سور برلين.. وأسوارنا العالية
بقلم: خليل الفزيع
احتفلت ألمانيا مؤخرا بالذكرى العشرين على انهيار العزلة بين شطريها الغربي والشرقي، ففي التاسع من نوفمبر 1989 أقدم الألمان على هدم سور برلين الذي كان أكبر شاهد على الصراع بين الشرق بقيادة المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي والغرب بقيادة المعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، ولم يمض على انهيار ذلك الشاهد التاريخي إلا أحد عشر شهرا حتى استعادت ألمانيا وحدتها الشاملة، لتثبت للعالم فشل المعسكر الاشتراكي في التصدي لزحف النظام الرأسمالي، ولتسدل الستار على آخر فصل من فصول الحرب الباردة، تلك الحرب التي تركت آثارها على السياسة الخارجية الألمانية طيلة العقود الخمسة السابقة لهدم السور المشئوم، ورغم أن الوحدة تمت ببعديها القانوني والسياسي على أكمل وجه، إلا أن البعدين الاجتماعي والاقتصادي للوحدة مازالا مثار بحث وجدل في الأوساط السياسية والاقتصادية الألمانية.
وفي فيلمه (وداعا لينين) إنتاج 2003 يقدم المخرج الألماني فولفانج بيكر قصة الآثار الاقتصادية والنفسية والاجتماعية السلبية التي أفرزها هذا التحول المفصلي في تاريخ ألمانيا الحديث، وأحداث الفيلم تروى من وجهة نظر ابن يقدم حكاية أسرته، وهي حكاية تدور أحداثها حول أم لطفلين تعاني من تسلط الحكومة الاشتراكية عليها بعد هروب زوجها إلى ألمانيا الغربية، ولا تجد حلا لهذا التسلط غير أن تظهر أنها من أشد المؤيدين للاشتراكية، وتبعا لذلك تقوم بالدفاع عن النظام الاشتراكي وعن رموزه، ولكنها تقع في حالة مرضية تودي بها للغيبوبة إثر مشاهدة القبض على ابنها في مظاهرة سلمية ضد الاشتراكية، وتستمر الأم في حالة الغيبوبة شهورا طويلة ينقلب فيها الحال في ألمانيا فيسقط سور برلين وتتوحد وتتوحد البلاد معلنة بداية عهد جديد من الحرية، وتبدأ الرأسمالية بالتوغل داخل ألمانيا الشرقية، وتفيق الأم من مرضها، ولكن صحتها تبقى ضعيفة مما يضطر الابن بالتفكير بما قد تعانيه أمه من انتكاسة مرضية، لو علمت أن ما كانت تؤمن به قد ضاع، وأن رموز الاشتراكية قد ماتت أثناء غيبوبتها، فيقوم بتدبير خطة مع أخته وجيرانه، لإقناعها بأن الوضع كما كان عليه قبل غيابها، وأن شيئا لم يتغير، تتتابع الأحداث الكوميدية في محاولات إخفاء الابن كل ما قد يضر بصحة أمه، فيبدأ بتسجيل أخبار مزيفة ويذيعها لها بالفيديو على أنها بث حي وغير ذلك من الأفكار التي تعلم الأم كذبها في نهاية الأمر.
قصة الفيلم تعني أن السور ظل قائما في عقل الأم رغم هدمه، وهي حالة قد تعيش مع بعض الناس الذين يكذبون الواقع ويعيشون في الأوهام، ويعتقدون بغير ما يعتقده غيرهم، ظنا منهم أنهم على صواب فيما يذهبون إليه من ظنون هي بعيدة عن الواقع، ويأتيهم الدليل تلو الدليل أنهم على خطأ ومع ذلك يصرون على مواقفهم المتعنتة، ولا يريدون التخلي عنها أو حتى التفكير فيما هو واقع، فالخيال قد وضعهم في قمقم لا يريدون الخروج منه، يقفون في وجه التاريخ ولا يعترفون بالمتغيرات، بل يحاربونها نكاية بمن يعترف بها، والصحيح أن موقفهم هذا هو نكاية بأنفسهم قبل أن يكون نكاية بغيرهم، وإذا استيقظوا من غفلتهم ـ هذا إذا استفاقوا ـ فإنهم في غالب الأمر لا يملكون تحمل الصدمة النفسية التي يعيشونها في ظل الواقع، وهي صدمة قد تؤدي إلى انهيار نفسي أو عقلي يصعب علاجه، وقد يكون انهيارا مدويا أشد من انهيار السور نفسه، عندما ينتهي بأصحابه إلى المصحات والعيادات النفسية والعقلية.
وهؤلاء الذين يعيشون أحلاما تربطهم بالماضي بحبال لا تنفصم عراها، لا يشكلون خطرا على أنفسهم فقط، بل وعلى من حولهم، ممن يملكون تأثيرا مباشرا عليهم، وهذا ما ظهر في الفيلم الذي لم يهتم فقط بالأم المغيبة عن الأحداث بفعل المرض، بل وأيضا كبار السن الذين يعيشون في الماضي رغم ما جلبه لهم ذلك الماضي من ويلات جعلتهم في آخر الصفوف، وعرضتهم للانسحاق تحت موجات الحياة الجديدة، وأصبحوا كمن يعيش على كوكب آخر، فلا الماضي أنصفهم ولا الحاضر اعترف بجمودهم ورجعيتهم.
هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى الدول، فلا تزال الهوة سحيقة بين دول فقيرة تحصن نفسها بالريبة والشك في كل جديد قادم من الغرب، ودول غنية تحتكر التكنولوجيا ووسائل التقنية الحديثة حتى لا تقع في أيدي من يريدون اللحاق بركب التقدم، وكلا الموقفين لا يخدم المصالح المشتركة، ولا يسهم في تقدم البشرية وازدهار العالم، السور المادي ينهار، لكن هناك ألف سور وسور معنوي لا يزال قائما في نفوس بعض الأفراد، وفي سياسة بعض الدول، وهو أمر على العالم بمنظماته وهيئاته المختلفة أن يعيد النظر فيه، إذا أريد لهذا العالم تقدما تشارك فيه كل الشعوب، وازدهارا تستفيد منه كل دول الشمال والجنوب على السواء.
جريدة الشرق القطرية . الأحد 15/11/2009
التعليقات (0)