سياسات العنف الجماعي :
الحرب الاهلية في العراق 2006
جاءت قيام مسلحين بتفجير القبة العسكرية في شباط العام 2006 ليمثل ذروة المروق والعنف والتشتت اللا نهائيّ في العالم الواقعي العراقيّ وبداية التاريخية الدموية لصدام الهويات الأصوليّة الطائفية في العراق، إن هذا الحدث لم يحظ بدراسات موسعة أو اهتمام المؤرخين وعلماء الاجتماع والانثربولوجيين العراقيين حيث دفع الجماعات العراقية الأصوليّة الدينية إلى عمليات عنف وجرائم وأعمال وحشية وتفجير السيارات وتميز اثني وعرقي وديني وتطهير واسع النطاق وتمثيل بالجثث وتهجير قسري لتغير المجال الديمغرافي وحصول انهيار وانزلاق في النظام الرمزي والدخول في استيهامات تخيلية للتلاعب بالهويات الدينية وخلخلت نظام القيم الاجتماعية وأدى هذا الصدام إلى نقل الصراعات السياسية والتوازنات الهشة للطوائف والإثنيات إلى الحقل المقدس، هذا الحقل الشائك والمعقد والمشبع بالتفاصيل. سوف يكون احد المولدات الأساسية لتمزق الهوية في العراق. حيث تتداخل في هذا الحقل تمثيلات الطائفية السياسية والدينية وتتقاطع مع عناصر المعرفة الأسطورية وسلطة الكاريزم والثقافات الشعبوية التي تمثل إحدى الاستعارات الأكثر اتساقاً في التكوينات المجتمعية العراقية لأقنعة الصراعات السياسية.
انهيار الدولة 2003
نتيجة للتركيبات الديمغرافية للمجتمع العراقي وتقويض الدولة التوتاليتارية البعثية العام 2003 وتفكيك مؤسسات الهيمنة السياسية والقمعية إلى سلسلة من المتغيرات الجوهرية في بنية الدولة العراقية والعقد الاجتماعي للجماعات السياسية وظهور قوى اجتماعية وسياسية ودينية جديدة على مسرح التاريخية العراقية وتوزيعات في النسق الاقتصادي. في حين شكلت انتخابات 2005 أول منعطف في تاريخ العراق السياسي رافقها ظهور سيرورات من التمركز حول الهويات الفرعية الطوائفية والقومية والإثنية ودخول هذا التمزق المجتمعي إلى الحيز السياسي رغم أن هذا الانبعاث الهوياتي له مبرراته التاريخية والسوسيولوجية إلا انه لم يؤدّ إلى فتح النقاش بين النخب السياسية والثقافية والفكرية العراقية بشأن ماهية الهوية العراقية وجدل الهويات الفرعية وذلك بسبب العجز المعرفي لهذه الجماعات والضجيج والفوضى السياسية التي تلت سنوات الانهيار، إذا لم تقدم النخب العراقية إجابات واضحة بشأن نظام العقد الاجتماعي وتتحايل على سؤال الهوية عبر سلسلة من عمليات (الإقصاء) (التبرير) (التجاهل) وتغيب واضح لكل خلاف فكري وثقافي ومرجعي والذي سيشكل مقدمة لصدام الهويات الطائفية داخل الجسم السياسي للدولة العراقية حيث أن التغيرات لم تمس النواة الصلبة والمتماسكة للبنى المؤسساتية (الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية) ولم تخرج (بنية الدولة) عن النسق القبلي، العشائري والجماعات القرابية والنخب التقليدية والجماعات الطائفية في توزيعات السلطة. ان هذه التوزيعات تمت تحت ضغط ديناميكيات التشكيلات القومية والدينية للمجتمع العراقي ما أدى إلى نمو العنف الجماعي الذي تشكل كنزاعات طائفية نتيجة تكريس هذه المركبات بوصفها مرجعيات مطلقة لدى الجماعات السياسية العراقية وظهور مكونين/ الدين الشيعي/ الدين السني/ وهما صياغتان للنسق السياسي. شكلا أزمة بنيوية مستديمة في حقل السلطة وتجد هذه المكونات اشباعاتها في الأرضية التقليدية للبنى الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية والسياسية وضعف الحراك الفكري وعدم تكوين الدولة الحديثة وتخطيطات الهوية الغامضة (إن هذا التصميم له علاقات واضحة بالجماعات البشرية التي من خلالها تتم عملية تحديد الهويات بالمعنى التاريخي) حيث تحولت الطائفية السياسية إلى نواة مطلقة للعنف والعنف الجماعي وأداة إستراتيجية للسيطرة السياسية بين الجماعات العراقية الدينية الأصوليّة.
هنا تكمن قدرة المنهجية النقدية على تقديم إيضاحات أولية لفهم طبيعة الصدامات المجتمعية الدورية والفاعلين السياسيين وتحليل طبيعة البنى والوظائف المرتبطة بها وتحديد أساسياتها وهذا يتطلب مراجعة التاريخية العراقية الحديثة والكشف عن السلسلة المروعة من الحروب والعنف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والانغلاقات الثقافية والتهميش والإقصاء للجماعات والمكونات العراقية والإبادات المتبادلة والعنف الإيديولوجي وعمليات إعادة إنتاج الإخضاع والهيمنة داخل نسق السلطة السياسية ونقد المجال الأسطوري والذي تم إعادة إنتاجه إبان فترة ظهور العنف الجماعي الأصوليّ الطائفي داخل الحقل المجتمعي العراقي من قبل مجموعة من الباحثين والكتاب في قراء الهيجان الجماعي الديني الطائفي وتوظيف قصة هابيل وقابيل أو البحث عن العنف في البنية الانطولوجية للوجود البشري. في حين تكشف القراءات الانثربولوجية والتاريخية إن العنف هو نتاج بنى وتكوينات الاجتماع البشري وحفريات المجتمع العراقي.
هذه المحاولة للخروج من الرسوم التخطيطية وقراءة طبيعة العنف الجماعي والمعبر عنه بشكل واضح في الصراع على حقلي (الهويات) (الحيز السياسي) وفهم ديناميكية هذه الظاهرة (صدام الأصوليّات الطائفية) والتي تحولت من النسق اللاهوتي إلى النسق السياسي متبلورة عن ذهنية دينية شمولية قوامها الرفض والإبادة المستديمة للآخر.
