مواضيع اليوم

سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك

habib mani

2012-07-08 11:34:49

0

وأخيرا كتاب "سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك"

بقلم الأستاذ الباحث الحبيب مني


آن الأوان أن تصدر دراسة شاملة حول سوسيولوجيا جاك بيرك لأن المكتبة العربية تفتقد إلى هذا النوع من الدراسات حول أحد الأعمدة المميزة في تاريخ السوسيولوجية المغربية، بل أحد الاتجاهات الأساسية في التأصيل لسوسيولوجية مغاربية متميزة غير تابعة للمركز الكولونيالي، بل التأسيس لسوسيولوجية مُقاومة لنموذج الفهم الأحادي الذي يحاول المركز تعميمه وتكريسه كأفق ورهان واحد ووحيد للفهم والمقاربة.سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك عنوان كتاب الأستاذ الدكتور حسن مجاهيد صادر عن مؤسسة أفاق للدراسات والنشر بمراكش يتكون الكتاب من خمس فصول مع بيبليوغرافية ملحقة تتضمن أهم أعمال جاك بيرك.
"ألف جاك بيرك العديد من الكتب عن العالم العربي، وترجم الشعر الجاهلي، وأصدر ترجمة للمعلقات وقام بترجمة القرآن الكريم، لكنه حافظ على الحدر الذي يستوجبه عمل من هذا القبيل، وعيا منه بجسامة هذه المبادرة، لذلك سماها محاولة ترجمة معاني القرآن ،اهتم جاك بيرك كذلك بالعلماء وبعلاقاتهم بالسلطة السياسية. وفي مقدمة الباحث حسن المجاهيد، يعتبر الباحث جاك بيرك من المفكرين والباحثين البارزين في مجال العلوم الاجتماعية ولعل أساس التفكير في الاهتمام بأعماله، راجع إلى أهمية الإنتاج الفكري الذي خلّفه نظريا ومنهجيا.
تجاوزت أعماله مائتي مؤلف من كتب ومقالات وحوارات، يندهش المهتم بأعماله، ليس فقط للناحية الكمية، بل لتعدد المواضيع التي تناولها بموسوعية لا محدودة، إذ من الصعب حصرها في مجال فكري معين: من الدراسات الميكروسوسيولوجيا، منطقة معينة أو ظاهرة جزئية أو مجموعة صغيرة إلى الدراسات الماكروسوسيولوجية : العالم العربي، الإسلام، الثقافة، الهوية....،نجده يهتم بما هو بسيط أو مهمش، الكل يتساوى ويحمل تعابير ودلالات لا يغفلها لأنها تساعد على إدراك الواقع في غناه وتعدديته وأبعاده وتجلياته المختلفة. بدءا بالمغرب العربي من خلال الدراسات الميدانية التي قام بها ومرورا بترجمة القرآن إلى ترجمة الأحاديث النبوية، نجد بيرك يخترق المجالات الفكرية الواحدة تلو الأخرى بنفس الحدة وبنفس حب الاستطلاع رغبة في تخليص المعرفة من القيود الايديولوجية والنظرية التي تكبلها من أجل إعادة تكثيف الوقائع.
وفي الوقت الذي ظلت فيه العلوم الإجتماعية عامة والسوسيولوجية على وجه الخصوص ،محط نزاع وسجال بين مختلف التيارات والمذاهب الفكرية، وفي الوقت الذي أصبحت فيه المفاهيم المتداولة شأنها في ذلك شأن القيم في البورصة، ما تكاد تستقر وتتقوى حتى تتلاشى قيمتها، ظل بيرك وفيا لنهجه ومطورا له، بعيدا عن الطرق المعبدة والتصورات الاختزالية والمواقف المذهبية العقيمة.
إن ما يميز بيرك عن غيره من الباحثين في مجال العلوم الإجتماعية، وما يجعله جديرا بالاهتمام حسب حسن مجاهيد ، هو عدم انصياعه وخضوعه لأمهات النظريات المهيمنة، وجرأته وقدرته على مسائلتها وتجاوزها، لقد كان مسلحا في ذلك بتجربته الغنية، وباعتماده الواقع كمحك أول وأخير. إن هذا النهج الذي سلكه، والذي يتخلل أعماله برمتها، جعله في منأى عن المنزلقات التي آلت إليها التصورات الاختزالية والتوجهات المغرضة.
بالمعنى النبيل للكلمة يضيف حسن مجاهيد "يعتبر بيرك مستشرقا، أي باحثا ذا أصول غربية وظف إمكانياته المعرفية بتفان قل نظريه، من أجل دراسة وتحليل وفهم مجتمعات تختلف ثقافيا وحضاريا عن مجتمعه الأصلي.لايتحدث جاك بيرك عن الشرق، وخاصة الجزء العربي منه، من منطلق التأمل والتخمين النظري، بل من معايشته له واحتكاكه به إلى حين التحاقه بكوليج دو فرانس سنة(1956) وحتى بعد هذا الالتحاق لم تعرف حركته الدؤوبة توقفا بحيث كان يزور مختلف الأقطار العربية كمحاضر ومنقب عن الأحداث والوثائق" .
