2ـ بناء الدولة السورية الحديثة.
إسقاط النظام نصف القرني الذي أوصل سوريا إلى ما هي عليه اليوم, هو المرحلة الأولى لإعادة صياغة تاريخها الحديث, إسقاط تحتمه استحالة الإصلاح للأسباب التي ذُكرناها في الجزء الأول من هذا المقال. إسقاط يعقبه بناء الدولة السورية الحديثة, حيث لم يسبق أن بُني في سورية دولة بمفهوم الدولة العصرية, و بناء الجمهورية الأولى, وليس الجمهورية الثانية أو الثالثة كما يحلو لبعض "الإصلاحيين" أن يعلنوا.
الأنظمة الأمنية القمعية ليست أنظمة قادرة على بناء دول حديثة, ولا جمهوريات, بالمفهوم السياسي للجمهورية. لم يسبق أن نص دستور في جمهورية على جواز توريث رئيس الجمهورية منصبه لابنه أو حفيده. ولم تقم عليه أعراف. ولا عرف التاريخ رؤساء جمهوريات يعدون أبنائهم, طيلة فترة حكمهم, لتوريثهم ليس السلطة فقط, وإنما كامل الدولة, كما تورث المقتنيات الشخصية, وتمنح الهدايا, بعد حكم يدوم عقودا وينتهي بموت المُورّث. لم يقل بذلك فقه دستوري, ولا بررته العلوم والنظريات القانونية أو السياسية, ولا يقبله شعب حر الإرادة. ( إلا في المنطقة العربية, بنت غير عصرها, ولا عصر لها, كانت الرئاسة تُعدّ لعدي صدام حسين من قبل أبيه "فطارت" منه بمقتله, وانهيار كامل نظام أبيه. كما فقدتها ليلى الطرابلسي زوجة بن علي بطريق الفرار من وجه الثوار. وفقدها جمال مبارك بفعل ثوار ميادين التحرير. وفقدها سيف الإسلام بفراره وقتل أبيه. وسيفقدها احمد صالح اليمني بعد تقرير مصير صالح الأب. وحده فاز بها بشار الأسد, سلميا, بعد وفاة المرحوم والده مسجلا سابقة دستورية في الأنظمة الجمهورية). ومع ذلك يتوسل البعض الإصلاح غير مدرك بأننا في تحول عصر.
المرحلة الثانية في صناعة التاريخ السوري, بعد الإسقاط, هو بناء الدولة السورية الحديثة العصرية. التي تستحقها سوريا. وهو هدف أساسي للشعب الذي عاش في دولة أمنية مخابراتية قمعية طيلة نصف قرن, لا تحمل صفات الدولة, ولم تستطع السمو لمرتبتها, فبقيت مجرد أداة عنف وإكراه في يد النظام.
دولة تُبنى بجهود كل أبنائها بلا استثناء, ولكل أبنائها دون إقصاء. دولة مدنية ديمقراطية ( وليس هنا مجال التنويه لأسباب استبعاد كلمة علمانية من قبل بعض القائلين بضرورة إعادة البناء, ولا لطرح السؤال كيف يمكن أن تقوم دولة ديمقراطية دون أن تكون علمانية) ترتكز أسسها على احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.. دولة القانون والمؤسسات, والمساواة بين المواطنين. دولة العدالة الاجتماعية. دولة الدين فيها لله والوطن للجميع.
دولة تحتمي الأقليات الدينية والعرقية من مواطنيها بالدستور والقانون والقضاء, وبسيادة حقوق المواطنة. وتحمي الأكثرية نفسها من نفسها, في كل مرة تحاول فيها الجنوح والتعسف باستعمال السلطة واستغلالها, بالعودة للدستور والقانون والقضاء. دولة يعود الجيش فيها (غير عقائديا) جيشا لحماية الوطن والأمن القومي, لا تدخل في مهامه ملاحقة أبناء الوطن, ويصبح الأمن لأمن الوطن, وليس لقهر وإذلال المواطنين.