إن الفعل الإجرائي الأول الذي يتطلب تحديده يكمن في إحداث قطعية معرفية مع المصطلحات المتداولة إعلاميا ونقصد بذلك المصطلحات والتسميات التي تحمل نعتاً وحكماً ايديولوجيا وتفتقد للعلمية والرهان على إنتاج معرفة موضوعية عن البنية السوسيولوجية والمجال التاريخي للمجتمع وإعادة إنتاج مفاهيم ومقولات محايدة لتسمية الدوائر والهويات العراقية. عبر الإجابة على سلسلة من الأسئلة.
لماذا تم تفجير اكبر خزان للأساطير الما قبل تاريخيه وإعادة إنتاج الظاهرة الأصوليّة داخل السيرورات الطائفية العراقية وتحولها إلى أديان مغلقة واستنفار الطاقة التخيلية للمنظومات السياسية والسرديات الفقهية، الإرث الديني، الطبقات السفلى من تركيبات الجماعات الدينية الأصوليّة؟ ما مدى الارتباط بين ظهور النزعات الطائفية والانبعاثات الأصوليّة والنصوص السياسية والدينية والأيديولوجية للجماعات العراقية وقيام صدام الهويات الأصوليّة الدينية العراقية على تقنيات ومؤسسات وتركيبات اجتماعية واقتصادية وسياسية؟
ما هي الأسباب التي جعلت الدولة منذ التأسيس العام 1921 تفتقد للخصائص السوسيولوجية والأيديولوجية وتشكل بنيتها على المجال الطائفي الذي يخترق الجسم السياسي للدولة العراقية؟
لكون المجتمع نسق سيوسولوجي فهو منتج لخطابات دينية - سياسية ومرجعيات أيديولوجية مختلفة داخل نظام الفكر ما يتطلب كشف لعبة الخفاء الإيديولوجي للحركات السياسية أو النخب الدينية العراقية في إعادة إنتاج الهوية الطائفية الأصوليّة لكونها تعبر عن البنية الاركولوجية للمجتمع العراقي في هندسة الدولة؟
هل أدت البنية الأيديولوجية الطائفية لدستور 2005 دوراً في اتساع ظاهرة الحرب الأهلية والتشظي السياسي للمجتمع العراقي؟ ولعدم وضوح هوية الدولة الدينية أو المدنية؟
العنف والعنف الجماعي (مقدمات نظرية)
ان اي محاولة لتعريف العنف والعنف الجماعي سواء كان ذلك في العلوم الانثربولوجية او السياسية تقع في فخ التصنيفات الغامضة والمبهمة والمشوشة ويحدد الانثربولوجي عبد الله حمودي (أن كلمة عنف تستعمل في مجالات مختلفة وعلى عدة مستويات متباينة وبحسب إستراتيجيات تعريفية متنوعة حيث آن العنف قبل كل شيء ظاهرة يصعب تعريفها بدقة سواء كان في المراجع الفلسفية أو العلوم السياسية أو القواميس حيث تستخدم في حقول دلالية متعددة وواسعة وكل مقاربة تعكس إدراكا معيناً وأسلوبا في التشخيص).
حيث قدمت العلوم أجوبة مختلفة حول سؤال العنف فمنذ بدايات العلوم الانثربولوجية التي جاء ميلادها مرتبطاً بالعنف (عنف التسمية والتصنيف) للمجتمعات المختلفة عن المجتمعات الأوروبية والتي أصبحت موضوعاً للخطاب الاستعماري ومع ليفي برول تم ربط العنف بالعقليات الما قبل منطقية ثم جاءت نظرية العنف البيولوجي عند كورهات في تفسير الدوافع وحاجات الإنسان للطعام والنساء رغم الضعف النسبي لهذه النظرية بسبب ارتكازها على أطروحات طبيعانية جوهرية في تفسير العنف إلا أنها قدمت جانب من التعريف اكتمل مع نظرية التبادل لكلور ليفي شتراوس الذي حدد طبيعية الحاجات البشرية بوصفها مقننة اجتماعياً وقانونياً، إن هذه التعاريف والتصنيفات غامضة ومبهمة ومشوشة ولا تعالج مسألة العنف الجماعي وهنا يكمن الرهان على ترتيب الفاعلين ضمن توزيعات الممارسة السياسية التي تطال جماعات طائفية أو دينية او قومية واندماج هذه المجموعات بأيديولوجية دينية أصوليّة هامشية ما يجعل العنف (قابلة للتاريخ) كما يقول ماركس.
فالعنف الذي شكل الحيز الأكبر للفضاء السياسي للمجتمع العراقي خلال العام 2006 كان هيجان جماعي أصوليّ انفصالي محكوم بايديولوجيات دينية كليانية أسس نظامه السيمولوجي داخل تركيبات الجماعات الطائفية والنسق الثقافي. هذه الدورة أعطته القوة الدائمة على إنتاج المعنى عبر عمليات التبادل بين الجماعات العراقية ولا يمكننا فهمه بوصفه ممارسة تاريخية دون قراءة التركيبات المجتمعية وتاريخ الهوية والدلالات اللغوية وشبكة العلاقات العلاماتية داخل أنظمة الدين والمنظومات الأيديولوجية التخيلية وآليات التكفير والتصنيف والتسمية داخل الأنظمة الفكرية الطائفية مرتبطاً بالأزمة التاريخية لضعف النمو البشري للمجتمعات العراقية. حيث أن سياسات العنف الجماعي في العراق العام 2006 وامتداداتها الراهنة أدت إلى خلق واقع سياسي جديد عبر ظهور (جماعات متخيلة) تستقطب الأفراد والجماعات من خلال آليات التمثيل لكون المجتمع العراقي لا يتوفر على نظام ثقافي مستقر يستطيع من خلاله تنظيم العلاقات بين الجماعات الدينية والسياسية ويعطل العنف التبادلي بين المكونات والتركيبات الدينية. حيث تحول العنف في المجتمع العراقي إلى (عنف بنيوي) قائم على المقدس الديني الطائفي المنغلق على رؤية عصبوية صلبة.