ما ننبه القارئ إليه هو أن الباحث حسن المجاهيد لا يتوقف في هذا الكتاب عند حدود السرد بل يتتبع الإشكالية البيركية بين ثنايا الكم المعرفي الهائل الذي خلفه جاك بيرك حول المغرب والعالم العربي ليقبض على الإشكال الثاوي خلف هذا الكم المعرفي و ليصوغه في الإشكالات التالية: "كيف عمل بيرك على بلورة نهجه الخاص؟ ماهي الأسس والمقومات التي ينبني عليها هذا النهج؟ و ماهو موقعه وموقفه من التصورات المتداولة؟ كيف وظف نهجه من خلال مختلف المواضيع التي تناولها؟ أين تبرز وحدة وأصالة توجهاته الخاصة به؟ ماهي إسهاماته الفعلية في رصد السلوكات العربية؟" .
يشير حسن المجاهيد إلى أنه من أجل إدراك مقومات المنهج البيركي لابد من التسلح بعدة منهجية قوية تمكن الباحث من الابتعاد عن الاحكام الجاهزة والتصنيفات الساذجة أحيانا التي لا تتماشى مع الروح العلمية المعاصرة فجاك بيرك لا يمكن تصنيفه تحت أي اتجاه نظري معين، أو القيام بإسقاطات إيديولوجية أو حصره في خانة معينة لأن هذا سيحرم القارئ من إدراك هذا النهج في عمقه وأصالته، وابعاده المختلفة، ولهذا فالتخلص من ديكتاتورية الايديولوجيات ولو مرحليا هو الموقف السليم من أجل قراءة علمية لمنهج جاك بيرك لأن هذا الاخير لم يكن يتقبل مجانا النظريات والمفاهيم المتداولة مهما مارست هذه النظريات من إغراءات تتزعمها تبريرات الدقة والعلمية في مقاربة الواقع السوسيولوجي المعقد بالمغرب خاصة والعالم العر بي عامة وهو مجال المقاربة البيركية بالأساس" .
حسب حسن المجاهيد "توظف المقاربة البيركية النظرة العلمية المبنية على الملاحظة والتجربة والمعايشة والتأمل الفكري، من أجل صياغة الوقائع والأحداث، ويبقى "المعيش الجماعيVécu Collectif في أبعاده المختلفة إحدى المقومات الرئيسية التي تقوم عليها. يتساءل جاك بيرك بهذا الصدد "من أين يمكن لأي باحث في العلوم الإنسانية أن ينطلق ما عدا المعيش اليومي؟ إنها عملية اعتداء متبادلة. فعندما نتحدث مع شخص ما فإن النظر يتجه إلى محياه(...)وعندما نتحدث لشخص فإننا لا نتحدث مع هيكل، لكن مع تعبيره. ونفس الشيء بالنسبة لدراسة المجتمعات، هذا مع العلم أن لكل تعبير حوافز ودوافع، وباختصار كواقع لا يقل واقعية عن ذلك المعطى الأولي(...)لأن البحث في العلوم الاجتماعية يجب أن يثبت تلك المواجهة كنقطة انطلاق ووصول في نفس الوقت، عندما ننطلق من المعيش الجماعي، فإننا نبحث بطريقة مشروعة عن التمييز بين الباطن والظاهر .ولم يتعامل جاك بيرك بنوع من التجزيئ مع الواقع السوسيولوجي فكل جزئية تكسي أهمة كبرى في المنهج البيركي الذي سعى إلى النفاد إلى عمق وباطنية المجتمع وكأنه يسعى كما يقول حسن المجاهيد إلى تذويب الفروق بين ماهو تجريدي وما هو ملموس بين ما هو ميكروسوسيولوجي، وماكروسوسيولوجي، ويعبر عن هذا قائلا "بعد التخلي عن المنهج المشكوك فيه الذي يعتمد المخبر، وعلى منهج الاستماراث: أترك الأحداث والمشاكل تأتي إلي" .
وبعد أن أرسى بيرك أسس منهجه أمضى بيرك في انتقاد الإرث السوسيولوجي السابق حول المغرب بل ناقش وحاجج استنادا إلى الواقع والى المنهج الذي يتبناه بيرك بعض الأطروحات الاختزالية التي حاولت تصنيف المجتمعات المغاربية ونمذجتها في خانه المجتمعات القبيلة القائمة على الرابط الاجتماعي والتضامن الالي كما حاولت ذلك الأطروحة الانقسامية بل يقف ضد هذا الطرح ليعلن أن دراسة المجتمعات العربية وفهمها لا يمكن دون مشاركة العرب و مقاسمتهم استراتيجياتهم والياتهم في التعبير عن أنفسهم، والتي يجب احترامها لأنها