دولة, للحاق بركب الإنسانية وحضارتها, تعمل على "قوننة" المبادئ الأساسية المصنفة على أنها مجرد قيم أخلاقية دون قوة إلزامية, بإدخالها في مجموعاتها القانونية, على اعتبار أنها جزء من قيمها .
مثل هذه الدولة لا يمكنها أن تقوم إلا إذا كانت قواعدها هي الديمقراطية. متجاوزة الشعارات واللعب على الكلمات, لتخرج من النظري إلى الواقع المعاش, ترسخها وتحميها آليات فعالة, منها فصل حقيقي للسلطات, واستقلال كامل للقضاء, والتعددية السياسية والحزبية, والتداول على السلطة, وحرية الإعلام والاتصال, ومؤسسات المجتمع المدني الحرة. والنزول برئيس الدولة, المنتخب ديمقراطيا, من القدسية الملائكية إلى المراتب البشرية, وإخضاعه كغيره للمحاسبة والمسؤولية.
مثل هذه الدولة لا يمكنها أن تقوم, إلا إذا كان الشعب وحده صاحب السيادة ومصدرها, ومصدر كل السلطات. حينها فقط يُقطع الطريق على عودة الدكتاتوريات ( ولا تُرفع بعدها الأعلام في الساحات في مظاهرات مسرحية, يُسّخر فيها الآلاف باستعمالهم كقطعان مساندة لسيد الوطن, وكإعلان بيعة دائمة وولاء مطلق (لا يخر منه الماء). وإنما تخرج الملايين, عند الضرورة, لمساندة الوطن وللتعبير عن انتمائها إليه وحده دون شريك له. وتُرفع من الزوايا والطرقات والساحات, التماثيل والصور المليونية, لترتفع رموز الوطن من أبطاله الحقيقيين, ومفكريه ومبدعيه , للتكريم وليس للتقديس والتعظيم. علم واحد, لا يهم مدى طوله وعرضه, مرفوع في مكانه الصحيح كرمز للوطن, تفوق قيمته الأعلام المليونية التي ترفعها وتلوح بها سواعد التبعية. علم يأبى أن يرتفع على الدبابات إلا في حروب التحرير, وليس في حملاتها القمعية لمطاردة طلاب الديمقراطية و الحرية داخل الأراضي السورية). دستور هذه الدولة لا تصوغه لجنة معينة من سلطات يطالب الشعب السيد بإسقاطها.
الكلمة الأولى التي أطلقها مفجرو الثورة السورية, وتستمر معها, و لا تبقى إلا بنجاحها, هي كلمة الحرية. الكلمة "الجريمة" التي هزت أركان الاستبداد وعبدة الأشخاص في الدولة الشمولية القمعية, وهزت خدم السلطان وأحزابه والتابعين, ممن نصبوا أنفسهم أو نُصّبوا قيمين على عقول وقيم ومفاهيم العباد, لمساسها بمفهوم طاعة الحكام والرضوخ لهم. هذه الكلمة, الحرية, وقبل أن تصبح بعد واقعا, هي ما أحيا موات النفوس, وبعث في الملايين الآمال بحياة كريمة, لا يمكنها إلا أن تكون الركن الأساسي الذي تُشيد عليه الدولة السورية المدنية الحديثة, وتكون الروح الحية الخلاقة للجمهورية.
الإنسان في العالم العربي لم يعيش الحرية يوما, نزف من اجلها عبر تاريخه انهارا من الدماء, ولم يعرف لها رائحة أو طعما أو لونا. لم يسمع عنها كما هي, وإنما سمع بالموبقات التي تُلصق بها. ومنها: أنها معادية للقدرية والإرادة اللاهية, وضد التعاليم الدينية ... وهي مفسدة للعادات والتقاليد المفروضة على الإنسان "سهل التوجيه والاستعمال" كآلة بشرية, المبرمج, غير القادر على الخروج عن دوره المرسوم له كفرد, وكعضو في المجتمع, ولا عن رعويته في الدولة, وإلا عاش في تناقض مع نفسه, ونبذه المجتمع, واضطهدته سلطات الدولة. وبالتالي تجلب الفوضى وتفسد على أولي الأمر أمرهم.
الحرية "الموبقات" كما وصفوها له هي: الانحلال الخلقي, والإباحية الجنسية, والانفلات من كل رباط. و عقوق الوالدين, وعدم تقبيل اليدين, ورؤوس رجال لبسوا الدين لبوسا. وهي خروج عن النظام الأمني باتجاه الفوضى, وهي لهاث الإنسان الشرقي للحاق آليا بالمجتمع المتحلل الغربي !!!. فلا تصلح الحرية إذن لأن تكون في أسس المجتمع, ولا في قواعد الدولة.
وهنا لا نريد إيراد كل ما تُوصف به هذه المجتمعات الغربية من تحلل وتفتت وإباحية, وانحطاط, وكأنها تعيش فوضى وغرائز الغاب أخلاقيا, أو ممارسات ما قبل الحضارات والقيم الخلقية.
فقط نلفت الأنظار بالتساؤل: كيف استطاعت مجتمعات بمثل هذه الصفات تشييد حضارات, ومفاهيم قانونية, وأخلاقية, وفلسفية, وقضاء وعدالة, وتضع في الإنسان إنسانيته, وتسعى دائبة مدفوعة بتحقيق رفاهيته وتعزيز إنسانيته, لتجعله يعتز بنفسه وكرامته, كونه مساو لغيره. وكيف ضمنت له حقوقه في الرعاية الصحية والاجتماعية والثقافية. حقوق مخالفتها أو المساس بها مُجرّمة ومعاقب عليها قانونيا. فهي مكتسبات حقوقية ليست حسنات, ولا صدقات ,ولا زكاة, ولا تبرعات, ولا منح, ولا عطاءات, ولا مكرمات, ولا يد عليا تعطي ويد سفلى تأخذ فتحمد وتشكر وتسكت وترضخ وتستر. حقوق بنص القانون, تحمل قوته وإلزامه, توصل إلى إقراراها التنظيم الاجتماعي الحر بضميره الحي الحر, لحفظ إنسانية الإنسان باعتبارها قيمة فيه, وليست منحة تُنزّل عليه.
لا يدوس احد في الدول الموصفة بالمتحللة أخلاقيا, بفعل الحرية, على ظهر مواطن أو رأسه لأنه يطلب الحرية (بدكن حريي). ولا يستطيع رجل امن أن يدخله معتقلا ويخرجه منه جثة ممثل بها, دون أن تهتز عروش وتسقط جمهوريات, وتتحرك الضمائر, وتدين وتستنكر, وتطالب بالعقاب. ولا يمكن للمتحلل أخلاقيا, بفعل الحرية ونتيجتها, أن يقيم تنظيما اجتماعيا وتكافلا يضمن رعاية الإنسان صغيرا وكرامته شيخا كبيرا. كما إن مجتمعات متحللة أخلاقيا بفعل الحرية ونتيجة لها, لا يمكنها التوصل لمبتكرات ومخترعات في كل المجالات, تبين كم هو عظيم الإنسان, لولاها لكانت إلى اليوم الدواب وسائل نقل, والحمام الزاجل وسائل اتصالات, و التداوي بالأعشاب والحجامة طبا لأمراض العصر. ولبقي الطغاة يدفنون شعوبهم تحت الأنقاض (ولا من رأى ولا من سمع ولا من نطق) و و...