تاريخ الحقل البنيوي للهويات الطائفية
ان تفسير الأسباب التي تجعل المجتمعات البشرية بصورة عامة والمجتمع العراقي بصورة خاصة يعاني من استقرارات مؤقتة منذ نشوء الدولة الوطنية العراقية الحديثة العام 1921 يعتمد على توافقات نظام البنى الاجتماعية والجماعات الفاعلة والأنساق الأيديولوجية حيث أن ظهور الدولة العراقية في أعقاب الحرب العالمية الأولى شكل انتقاله نوعية لمجتمع يعاني من هيمنة المؤسسات اللاهوتية والتشرذم الطائفي والقبلي لبناء دولة مجتمع حيث تم جمع خليط من القوميات والإثنيات والطوائف لها تاريخها الخاص وأنساقها الثقافية والأيديولوجية وذاكرتها السياسية والجماعية والأسطورية وشخصياتها الكارزمية في كيان دولة سياسية مركزية والتي هي نتاج نمط الهيمنة الكولونيالية البريطانية واستجابة لحقل التصورات الثقافية والاجتماعية والسياسية المهيمنة في المجتمع العراقي آنذاك، فقد تم (استيراد الملك فيصل الأول) وتعينه لحكم العراق في حين تكونت الجماعات التي أسهمت في تأسيس الدولة العراقية من شيوخ القبائل العربية والاغوات الأكراد وكبار التجار والضباط الأشراف السابقين في الجيش العثماني. استطاع هذا التحالف التقليدي (استبعاد تمثيل الطائفية الشيعية من حقل الدولة). البقاء في السلطة السياسية حتى العام 1958 مشكلاً (نخبة سياسية) في المرحلة الملكية الدستورية وقد تم استخدام الجيش لضمان وحدة الدولة المركزية عن طريق القوة والدمج القسري للجماعات الاثنية والقومية والطائفية وتذويب الخصائص القومية والثقافية لهذه المجموعات، خالقة تعارضاً بين الهوية المركزية للدولة العراقية وتعدد الهويات داخل المجتمع الحافل بالتنوع والتعدد، في حقبة الخمسينيات وخاصة بعد وصول النخبة التقليدية العراقية الى (أزمة مستديمة) نتيجة عوامل موضوعية متعددة أدت إلى تقارب الجماعات السياسية المعارضة وتبلور جبهة الاتحاد الوطني والتي لعبت دوراً في وصول المؤسسة العسكرية الراديكالية إلى السلطة العام 1958 ولعدم امتلاك هذه المؤسسة نسقاً، ايديولوجيا واضحاً او مشروعاً اقتصادياً/ سياسياً تحولت هذه الجماعات من الضباط العسكريين إلى بؤرة أزمات مستديمة وتعطيل الدستور وانهيار جبهة الاتحاد الوطني واندلاع الصراعات السياسية، حتى مجيء انقلاب 1963- 1968 ليبلور تاريخية الدولة الشمولية القومية، إذ استطاع حزب البعث العراقي الهيمنة على السلطة السياسية في تشكيلة اجتماعية - اقتصادية مفككة ونظام الدولة يقوم على احتكار السلطة للزعامات الفردية ونمو العنف السياسي.
أمام هذا النسق التاريخي للمجتمع العراقي، بدأت الدولة القومية بقيادة البعث العراقي بتخطي الشكل التقليدي وصياغة تشكيلة جديدة تتطامن مع التأطيرات القانونية والوظائفية للدولة البعثية. حيث تم دمج مؤسسات الحزب والدولة في كيان واحد يرمز إلى الهوية السياسية ومع انهيار الزعامة القومية الناصرية وارتفاع أسعار البترول العام 1973 نتيجة أزمة الطاقة، تمكنت الدولة البعثية العراقية من صناعة نظام مركزي صارم يستند إلى شبكة معقدة من نظام القرابات والروابط القبلية والجيش ومؤسسات الشرطة والأمن الوطني والدمج القسري للهويات الفرعية.
استطاع هذا النموذج للدولة في صوره الاولية ان يحقق الهيمنة والسيطرة الشاملة على المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتنفيذ سلسلة من الإجراءات حسبت من قبل اليسار العراقي بوصفها المسار الحقيقي للاشتراكية (الإصلاح الزراعي. تأميم الثروات الريعية).
وبسبب أزمة التكوين المجتمعي للمجتمع العراقي منذ عشرينيات القرن الماضي لم تستطع الجماعات العراقية أن تبلور تنظيماً مؤسساتياً سياسياً قادراً على تحجيم الدولة الشمولية القومية فضلاً عن قوة الدولة الريعية وهشاشة الطبقة الوسطى العراقية وعدم وضوحها الفكري، اتسعت الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية للدولة الفاشية العراقية ونمو النزاعات العدوانية العسكرية واستخدام سياسة الإقصاء والاستبعاد للتنوعات الثقافية واحتكار السلطة.
بعد انهيار الكتلة السوفييتية دخلت الدولة الوطنية العراقية في الطور الأخير من أزماتها الدورية وخاصة بعد تبلور أيديولوجية التوسع الرأسمالي النيوليبرالي، إذ تم تفكيك الدولة العراقية العام 2003 وبداية عصر الهيمنة المركزية للسلطة السياسية.
أزمة التأسيس
يطرح الملك فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الحديثة (1885- 1933) في مذكرة سرية العام 1932 (لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أية فكرة وطنية متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية لا يجمع بينهم جامعة) ويرى أن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية (الوحدة الفكرية والملية والدينية).
وعلى الرغم من محاولات النخب الملكية العراقية تجاوز هذه المشكلة عبر إشراك العناصر غير العربية في قيادة الدولة العراقية إلا أنها فشلت في خلق هوية عراقية مشتركة وذلك لسببين كما يحدد ذلك سليم مطر في (الذات الجريحة).
1. تداخل المشكلة القومية مع المشكلة الطائفية والدينية لان النخبة الملكية ورثت عن الدولة العثمانية مشكلة التكوين الطائفي للنخب الحاكمة، فلم يكن هدف النخب الملكية توحيد مختلف العناصر العراقية على أساس التنوع اللغوي او الإقليمي بل على أساس التكوين الطائفي ما أدى إلى عزل العناصر الشيعية والتركمانية والكردية (الفيلية) وقد استمرت آليات العزل السياسي في عصر الجمهوريات العسكرتارية.
2. بروز تيار قومي (الحركة القومية العربية) منذ الخمسينيات واستحواذه على السلطة السياسية منذ ستينيات القرن الماضي لذا مارس سياسة عنصرية ضد الأقوام غير العربية (الكرد، التركمان، الأشوريين، الايزيدية، المسحيين السريان).
حيث أن العراق لا يمثل حالة منفردة من حيث التنوع القومي أو الطائفي آو الاثني وهو اقل تنوع من أمم أخرى إضافة إلى ذلك أن التماثلات اللغوية آو العرقية آو الدينية آو الطائفية لا تقدم عبر ذاتها ضمانات لوحدة دولة ما واستمرارها. الذي حصل في العراق هو عدم توفر الاشتراطات التاريخية لقيام دولة حديثة وهذه المسألة لا تكمن في التكوينات الاجتماعية او انها دولة نشأت عبر تأثيرات سياسية أو كونها حديثة التكوين وإنما المسألة وجود أزمة بنيوية سياسية نشأت مع وصول المؤسسة العسكرية إلى السلطة السياسية وتفاقمت مع صعود انقلاب العام 1968 ذي الابعاد التهميشية القومية الفاشية (تهميش العرب الشيعة والتركمان والاشوريين والايزيدية والعرب السنة من المنحدرات الحضرية، الموصل، بغداد، البصرة).
إن ظهور هذه الدولة القومية الشمولية في احد أطوار التاريخ السياسي للعراق نتيجة لازمة تشكيل نظام البنى التاريخية ومحيط جغرافي سياسي ضاغط إضافة إلى أزمات اليسار العراقي التقليدي وعدم تكون الطبقة البرجوازية الوطنية وصعود الفئات الريفية بايديولوجيتها القومية الرثة والتي تتسم بالنزاعات الشوفينية. أنتج بناء دولة توتاليتارية تلغي الاختلاف والتعدد والتنوع القومي والاثني والطائفي وتمارس العنف والإقصاء للجماعات المختلفة (الدينية والسياسية).
هذه الدولة ولدت من رحم الوسط العلماني القومي، تقوم بنيتها على حاكمية الحزب الواحد والاستبداد والتفرد واحتكار آليات العنف وأيديولوجية قومية ومؤسسات العشيرة (ما قبل الدولة).
بعد العام 2003 وانهيار الدولة الكلياتية كشف المجتمع العراقي عن انقساماته الانثروبو - ثقافية لعدم توفر عناصر الإدماج والتوحيد السوسيولوجي - السياسي في بنية المجتمع وقيام الدولة عبر التاريخية العراقية بضخ الأوهام والأساطير الخرافية والوعي الزائف.
الأصوليّة الطائفية، احتكار الهوية، إنتاج السلطة
الأصوليّة هي الصفة الأكثر جذرية للراديكالية السياسية وأداة رمزية إحيائية للطائفية الدينية معادية للنزعات الحداثية وتؤسس ذاتها على التنافر مع العالم الخارجي ويرى العفيف الأخضر أن الأصوليّة تمثل الهوس بالنقاوة - نقاوة العرق ونقاوة الهوية ونقاوة اللسان ونقاوة الطائفة ورهاب من التطور هذه النقاوة تحدد النسق الايديولوجي للأصوليّة التي تمثل احد التجليات الأكثر بروز للعناصر الفاشية في الثقافة الإسلاميّة بشكل عام والثقافة العراقية بشكل خاص وتعود الشروط الاجتماعية والسياسية لظهور الأصوليّات في الحقل الإسلاميّ إلى الكليانية الدينية المؤسسة على مسار غائي للتاريخ حيث تقيم فصل تام بين النصوص التأسيسية الاولية (نصوص فقهية، نصوص دينية سياسية) والتجربة التاريخية هذا الفصل والتميز يهدف الى ادانة التجربة (التجارب) التاريخية باعتبارها (خارج النصوص) وداخل هذا التميز يتم التعامل مع النصوص التأسيسية نفسها بوصفها نصوص (خارج التاريخ) اي لا تحمل في بنيتها بصمات التاريخ والثقافة واللغة والحاضن الفلسفي والمعرفي ما يؤدي إلى الاعتراف ضمناً بوجود قطبية ثنائية ميتافيزيقية بين الإسلام المتجوهر في طرف وتحولات الواقعية الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية في طرف آخر، هذه الفرضية تشكل حجر الزاوية للأصوليّة الطوباوية الإسلاميّة وخاصة في الدلالات الابستمولوجية حيث تكشف أن الإسلام ينأى عن جميع الاستخدامات الأيديولوجية والتوظيفات السياسية وان التعدد في البراكسيس السياسي والقراءات يعتبر تحريف وان التطبيقات المتحققة لا تلتقي مع جوهر الإسلام ولا تعبر عنه. وان الإسلام ليس هو التموضعات الفعلية والتجسيدات الملموسة وإنما اليوتوبيا أي تلك الإسلاميّة المثالية المتعالية التي لم تتحقق في الواقع وان الرهان على تحققها ضرب من التفكير الطوباوي.
اندماج الأصوليّة الدينية بالطائفية السياسية التي تؤسس بنيتها على مجموعة من الأعراف والتقاليد وأشكال التواصل بين الذوات تشكل جزء من النسق السياسي العراقي بعد عام 2003.
حيث تقوم المؤسسة الطائفية الأصوليّة النسقية على التعارضات الثنائية التي ترسخ الفصل والافتراق الجذري بين الطوائف وهي تعتمد على إعادة إنتاج التعارضات باستمرار وتقيم نسقاً ايديولوجيا مغلق ونظام صارم من قواعد وآليات التكفير والمقدس والمدنس ومقولات وبناءات فقهية وفكرية وإشكاليات تاريخ الطوائف. ما جعل الطائفية الأصوليّة العراقية تشكل إحدى الأدوات الاستيهامية في بناء الهوية داخل التكوينات المجتمعية الطائفية السياسية لتأسيس سلطة سياسية وتحديدات الذات واحتكار المجال التيولوجي والأنظمة الدلالية.
وبسبب غياب التصورات الهرمية داخل بنية المجتمع العراقي برزت المجموعات الأصوليّة والتجمعات الطائفية وأصبحت محور العلاقات والهيمنة للدمج بين ايقونتين (السياسة/ الدين) وإعادة إنتاج التمايزات الثقافية وتشكيل نسخ الحقيقة عبر مجال القوى والممارسة الانتوغرافية والمعتقدات الدينية.
عبر المتخيل الطائفي الأصوليّ الذي هو أداة رئيسية في تعيين الهويات والتمثيلات الثقافية وأخذت نسق بنيوي وجماعي يقوم على الاجتماع الثقافي العصباني.
فالخطاب الأصوليّ الطائفي في العراق أسس مشروعيته على إنتاج تصنيفات تاريخية وثقافية ودينية مندمجة بالأرضية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مبلور نموذج بنيوي تركيبي تبادلي داخل حقل الثقافات التداولية الشعبوية وهي إنتاج إفرازات التحديدات المادية للمجتمع العراقي ونظام البنى الذي يشكل الحاضن الأول للثقافة وتاريخ التمركزات البيطرياركية.
فإنّ صدام الهويات الطائفية العراقية بعد تفجيرات القبة العسكرية يؤشر إلى سيادة الرؤية اللاعقلانية الإقصائية التي تسعى إلى تقويض التنويعات الدينية لمصالح خطاب ميتافيزيقي يقوم على الاستبعاد التيولوجي المتبادل في التصنيف ويحمي الجماعات السياسية من عمليات الاعتراض عليها بإضافة كاريزم مقدس.
مسألة الهوية
توصف الهوية بأنها معطى تاريخي وليست معطى مقدس او مطلقاً وهي كأي منظومة تاريخية عرضة للمراجعة النقدية، يكتسبها الفرد عبر الممارسة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية داخل حقل مجتمعي وتقدم العلوم السياسية إضاءات مهمة نحو فعالية الهوية في العالم المعاصر واكتشاف حضورها في قلب مناطق النزاعات العالمية، تمتد من البلقان والقوقاز إلى قلب إفريقيا السوداء ومنطقة الشرق الأوسط والعراق بالذات.
إذ يوصف التنوع الهوياتي للمجتمعات الحديثة بأنه جزء من الثراء الثقافي واللغوي والسكاني ولكن عندما يستجيب لمحفزات التشظي والانقسام والصراع والتمركز يصبح احد مولدات العنف الهوياتي كما هو حال التجربة العراقية إذ تطرح الحركات السياسية العراقية مفهوم الهوية كمعطى مقدس خارج الحقل التاريخي المجتمعي، غير قابل للجدل أو المراجعة أو التحول.
لذا فان الهوية الجماعية لاي مجتمع هي تراكمات وبنى وأديان وطوائف وملل وقوميات تتشكل عبر تمرحل تاريخي تنصهر داخل أتونها العناصر والقيم اللغوية والاجتماعية والاثنية والاقتصادية والثقافية، عبر الاعتراف المتبادل والشراكة، في حين أية قراءة متعمقة لتاريخية المجتمع العراقي الحديث. نكتشف عن هشاشة الهوية العراقية وعدم طرح ماهية الأديان والطوائف والمذاهب والجماعات اللغوية التي تكون منها المجتمع العراقي على طاولة التداولات النقدية، وتم وضع هذه المسألة في حقل المحرمات ما أدى إلى تحول هذه الجماعات إلى طوائف وأقوام وملل واثنيات مغلقة تبلور تمثيلات وصور نمطية تبادلية بعضها عن البعض وتركيبات أسطورية، احتقارية رسمت عبر التربية والتثقيف والسرديات الدينية الفقهية والمدونات الثقافية، إضافة إلى الانقسامات السياسية والصراع بشأن السلطة السياسية، التي لعبت أدوارا مهمة في التشهير أو الحط من قيم وعادات الجماعات الأخرى، ولو تساءلنا عن حجم المعرفة التي تمتلكها الجماعات الشيعية إزاء الجماعات السنية العراقية أو إزاء الجماعات الايزيدية أو الصابئية أو المسيحية السريانية، أو الأثورية أو بعضها لبعض لوجدنا أنها معرفة هشة وتتسم بالعدوانية والعنصرية والتشويه الذاتي.
تحتوي داخلها على عناصر الصراع السياسي والديني حول الثروات/ السلطة الرمزية/ السلطة المادية ونتيجة للتركيبات الديمغرافية للمجتمع العراقي تبلورت مجموعة مكونات تتمركز حول هويات (اثنية، قومية، دينية) وهي صياغات لتمثيلات (الحيز السياسي) داخل هشاشة التكوينات العراقية حيث اعتمد (النسق المقدس) كحقل شائك ومعقد.
لذا فان هوية الجماعات الشيعية، نتاج للقوى الثقافية والدينية والاضطهاد التاريخي والشعائري والإقصاء عن الأنظمة الفكرية الإسلاميّة، إضافة إلى تراكم منظومة الرأسمال الرمزي والتي تبلورت عبر حقل التاريخ، فهي تمثل هوية جوهرية، متجوهر، تفتقد للتشكيلات الاندماجية بسبب الصراعات بشأن (المواقع والهيمنة في السوق الرمزي) هذه الهوية تقوم على مخزونات ضخمة من الاستيهامات الذاتية والجماعية والوعي الاغترابي والتمزق ويعود إلى الظهور الدوري لشخصيات ورموز كارزمية في وعي الفاعلين الاجتماعيين السياسيين وتقوم على بنية مؤسساتية الى طاقم ديني قادر على إنتاج وعي معين للإتباع في حين لم تتشكل هوية الجماعات السنية إلا تحت وطأة الصراعات السياسية الحديثة. لذا سادت الرؤية اللاعقلانية وتخلف سردياتها السياسية والأيديولوجية والدينية لصالح خطاب ميتافيزيقي ذي بنية إقصائية يسعى إلى تقويض التنوعات الثقافية العراقية اضافة الى افتقارها الى بنية صلبة. حيث ان هذا الصدام بين الهويات داخل المكون العراقي (صدام الهويات الأصوليّة) صياغات سياسية مخترعة لاحداث التفكك والاضمحلال في حقل التاريخ.
ويطرح حنا بطاطو فرضيته في غاية الأهمية حيث يقول: إن التوجهات القومية للدولة في حقبة ما قبل البعث استطاعت أن تتعايش مع الولاءات القديمة (الولاءات الطائفية والقومية والدينية..) آنذاك وتعمل على تآكل وتفتيت تلك الولاءات.