دلالاتهم التي بها يتحدد وجودهم. ثم ينتقل حسن المجاهيد في الفصل الثالث ليستجلي مقاربة جاك بيرك للإسلام الذي قال عنه جاك بيرك " لقد أبرز الإسلام عبر التاريخ قدرته على الأخذ والعطاء والتعايش والتفاعل، ولعب أدوارا مختلفة في العصر الحديث، دور المأوى للهوية والصمود والنزاع والتحدي، ليصبح إسلاما إشكاليا حاملا لفرضية كينونة وجيهة" يقول حسن المجاهيد أن بيرك لم يعتمد في تناوله للإ سلام كمبحث مركزي كما هو الشأن بالنسبة لجل المباحث التي تناولها على منهج التأمل والاستنباط، بل اعتمد أساسا على منهج المعايشة والملاحظة والاحتكاك، ما جعله في مأمن من تلك المنزلقات التي الت اليها التصورات الاختزالية والمغرضة ،تلك التي وقفت إما مناهضة أو مشايعة له، مما أدى بها إلى الانسداد والاجترار والحيرة وضيق الأفق" .
وفي تنازله لمفهومي الخصوصية والعالمية عند جاك بيرك ينطلق حسن مجاهيد في كتابه هذا بإعلان أن هذين المفهومين اللذان شكلا قطبي التحليل Pôles d’analyses للعالم العربي كموضوع للمعرفة، فإن مفهومي الخصوصية والعالمية يمثلان بدورهما قطبين من أجل رصد التحولات الاجتماعية والثقافية للعالم العربي في توجهاته نحو المستقبل. وكما هو الشأن بالنسبة لمفهومي الأصالة والعصرنة، فإن مفهومي الخصوصية والعالمية يتكاملان أكثر مما يتناقضان، مادام أن أصالة الشيء تكمن في استمراريته المتجددة فإن خصوصيته تكمن في تفاعلاته وإشعاعه عبر الزمان والمكان. ولا يقف بيرك على حدود التدليل على عدم تناقضات مفهومي الخصوصية والعالمية بل يقوم بتفكيك اليات الاشتغال من داخل الأنساق الثقافية المختلفة للكشف عن مجرى العالم وكيف تتحكم فيه الأنا الغربية بتمركزها حول ذاتها وكذلك الأنا الشرقي في عبادته لأقنوم الماضي يقول بيرك بهذا الصدد "فإذا كانت العالمية لا ترد ولا تختزل في النماذج الأوربية خاصة والغربية عامة سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية، فإن الخصوصية التي أفرزتها ظاهرة التخلص من الاستعمار لا يمكن أن ترد أو تختزل في الماضي، وفي التمسك الأعمى به" .
يمكن القول من خلال هذه القراءة الأولية لهذا الكتاب الجديد المعنون بسوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك للأستاذ حسن المجاهيد أنه لا يمكن الوقوف على أهم الأفكار في الكتاب من مجرد قراءة أو قراءتين لأن الكتاب هو تكثيف وتحليل وعرض واف حول شخصية علمية وصمت الفكر السوسيولوجي والأنثربولوجي المغاربي وخاصة المغرب دون أن يعطاها حقها من الدرس والتحليل .وكتاب حسن المجاهيد اليوم هو بمثابة اعتراف يأتي من المغرب العميق ومن جامعة القاضي عياض حيث يدرس الأستاذ الباحث ليعيد الاعتبار لهذه الشخصية التي ترجمة القرآن ودرست الذات العربية بعيدة كل الاحكام المسبقة المثقلة بالمركزوية الغربية كنموذج واحد ووحيد للمعرفة بل شخصية جاك بيرك ومواقفها السياسية كانت تتحلى بالشجاعة التي من المفترض أن يتصف بها رجل العلم لكي يظل مميزا عن رجل السياسة ففي أحايين كثيرة كانت مواقف جاك بيرك تنتقد الادارة الاستعمارية بل نتيجة ذات المواقف أبعدت جاك بيرك من العديد من الامتيازات التي كانت تمنحها السلطات الاستعمارية ورغم ذلك ظل جاك بيرك مستمرا في الدرس والتحليل مؤكدا أنه لفهم الاجتماعي لابد من الانطلاق دائما من المعيش الجماعي مركزا على الرموز والدلالات التي يعطيها أفراد جماعة معينة لفعلهم الاجتماعي فهنيئا للمكتبة العربية بهذا الكتاب الجديد.

المراجع المعتمدة في صياغة المقالة

حسن المجاهيد ،سوسيولوجيا العالم العربي لدى جاك بيرك،مؤسسة افاق ،الطبعة الأولى2012
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع
نفس المرجع




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !