرب استغلال عبقرية وذكاء الآخرين، وإذا كان الأمر كذلك (وهو كذلك) فما معنى الانتهازية والطفيلية؟ وهل ارتقت إلى الخصال الحميدة في عرف هؤلاء؟
أراد من أراد وكره من كره، إن غالبية الشباب المغربي يعيشون اليوم أزمة اغتراب داخل وطنهم علاوة على تحملهم انعكاسات الأزمة الاقتصادية الخانقة، يؤدون توابع المنظومة البيروقراطية المتحكمة في جميع دواليب مؤسسات وإدارات الدولة وأنماط السلطة غير الديمقراطية في جميع المجالات وعلى مستوى جميع الأصعدة، علما أنها لا تبقيهم خارج الدائرة وعلى الهامش، وإنما تجعل دورهم أيضا ينحصر في مجرد الخضوع لها والالتزام بقوانينها وضوابط وقواعد لعبتها، مما يشعره بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذاته. والاغتراب داخل الوطن في ظل هذه الأجواء هو رديف للانسحاب من المجتمع والتمرد عليه، وبذلك يكون الشاب أمام ثلاثة اختيارات لا رابع لها : إما الانسحاب من هذا الواقع ورفضه، وإما الخضوع له في الوقت الذي يعاني فيه النفور، وإما التمرد على المجتمع ومحاولة تغييره ولو كان باللجوء إلى العنف.
إذا استمر تجاهل هذا الواقع والتغاضي عنه والتعامل باستخفاف مع إشكالية ابتعاد الشباب عن الاهتمام بالسياسة وجهلهم بالتاريخ الحقيقي لوطنهم، وموقف اللامبالاة مما يجري حولهم وذلك نتيجة لسياسات التجاهل لمواجهة قضاياهم، وقد حولتهم تلك المشاعر المتناقضة داخلهم إلى مخزون يغترف منه كل من له مصلحة في تجنيدهم واستخدامهم، بل تحويلهم إلى أدوات لخدمته. ومهما يكن من أمر تظل الثقافة السياسية شرطا مهما في ثقافة الشباب لتهييئهم وتأهيلهم للقيادة في مرحلة لاحقة، وبذلك يتيسر عليهم أمر الولوج في نسيج المجتمع بدلا من أن يتحولوا إلى أدوات للهدم والتخريب.
حتى على مستوى الإعلام، يسعى شبابنا اليوم خلف الإعلام الأجنبي باحثين عن حقائق بلدهم التي أضحى يشك في صدقيتها من خلال الإعلام الوطني، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل أولا على انسلاخ ثقافي وفقدان الثقة في ثقافته الوطنية والقائمين على الأمور بالبلاد، هؤلاء الذين لا زالوا يرتكبون خطأ قاتلا خصوصا إذا كانوا يتصورون أنه بإمكانهم الاستمرار في إبعاد الشباب عن المشاركة الكاملة في إدارة شؤون حياته ورسم مستقبله.
على القائمين على الأمور ببلادنا معرفة أن العزلة والانعزال ورفض المشاركة في اللعبة ناتج بالأساس عن ضعف الحافز نحو المشاركة في عملية التنمية وبالتالي البحث عن إطارات بديلة.
وتزداد درجة الانعزال بفعل تعميق الهوة والمبالغة فيما يقال إنه تحقق من ناحية وضآلة المحسوس من هذه الإنجازات من ناحية أخرى، ومما يزيد الطين بلة، ضخامة الحديث الرسمي عن الإصلاح والتغيير، في حين يلاحظ الشباب المغربي على أرض الواقع استمرار تدهور أوضاعهم من سيء إلى أسوء مع مرور الأيام. وبالتالي ترسيخ شعور الشباب بأن هناك رغبة حتمية لإبقائهم خارج عملية صنع واتخاذ القرار. من خلال الاطلاع على منظومة القوانين بالمغرب يتضح أنه لم تتم الإشارة إلى الشباب إلا ناذرا، لكن كم مرة ذكرت عبارة "الشباب" في الدستور؟ ربما لم تذكر بالمرة أو إن ذكرت فستكون على سبيل ذكر مرور الكرام، بخصوص حماية ورعاية الناشئين والشباب. لكن لماذا فقد الشباب الثقة في السياسة؟ إنه سؤال أضحى بديهيا، لكن لم يتم التأني في الإجابة عليه رغم وجود الكثير من الإجابات، ونعيد إثارته لأنه غالبا ما تناسى القائمون على الأمور أن المشاركة السياسية للشباب يقصد بها أساسا الأنشطة التي يزاولها أعضاء المجتمع كافة (وضمنها) اختيار حكامهم وممثليهم والمساهمة في صنع السياسات والقرارات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك تعني كلمة المشاركة السياسية مساعدة الفرد على أن يقوم بدوره في الحياة السياسية، فهل يشعر شبابنا بإمكانية ترسيخ هذه المشاركة كسبب من أسباب عدم اهتمام الشباب المغربي بالسياسة، ذلك أن الحكومات المتعاقبة لم تتح للشباب وقتا للاهتمام بأي شيء آخر غير ما اصطلح عليه بالدراسة وما هو بدراسة وإنما هو مجرد حشو، كما جعلت همهم الأكبر بعد إنهاء مراحل التعليم تكوين المستقبل الفالت من بين أصباعهم، علاوة على أن شبابنا يعاني من إحباط لأنه يفقد المثل الأعلى الموجود حوله من السياسيين الذين قادوا الشأن السياسي بالبلاد إلى الهاوية، وهذا ما جعل السطحية هي السمة الغالبة على عقول الشباب.
فكل المؤشرات تؤكد عزوف ما يناهز 95 في المائة من الشباب المغربي عن المشاركة في الانتخابات، وذلك لفقدان المصداقية في نتائجها انطلاقا من استعمال وسائل التغريض بالمال ولحرص المخزن على عدم ولولج البادية المغربية للركح السياسي والاهتمام بأمور الشأن العام عن بينة ووعي، هذا فضلا عن الظروف المجتمعية التي تفرض السلبية على الشباب، فالحركة السياسية ببلادنا أضحت هامشية وضعيفة، والتعددية شكلية في مجتمعنا المغربي رغم كثرة الأحزاب (الصناديق السياسية)، ودولتنا وحكومتنا توهم أنها تهتم بآراء الشباب ومشاكلهم ومعضلاتهم ومحنهم، مما يؤدي إلى العيش في دائرة مغلقة بعيدا عن الحياة السياسية، وهو ما يزيد من إحساس شبابنا بعدم جدوى المشاركة، علما أن الوصفة المعتمدة في مغرب الأمس كانت هي التخويف من السياسة ومن عواقب أي نشاط ذي صفة سياسية، خوفا عليهم من التعرض للاختطاف والاعتقال التعسفي والتعرض لأذى التعذيب، والمفارقة الغريبة هي أن اهتمام الشباب بالسياسة بالأمس رغم المخاطر الكبيرة أهم بكثير من مشاركتهم اليوم إذ لا مجال للمقارنة.
وخلاصة القول، تكون النتيجة هي فقدان ثقة الشباب المغربي في الديمقراطية والممارسة السياسية وتزيد الظروف الاقتصادية والاجتماعية والفساد السياسي المستشري من ترسيخ هذا الواقع وتأجيج الإحباط وتكريس الانصراف عن قضايا المجتمع، وهذا أمر خطير وخطيرا جدا لاسيما وانه يساهم في تحويل شبابنا إلى برميل بارود وهو على مقربة من بؤر نارية مشتعلة هنا وهناك.
إدريس ولد القابة
التعليقات (0)