هذه الفرضية أثبتت عقمها في تاريخية الدولة العراقية الحديثة خلال اصطدامها مع مفهوم العصرنة وإعادة بناء الأمة - الدولة، سواء كان ذلك في حقبة الجمهوريات أو الدولة الفاشية البدوية.
وقد تحولت مجموعة الهويات العراقية الى تركيبات سرمدية متجوهرة وحقل صراعات دورية وصدام بسبب انهيار المشروع الليبرالي العقلاني ونمو الأصوليّات الدينية والنزاعات الطائفية ورافق هذا الفشل انبعاث الهويات الفرعية لا سيما بين الجماعات العراقية وهو يمثل هزيمة سوسيولوجية للدولة، الثقافية، حيث جرى الدمج القسري بين الدين/ السياسية وتحول السياسية إلى حقل مقدس والامتثال الى دين الطائفة عبر إنشاء بنية مؤسساتية ذات نزعة عسكرية محاربة داخل الأديان الطائفية.
اللعبة الفسيفسائية المغلقة (ظهور الدين الطائفي)
يحدد جوردن أن الدين شكل إيديولوجي يشتق زحمة الجوهري من الأجوبة التي يعطيها على الأسئلة الوجودية حول الشروط الإنسانية ومعنى الحياة وتحليله للأصول التاريخية والنظام الطبيعي والحوادث والوجود الموضوعي للجماعات والأفراد داخل حقل التاريخ.
وتتضح قضيتين عامتين تتصلان بتحديد بنية المنظومة الدينية.
القضية الأولى: تاريخية أي شكل أيديولوجي (الدين احد الأشكال) من البروز والتمفصل مع ايديولوجيات أخرى.
القضية الثانية: مادية كل أيديولوجية، الايديولوجيات تعمل في رحم مادي من التأكيدات والاجراءات وهذا الرحم يحدد علاقاتها فيما بينها حيث أن نشاطها محاصر بالمعنى ولكل أيديولوجية (الدين) نوع من الوجود المادي.
ويمثّل الدين احد المتغيرات الأساسية في المجتمع البشري وخاصة في المجتمعات المتعددة الأديان يبرز هذا المتغير كأحد معايير التباين بين الجماعات حيث أن التنوع الديني في المجتمع لا يكتسب أهمية سياسية إلا إذا تداخل في عمليات تنافس أو تنازع أو صراع في مجالات القيم أو الثروة أو السلطة وهنا يبرز الفرق بين مفهومين للأديان:
المفهوم الأول: يشير إلى التنوع السوسيولوجي في المعتقدات والممارسات الدينية.
المفهوم الثاني: استخدام الدين لممارسات سياسية واقتصادية وثقافية لأغراض الهيمنة ويحتوي هذا المفهوم على سلسلة من التصنيفات المعرفية والمؤسساتية وأنظمة القيم.
فالموقع الديني السياسي للجماعات الشيعية اخذ صفة معارضة مستديمة لجماعات سنية مركزية تأقلمت مع تخطيطات هوية الدولة ووظفت المكتشفات الأيديولوجية في التجربة التاريخية، هذه الوضعية التاريخية فرضت على الجماعات الشيعية البحث عن تعويضات خارج التاريخ الواقعي العياني والذي هو ليس مجال تاريخ الدين الشيعي أو وجوده الموضوعي وإنما هو تاريخ جماعات افتراضية أخذت تحذف عناصر هذا التاريخ وتحيله إلى دلالات ومعنى وميثولوجيات وسلطة أسطورة وفي صيغ مستديمة بهذا النسق المزخرف حيث استطاع الدين الشيعي إيجاد مخرجاً تعويضياً معبر عن رفض الدولة والانسحاب الكلي من المشاركة السياسية خوفاً على قداسة الأسطورة من الدنس الأيديولوجي فضلاً عن ذلك كان الدين الشيعي يعاني من الطرد المستمر خارج التاريخ امتداداً من عصر الفقهاء حتى عصر الفتاوى المعاصرة والأحاديث السياسية التي تتخذ مفهوم الروافض والولاءات المزدوجة السياسية والدينية موضوعاً لها وقد عبر هذا الدين عن ضرب من الطوباوية لكونه مهمّشا خارج حقل الممارسات التاريخية.
هنا نصل الى تأطيرات معرفية لمفهوم الدين الشيعي/ الدين السني فقد تشكلت هذه الأديان عبر التاريخية الإسلاميّة كجماعات سياسية أولا لها أنظمتها الفقهية ومعتقداتها الخاصة وتمايزاتها في شبكة الرموز والكاريزمات والتفرعات اللاهوتية والصور الدينية والمنظومات المقدسة الأساسية والمقولات الأيديولوجية المطلقة.
وقد شكل المجال الجيويولتسكي العراقي مجال واسع لإنتاج وإعادة إنتاج تراكمات الرأسمال الأصوليّ داخل الأديان (سني/ شيعي) عبر إحلال مشاريع وهمية ثقافوية سلفية محدد الآفاق. وبناءات مثيولوجية يقوم لاهوتها السياسي على نظام مستند لتأويل العالم كنموذج نهائي. نظام مغلق يتسلح دائماً بأدوات المناعة ضد قرارات الواقع الاجتماعي وتصورات أصوليّة. ويعود هذا الظهور (الأديان الأصوليّة الطائفية) إلى أسباب متعددة.
أولا: وجود مخزون تاريخي ضخم قائم على تمثيلات تاريخية ودينية او يتم اختراعها في حالة عدم وجودها وانغلاق هذه الجماعات على بنية معرفية إضافة الى وجود ايديولوجيات خلافية.
ثانياً: أزمة الهوية التي تعصف بالمجتمعات المتحولة تاريخياً ووقوع المجتمع بين هويتين التباسيتين هوية سياسية لم تتبلور وهوية دينية متكونة ومتبلورة قادرة على إعادة إنتاج نظام الفروقات.
ثالثاً: توظيف الرأسمالي الرمزي للجماعات الدينية (الأفكار، العقائد، التقاليد) التي تشكل محرك للتوترات المستديمة واحتكار الحقيقة السياسية والدينية والتحول الذي يصاحب بنية الطوائف الدينية وتحولها من هويات فرعية إلى مؤسسات دينية متكاملة.
