أفق مسدود بكل ما للكلمة من معنى في سوريا، الأوضاع الميدانية والسياسية في حالة شبه ساكنة وحالة مراوحة، ما خلا حجر يلقى هنا أو هناك بين الفينة والأخرى مطلقا بعض الأمواج الدائرية التي غالبا ما تفنى قبل أن تصل إلى أي شاطئ أو تحدث أي أثر.
ميدانيا تتلون الخريطة السورية بألوان جديدة مع حركة المد والجزر عقب افتتاح كل معركة أو شن أي حملة من هذا الطرف أو ذاك، فلا ثبات على الأرض ولا ثبات لحركة التلوين التي صرنا نمتلك فيها خبراء بارعون في رسم حدود السيطرة المتغيرة حتى على مقياس 1:100، ويتواصل السجال والحراك والتلوين كلما شعر اللاعبون من خلف الحدود برغبة في التغيير. وما أن يتحرك لاعب حتى يثير شهية لاعبين آخرين للتحرك أو التحريك المضاد، وبذلك ينكسر الجمود المؤقت وينتهي عهد السكون وتستمر المراوحة.
لسنا نتباكى على الشعب السوري فهو منذ اليوم الأول اختار وأعلن انحيازه واصطفافه إما للثورة أو للنظام، وبات الفرح والألم ديدنا يوميا أو ساعيا، وأحيانا على مدى الدقيقة الواحدة والدقيقة التي تليها مع توارد الأخبار الميدانية للمعارك أو القصف والاعتقال والخطف والنزوح والتهجير.
فما أن يفرح الناس في شارع الثورة بانتصار أو بتحرير منطقة أو قرية حتى تأتي بعدها أنباء القصف الانتقامي من المدن والبلدات المجاورة، أما قائمة الضحايا التي تضم العشرات يوميا بفعل طائرات وقصف النظام وحلفائه فالمشاعر حيالها تنتمي إلى ما فوق الألم وما بعد الكارثة. وبالمقابل، عندما يفرح شارع النظام بالاستجابة لمطالبه بإبادة المدن والقرى بالكيماوي والنابالم والصواريخ البالستية والقنابل الحارقة والفوسفورية، مع أنه طالب بالذري والنووي، حتى تأتيه مواكب النعوش المغلفة بالعلم الأحمر، وما أن يفرح بزيارة مسؤول حامل تكريم القيادة وأنواط الشجاعة حتى يخيب أمله أن التكريم لا يعدو عن كونه علبة محارم أو معسّل وصورة تذكارية للنشر على صفحة فيسبوك.
أما سياسيا، فحدث ولا حرج والوضع مطابق لعصفورية.. اللاعبون الكبار متشبثون بثنائيات طرفية حدية غير قابلة لأي وسطية أو ربما لهول المسافة بين الطرفين إلى درجة أن المنتصف بعيد جدا عن أي من الطرفين إلى حد السنين الضوئية، فطرف يؤيد النظام ويدعمه بالمطلق وحد الموت، وآخر مساندته للمعارضة فوق كل اعتبار وغير قابلة للنقاش.
ومن يعتبر أن النظام نظامين: أحدهما مجرم لايمكن البتة القبول به، وآخر لم تتلوث يداه بالدم مستثنى من الأول ويمكن أن يكون شريكا في مرحلة انتقالية، لا يجد موافقا له ولا يجد سبيلا لتطبيق تقسيمه واستثنائه، كما أنه تحول من هيكل سياسي عسكري أمني موحد إلى جزر يهيمن عليها عسكريون ومسؤولون فاسدون يحكمون امبراطوريات مالية ويقودون ميليشيات مسلحة ولديهم مناطق نفوذ ذات حدود ومقرات وموارد.
أما المعارضة، فحدث ولا حرج، فهي مقسمة إلى سياسية وعسكرية، والسياسية ألوان وشذرات تبدأ بالعدناني والجولاني ولا تنتهي عند نيازي وكريدي، مرورا بالإخوان والمنشقين والكرد.. عشرات الأحزاب والتجمعات، وكل يرى نفسه ويراه داعمه الأولى بسوريا وشعبها، ليس هذا وحسب، بل ويرى الآخرين ومن يقف خلفهم ويدعمهم خونة وعملاء وأعداء له وللوطن. أما العسكرية، فهي نسخة "طبق الأصل" عن السياسية بل أخطر، حيث لامجال للحوار حتى وإن بلغ حد أقذع السباب، فـ"الغلطة بفورة" وكل من لا يحمل نفس الراية عدو أو عدو محتمل يخشى منه أكثر ممن يتخندق في الطرف الآخر.
محللون كثر تناولوا ويتناولون هذا الواقع ربما كان آخرها ما عدده مراسل صحيفة "يو إس إي توداي" الأمريكية للشؤون الخارجية "أورين دوريل" من أسباب تؤخر أي حل قريب للأزمة في سوريا ووضع حد للقتال وبدء عملية سياسية، وهي أن البلاد مقسمة بشكل يتعذر إصلاحه، وأن لاطرف قوياً بما يكفي لهزيمة الطرف الآخر، وأن التدخل الأجنبي يعمل على إطالة أمد الصراع، بالإضافة إلى أن التنظيمات المتطرفة كداعش والقاعدة يعقدان كل شيء (متجاهلا أو ناسيا الميليشيات الإيرانية والكردية أو ربما يراها قابلة للحوار أوتتقبل الحل الوسط)، وأن "المرحلة التالية" لتوقف الحرب ليس ثمة اتفاق دولي عليها.
والمواطن السوري يعي ويعيش هذا الواقع أيا كان تخندقه وأيا كانت فاعليته أو سلبيته في هذا الفضاء المضطرب، ولايرى فيه أي ثغرة قد تؤدي إلى أي مخرج أو نهاية، ومهما كان بعده عن الأحداث، ومهما كان انشغاله بـ وتركيزه على شؤونه الخاصة فهو ملتصق بهذا الواقع ويعاني منه ومعني بحل ونهاية تبدوان خلف حدود الأفق المنظور وربما لا وجود لهما حتى الآن وإلى حين بعيد.
عبد الرحمن ربوع
كاتب وصحفي سوري
التعليقات (0)