من الواضح أن ما تشهده سوريا من أحداث لن يجد نهاية قريبة. فبالرغم من سياسة القمع التي يواصل النظام السوري انتهاجها منذ بداية الحراك الشعبي في بلاد الشام، فإن عزيمة المتظاهرين لا تزداد إلا قوة و صلابة. و بالرغم من أن الشعب السوري يواجه مصيره بمفرده في ظل صراع المصالح الدولية الذي يحول دون اتخاذ قرارات زاجرة بحق النظام، فإن تواصل مسلسل التقتيل و الترهيب ضد المتظاهرين و بعض رموز المعارضة لم ينجح في إخماد لهيب الثورة حتى الآن. و لا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانية نجاح الآلة العسكرية للبعث الحاكم في إفشال هذه الثورة.
خلال الأشهر الأولى للثورة، و في إحدى خرجات بشار الأسد أمام البرلمان السوري، شدد الرئيس على أن ما يحدث في البلد هو " قضية وطن و ليس قضية دولة". و ذلك في سياق السمفونية المعتادة التي يرددها نظام " الممانعة " في كل وقت و حين، والتي بموجبها يتم تجريم الحراك الشعبي في سوريا و اعتباره مؤامرة مدبرة تستهدف قوى" المقاومة " و تخدم المصالح الإسرائيلية و الأمريكية من خلال العمل على تفكيك المنطقة و إضعاف دولها. و الواقع أن إقرار الأسد بأن ما يجري يتعلق بمستقبل الوطن أكثر مما يرتبط بمستقبل الدولة، هو تعبير صحيح. و لا نختلف عنه، و إن كان كلام الرئيس السوري يندرج ضمن لغة الشعارات التي لم تعد تخدع أحدا. ذلك أن الخطر في المشهد السوري لا يحدق بنظام الأسد فحسب، بل يحيط بمستقبل البلد برمته. غير أن النظام الرسمي هناك يريد أن يضع نفسه في كفة، و يضع الوطن في كفة أخرى. هذا النظام لا يمل من تكرار نفس الخطابات التي ظل بموجبها يكتم على أنفاس الشعب لمدة طويلة. تلك اللغة التي ترهن مصير البلاد و العباد ببقاء شخص السيد الرئيس الملهم و مالك مفاتيح الأمن الإستقرار . و تلك هي اللغة ذاتها التي يتقنها النظام الرسمي العربي على العموم. و التي استخدمها الرئيس الليبي السابق معمر القذافي بنفس الإصرار و الغلو عندما كان يصف الشعب الثائر بأقدح الأوصاف، و يعلن نفسه زعيما لن تهنأ ليبيا بالأمن و الاستقرار بدونه.
نظام بشار الأسد في سوريا يثبت أن أبناء هذه الشعوب المغلوبة على أمرها ليسوا في عرف الأنظمة المستبدة إلا رعايا يخدمون القائد و يطبقون توجيهاته و يسبحون بحمده على كل حال. أو هكذا يراد لهم أن يكونوا على الأقل. لكن موجة الربيع الثوري الهادر خلطت كل الأوراق، و وضعت كل أنظمة المنطقة في مأزق حقيقي. فإما الإصلاح الفوري أو الطوفان. غير أن أغلب هذه الأنظمة لم تدرك بعد أن زمن الوصاية و الحكم القسري قد ولى إلى غير رجعة. و لا يبدو أنها على استعداد للخضوع لإرادة شعوبها التواقة إلى التغيير. و في كل الثورات الشعبية التي شهدتها و تشهدها بعض دول المنطقة، استخدمت الأنظمة القائمة كل الوسائل الممكنة لاستمرارها في السلطة، و بينما نجح الحراك الشعبي في إسقاط ثلاثة من أصنام النظام العربي، يبدو أن آلة القمع البعثية أكثر شراسة من غيرها بالنظر إلى طبيعة الحراك هناك. و لأن سياسة حزب البعث تقوم على العقيدة العسكرية الصارمة، فإن قوافل الشهداء لا تتوقف كل يوم. المهم هو بقاء النظام. أما الوطن فلا قيمة له. هكذا يترجم حكام سوريا رؤيتهم لواقع الحال. و مرة أخرى يثبت هؤلاء أن ما يعلنونه أمام الكاميرات، و ما يتحدثون عنه في اللقاءات الديبلوماسية لا يعدو أن يكون كلام الليل الذي يمحوه النهار. و ربما نجحت الديبلوماسية السورية حتى الآن في تجنب تدويل " الثورة السورية" من خلال الفيتو الروسي الصيني الذي منع استصدار قرار أممي بشأن الموضوع قبل عدة أيام. لكن الأسد مخطئ لا محالة إذا كان يعول على حليفيه في مجلس الأمن. فروسيا و الصين تضعان في اعتبارهما مصالحهما أولا و قبل أي أمر آخر. و موقفهما الذي يبدو في هذه المرحلة مساندا لنظام الأسد ليس إلا ابتزازا سياسيا في إطار لعبة التوازنات الإقليمية، وذلك من أجل إيجاد موطئ قدم هناك بعدما ينجح الشعب الذي يريد إسقاط النظام في بلوغ مراده.
لقد بلغت العلاقة بين البعث و الشعب السوري نقطة اللاعودة. و بات الحديث عن الإصلاح مجرد ذر للرماد في العيون، لكنه رماد لم يعد يعمي هذه العيون، فقد أصبح الجميع يدرك تبعا لتجارب الآخرين و لمنطق التاريخ أيضأ أن الأوطان باقية و الدول إلى زوال... محمد مغوتي.17/10/2011.
التعليقات (0)