رابعاً: إن كل جماعة دينية (شيعية/ سنية) أخذت تشكل سردياتها الانثربولوجية المتكاملة وكتلة المفاهيم والمقولات.
(المجال السياسي) كفضاء للحرب الاهلية
يطرح المفكر فالح عبد الجبار موضوعين أساسيين عن الولاءات والحراك السياسي داخل بنية المجتمع العراقي:
الموضوع الأول: تعتمد الولاءات والحراك السياسي على ما يسميه علماء الاجتماع (التفكير النمطي) المؤلف من جملة قوالب جاهزة، يقينية، مقطوعة في الأغلب عن الواقع تخلط خلط عشوائي بين تخيلات وتحيزات وتشوهات فكرية متعددة المشارب.
الموضوع الثاني: يعتمد الحراك السياسي عن الولاءات التقليدية الطائفية، العشيرة، الزعيم السياسي او القبلي.
حيث أن الهويات الطوائفية والقومية والاثنية وبحثها المستمر عن مكان لها في الحقل السياسي، يكشف ارتهان السياسية العراقية أو الطبقة السياسية بحقائق التركيبة السوسيولوجية الرثة للمجتمع العراقي، حيث وقع منتجو الخطاب السياسي العراقي في (الوهم الايديولوجي) القائل بان تماثل الدولة والمؤسسات التمثيلية مع تركيبة هويات المجتمع لكون هذه التركيبة تمثل أصالة المجتمع التخيلي والمخترع سياسياً من قبل هذه الجماعات.
لذا يفتقد الخطاب السياسي العراقي منذ 2005 إلى آليات من التمركز والثبات حول نواة صلبة في الهوية السياسية إذ تسود شبكة من الهويات الفرعية والتفرد في المخيلة الأيديولوجية وانبعاث الطوائف والقوميات والاثنيات، أدى إلى تعميق الانقسامات المذهبية والمجتمعية وكشف عن شعبية الحركات الإسلاميّة الراديكالية السياسية مقابل ضعف شديد للتيارات الليبرالية والعلمانية وأزمة تأسيسية لحركات التنوير تعود هذه المسألة إلى التشظي الشديد للمرجعيات السياسية والفكرية للجماعات العراقية، تتراوح بين التعايش والنزاع نتيجة للعنف والقهر المنظم الذي مارسته الدولة التوتاليتارية منذ ستينيات القرن الماضي داخل المجتمع العراقي.
لذا فان هذه الجماعات الفسيفسائية تبحث عن أساطير مرجعية او خرافات سياسية وطقوس لاستعادة رأسمالها الرمزي الذي امتصته الدولة الشمولية القومانية العراقية، فقد تم بناء الدولة العراقية الحديثة ما بعد العام 2003 وفقاً لمفاتيح (اثني/ ديني) وإبعاد كامل للقوى الاجتماعية والسياسية هذه التركيبة أدت إلى (اثننة السياسة العراقية) واشتغال نمط من الترابطات البنيوية الأساسية تمثل نقيض كامل لبلورة هوية وطنية جماعوية عراقية.
فقد تم استبدال الديمقراطية التمثيلية بالديمقراطية التوافقية واعتماد المحاصصة الطائفية والعرقية والتي تمثل تجاوز على أهم تأسيسات الدولة الحديثة التي توصف كحاضنة لكل المواطنين وتعطل الحراك السياسي واستبدال الممارسات السياسية بالعنف.
ما أدت إلى تفعيل الفوارق الثقافية أو اللغوية والدينية بين الجماعات العراقية ودفعت هذه الجماعات إلى البحث عن التمايزات والرأسمال الرمزي وبناء كانتونات طائفية تصل حد تفكك بنية الدولة وقد ظهرت هذه التمزقات إبان العنف الجماعي في عام 2006 والذي أشرت إلى نهاية التاريخ لمقولة الدولة، وتأسيس أنماط جديدة من العلاقات الموغلة في تركيبات بنيوية معقدة سياسياُ واقتصادياً ودينياً وصراع نجد أساسياته في الهيمنة على السلطة السياسية والمجال الديمغرافي بين الجماعات الشيعية الأصوليّة والجماعات السنية الأصوليّة حيث أن الأصوليّة السنية تكرس ذاتها على التمزق الرمزي والخروج التام من التاريخ وتجعل منه خطوط تماس مع الجماعات الشيعية الأصوليّة.
والوقوع في فخ الوهم السياسي الذي يتم إنتاجه داخل المتخيل الايديولوجي في الأصالة، التفرد، الهيمنة المستديمة التمامي والاستحواذ على الممتلكات الأرضية والرمزية من خلال هويات دينية جماعية مضادة لحركة التاريخ.
في حين الجماعات الشيعية الأصوليّة تستخدم الديمقراطية للهيمنة وتاريخية الإقصاء من حقل السلطة والثروات والحيز المعرفي داخل الأيديولوجية الأرثوذوكسية الإسلاميّة ويعود هذا العنف الجماعي داخل التكوينات العراقية إلى تفكك الطبقات الاجتماعية وظهور الدين كممارسة سياسية وبروز الطبقات السفلى في التركيبات السياسية وهيمنتها على مسرح التاريخ.
حيث ان العلاقات تقوم بين الجماعتين على الاستبعاد التيولوجي والسياسي وقد شكلت هذه المسألة مجالاً واسع لإنتاج الهيجان الجماعية ضد (أخروية) الأخر وعدم الاعتراف بوجوده الموضوعي والتاريخي، عبر تصميم أسطورة الثقافة والعرق وخلق هويات تمايز دينية وخليط مثير للدهشة من الأحكام المسبقة بصدد تشييد وتصميم نظام من التصنيفات اللاعقلانية ذات النزعات الفاشية.
إعلان الحرب الأهلية
يرى د. فروريك معتوق أن المعادلة الأساسية التي تطرحها عادة الحرب الأهلية معادلة مثلثة الزوايا من ناحية أولى هناك دولة قد تكون قائمة على التعايش أو ضعيفة قائمة على الديمقراطية البسيطة ولكنهما بالضرورة وفي جميع الأحوال دولة وفاقية قائمة على اتفاق نصي أو شفوي بين جماعاتها السياسية ومن ناحية ثانية هناك معارضة مسلحة وميليشيات تقوم ضمن الدولة ولكن ضدها على أساس أنها تجمعات سياسية وحزبية متمايزة بعضها عن بعض بأيديولوجية عدوانية ومن ناحية ثالثة هناك المجتمع المدني الذي يتسم بالضعف.