لم يصل الإنسان الغربي إلى ما هو عليه اليوم لأنه من طينة فوق بشرية, وإنما لان توفرت له الحرية, وارتفعت عن عقله وفكره الوصاية بأنواعها والتبعية, فعمل في كل المجالات بعقل منفتح أوصله إلى الإبداع, وفكر متحرر من الغيبيات والهرطقيات, وبالي التقاليد والعادات. غير مطارد بتكفير أو قمع سياسي وامني. أوصلته الحرية إلى التنظيم الحر لمجتمعه والاختيار الواعي لطبيعة دولته. بنى جيدا دولته فبنته جيدا. (قبل ذلك, وقبل الثورة الفرنسية كان الشعب في النظام السياسي الفرنسي يُسمّى "الآخرون" تمييزا له عن الطبقتين المحظيتين: الطبقة الحاكمة. وطبقة النبلاء والإقطاعيين والكهنة. فهو الحالة الثالثة "الآخرون". عرّف سييز رجل الثورة البارز عام 1789 الآخرين ومطالبهم بثلاث جمل: "من هم الآخرون؟. هم الجميع. من هم في النظام السياسي؟. لاشيء. ماذا يريدون؟. أن يصبحوا شيئا". الآخرون في النظام السوري لا شيء. بعد الثورة,"ثورة المطالبة بالحرية والديمقراطية", لا يريدون أن يصبحوا شيئا فقط, وإنما في اصل الأشياء وصُنّاعها). ( وفي ليبيا يا لغرابة الأقدار !!!, بعد عقود من "عصر الجماهير" سأل القذافي "الآخرين" شعبه الثائر ضده, النكرة عنده: من أنتم؟. من انتم؟. وشن عليهم: ثورة. ثورة . ثار وأبناؤه على "الآخرين" ولكن أية ثورة!!!).
قد يقول البعض ولكن بعض الدكتاتوريات وصلت(ليس عندنا بطبيعة الحال) إلى تقدم علمي واختراعات وابتكارات دون حاجة لحرية, ودون أن يكون توافرها شرط أساسي لصنع المعجزات. صحيح بعض هذا, فقد أقاموا صناعات وابتكارات, عسكرية بشكل خاص, على جهد الإنسان الآلة, دون حرية وديمقراطية وحقوق إنسان, ومجتمعات شبه عسكرية ومليشية, وعلى ذلك بُنيت نظريات تتحدث عن الحريات الوهمية والمساواة الشكلية, والحقوق والقيم البرجوازية. وصحيح إن الإنسان الآلة نفسه, أبدع وأنجز واخترع, ولكن كانت أروع اختراعاته, واهم ابتكاراته التي يعتز بها, هي وسائل الخروج من آليته تلك ومن عبوديته, إلى الإنسان الباحث عن حريته, لاستعادة إنسانيته, وإعادة بناء مجتمعه ودولته على أسسها. وكانت النتيجة ثورة الإنسان على هذه الدكتاتوريات, والإطاحة بأنظمتها, وبأصنامها, لتأكيد أسبقية آدميته.
دون استدعاء هذا إلى الأذهان, ونحن نتهيأ للحاق بركب البشرية, (وهو ما دعانا إلى هذا الاستطراد في العرض) وتحرير العقول مما علق بها خلال نصف القرن الأخير من تشوهات. ودون الاهتمام, كأولوية, بإعادة بناء إنساننا, لا يمكن الحديث عن إقامة الدولة المدنية الديمقراطية السورية وجمهوريتها الأولى. فالإنسان الحر هو الوسيلة في هذا البناء, وهو الغاية لكل بناء.
الدولة الديمقراطية لا تقوم فقط على صياغة دساتير وإقامة مؤسسات, وفصل (شكلي) للسلطات, واعتراف (شفهي) بحقوق الإنسان والحريات, واستقلال القضاء, (الدستور السوري الحالي مرصع بمثل هذه الجمل. ولكن الواقع, كما جاء في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789, أن ليس لأي مجتمع الادعاء بوجود دستوره لديه, إن لم تكون فيه الحقوق مضمونة ومصانة, وليس فيه تحديد واضح لفصل السلطات.) وإنما بإيجاد أللآليات الفعالة للتطبيق وللتنفيذ والرقابة والمحاسبة.
بناء الدولة المدنية على القيم والمعايير الديمقراطية, وإيجاد آليات الحماية لها, وإعادة بناء الإنسان لنفسه معها و بها, خطوة أساسية, بين خطوات غير منتهية, لصناعة التاريخ السوري وكتابته بأبجدية عصرية, بأدوات لم يسبق له أن كُتب بها.
كم هي طويلة وشاقة تلك المهام, وكم هي رخيصة من أجلها الأثمان.
إسقاط نصف القرن المظلم من تاريخنا بما حمل, ليس إلا البداية لصنع تاريخ مُشرّف, ومستقبل مفعم بالأمل.
د.هايل نصر
التعليقات (0)