ويعتبر العنصر الأيديولوجي (الديني/ الطائفي) إلا العنصر الاقتصادي هو الأساس والذي يتصدر قائمة الثوابت في النزعات البشرية كما يلاحظ مايكل مان فمن دون أيديولوجيا مسلحة لا وجود لحرب أهلية فمن خلال هذه الايدولوجيا تستطيع الحرب الدخول إلى النسيج الاجتماعي والهويات الجماعية وهواجس الجماعات وقد يكون العنصر الاقتصادي محرك حقيقي للنزعات الأهلية ولكن الخلاف في المصالح الاقتصادية لا يصبح مجالاً منفجر للحرب الأهلية إلا بعد اقترانه بالخلاف الأيديولوجي.
حيث شكل تجذر الولاءات الطائفية والدينية في النموذج العراقي بعد العام 2003 نمط من التشظي في الخطوط العرقية والمذهبية وتم استخدام هذه الانقسامات في الهويات الطائفية/ الدينية كأداة حشد وتعبئة سياسية.
ويحدد فالح عبد الجبار أن ما يدور في العراق عقب تفجير القبة العسكرية هو حرب أهلية مصغرة تقوم بها قوى أصوليّة سياسية من اجل إعادة التوازن كجزء من إستراتيجية تهدف إلى تقويض المجتمع وتستهدف الأهداف المدنية (شيعي في منطقة سنية يقتل أو يطرد وبالعكس) وانتشار خطاب التكفير المؤسساتي داخل الأطر الثقافية العراقية.
ديناميكية التطهير
الحرب الأهلية في العراق 2006 وامتداداتها الحالية المنتشرة قامت على حرب مدن كلاسيكية وبالذات في مدينة بغداد والمدن المحيطة بالعاصمة حيث تم اللجوء إلى الاغتيالات من اجل إفراغ المناطق المختلطة من السكان والتركيز على رجال الأعمال والتجار والشخصيات الاجتماعية كجزء من محاولة منهجية لخلخلة النسيج الاجتماعي وطبقاً لدراسة أجرتها مجموعة الأزمات الدولية.
إن الجماعات الشيعية قد وسعت من سيطرتها على أجزاء هامة من العاصمة ذات الكثافة السكانية الشيعية عبر تجنيد السكان المحليين وبالذات في مدينة الصدر، الشعب، حي سومر، عدن في الشمال الشرقي والشعلة والحرية والإسكان والوشاش في الشمال وحي الجهاد وابو تشير وحي المعرفة في الجنوب الغربي والزعفرانية في الجنوب الشرقي والفضيلية والمشتل وحي الخنساء إضافة إلى منطقة الأمين في الشرق والكاظمية والعطيفية إلى الشمال وبغداد الجديدة الى الشرق وقد بقيت بضعة جيوب كمعاقل للجماعات السنية هي الأعظمية شمالاً والشماسية وصليخ والعامرية والغزالية وحي الدور جنوباً حيث جرى تحول داخل الجماعتين من العمل المؤسساتي إلى العنف المعمم ما اوجد تبلور وترسيخ كتل أصوليّة طائفية مسلحة تفتقر للضبط وتتغذى على الطبقة الاجتماعية الرابعة (الفئات والمجموعات الهامشية والرثة والطبقات السفلى من تركيبات المجتمع العراقي ممتزجة بأيديولوجية راديكالية طوباوية جذرية).
فقد تم تهجير 1.5 مليون شخص وفقاً للتقييم والمتابعة التي قامت بها المنظمة الدولية للهجرة وقد نزح هؤلاء الأشخاص من مناطق دينية مختلطة إلى مجتمعات متجانسة حيث جرى تحرك الشيعة من الوسط إلى الجنوب أما بالنسبة للسنة فقد تم التحرك من الجنوب إلى الوسط العلوي هذه التحركات السكانية الضخمة سوف تحمل أثارا طويلة الأمد من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويشكل الشيعة 64% من نسبة النزوح فيما يشكل السنة 28% وتعود أسباب النزوح إلى العنف المسلح والخوف من التهديدات الشخصية والتصفيات والاغتيالات والنشاطات ذات الطبيعة الإجرامية المحلية والخطف، ان أيديولوجية التطهير هي احد تقنيات الحرب الأهلية حيث تجري عملية قتل وتهجير المدنيين بصورة منهجية، منظمة وهي تعود الى التماهي بين هوية دينية وانغلاق اجتماعي لإنشاء مناطق منسجمة سياسياً ودينياً.
هذه العمليات القسرية تنطوي على أغراض تتلخص بمحاولة تصنيع خطوط تماس طائفية تعزل بنية المجتمع وفق هويات دينية حيث شكلت مناطق شرق قناة الجيش في جانب الرصافة خط تماس أساسيا وهناك محاولات لدفع هذا الخط غرباً نحو نهر دجلة وسط بغداد أما بالنسبة للكرخ والتي هي على تماس مباشر مع محيط بغداد الغربي والتي يراد لها أن تكون صافية طائفياً لصالح السنة. فضلاً عن خطوط تماس خارج العاصمة لتكون امتداد استراتيجيا للخطوط الداخلية حيث تم زج (المجال المدني) في عمليات القتل الجماعي عبر استخدام السيارات المفخخة والعبوات وقذائف الهاون وقد بلغت السيارات المفخخة أكثر من 4000 عملية تفجير يرافقها إعدامات جماعية. وكانت التفجيرات الأكثر شيوعاً استهداف تجمعات المصلين والاحتفالات الدينية، والقتل على الهوية وبالذات في الطرق التي تصل إلى المدن المقدسة.
وبلغت عمليات القتل حسب إحصائيات المجلة الطبية البريطانية 650 ألف قتيل عراقي إضافة إلى قتل 250 أكاديمي عراقي واختفاء المئات من هؤلاء الأكاديميين بسبب التهديدات والهجرة الواسعة إلى خارج العراق وهي عمليات منظمة وذات دوافع دينية تتداخل مع إستراتيجية الحرب الأهلية. .
التعليقات (0)