مواضيع اليوم

سوريا تعيد صناعة تاريخها

د.هايل نصر

2011-10-19 06:49:28

0

بلد تستمر فيه شامخة أقدم حاضرة مسكونة عرفها التاريخ, وفيه ظهرت أقدم أبجدية عرفتها البشرية, وفيه تكونت اعرق الحضارات, ونزلت وتعايشت وتآخت الديانات. عراقة تاريخ. حاضنة حضارات. مهبط وتآخي ديانات. إنها أرض سوريا. (لا نقولها نحن, يقولها التاريخ).
  حين يعيد هذا البلد صناعة وكتابة تاريخه لا يبدأ من العدم, ولا يُغرق في القدم. يستوحي من تاريخه عبره ودروسه. ويعيد صنعه بمفاهيم العصر, مفاهيم القرن الواحد والعشرين. يكتبه بأبجدية ولغة القرن الواحد والعشرين. صناعة وكتابة لا تعاكس مسيرة التاريخ. لا تعيقها. لا تتنكر لحقائق أنتجتها العصور وطورها قرننا الحاضر. السوري الحر من مهرة الصناع والمبدعين. ومن كبار الكتاب الفنانين.
وحتى لا نذهب في التاريخ السوري بعيدا ــ ليس هدف هذه السطور عرض التاريخ - نكتفي فقط بالإشارة لنصف القرن الذي أعقب الاستقلال. نصف قرن قُدّر له أن يُصنع صناعة رديئة و مزيفة, دون أن يكون للسوري الحر صانع الاستقلال أو ابنه أو حفيده, دور أو يد في الصناعة أو الكتابة. دون أن يُستشار. دون أن يكون أمامه أي خيار. (في تاريخ كل الشعوب فترات بؤس وانحدار, وسرقة ثورات, وقتل وإقصاء للثوار).
السوري الحر في ثورته السورية الكبرى الأولى صنع تاريخ سوريا الحرة المستقلة. صنعه بالتضحيات الجسام فدحر الاستعمار, وجاء بالاستقلال وكتب صفحة مشرقة في تاريخ سوريا الحديث.
على أحلام التحرير والحرية والاستقلال, بدأ يضع اللبنات الأولى لتشييد دولة جديرة بنضاله وتضحياته. أحلامه وأماله كانت واسعة بسعة الوطن وامتداداته ومكوناته. شعب واحد واحد الشعب السوري واحد. بهذا هتف الشعب, وهتف المكان أينما كان. (عودة سوريا حينها إلى التاريخ كانت من أوسع أبوابه. عودة المنتصر).
في بداية الاستقلال كانت التعددية, الفكرية والحزبية, وليدة زمانها وبظروف زمانها. وكانت بداية الديمقراطية, بمفهوم زمانها وأدوات زمانها. تعددت الصحافة وحرية الكلمة, وازدهرت الثقافة, وكان أساتذة الجامعات غير من نراهم اليوم على الشاشات يبثون ثقافة الكذب والمهاترات. ولم يكن قد ولد بعد مثقفو ووعاظ السلطان. برلمان من واقع عصره، منتخب انتخابا حرا ليمثل الشعب لا ليهتف قياما للرئيس, أو لمجرد ذكر اسم الرئيس. لم ينفصل عن شعبه ويخون دوره لينظم كليا للرئيس.
جاء العسكر, و العسكر أينما حلوا يشيدون حصون وقلاع الدكتاتوريات وينشرون الاستبداد والفساد. تتالت الانقلابات والانقلابات على الانقلابات. إلى أن جاء أخرها, الأشد غدرا واستبدادا وفسادا وقهرا, وأطولها عمرا. نصف قرن من اضطهاد وقمع وفساد يقع على الدولة والمجتمع والفرد. نصف قرن من ظلام وليل متواصل. (ليل أين منه ليلة امرؤ القيس التي أناخت عليه لتبتلي, ففاض شعره بمعلقته الخالدة.
آلا أيها الليل الطويل آلا انجلي      بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه            بأمراس كتان إلى صمّ جندل
كم من المعلقات كان عليه أن ينظم من شعره لو استمرت ليلته تلك نصف قرن, وفي جاهلية أين منها جاهلية عصره؟).
إعادة السوري لصنع تاريخه الحديث وكتابته تتطلب منه فعلين رئيسين:
1 ـ إسقاط نصف قرن من نظام حرف التاريخ عن مساره.
2ـ بناء الدولة السورية الحديثة على قيم الحداثة. (موضوع المقالة القادمة).
1ـ إسقاط النصف قرن الأخير من التاريخ السوري إسقاطا كاملا من الواقع ومن الأذهان. نصف قرن صنعه نظام واحد. وأراده أوحد إلى الأبد.
إسقاط النظام النصف قرنيي هذا هو بداية بناء التاريخ السوري الحديث. يبدأ التاريخ بالإسقاط لا بإصلاح. فلا يمكن إصلاح ما هو غير قابل للإصلاح.
يمكن قبول الحديث عن الإصلاح دون إسقاط النظام إذا أعاد النظام إصلاح ما دمره وأفسده من نصف قرن والى اليوم. يمكن القبول بالحديث عن الإصلاح إذا أعاد عشرات آلاف الأرواح التي أزهقها خلال نصف قرنيته لأصحابها. وأعاد الحياة لشهداء ثورة "الموت ولا المذلة". يمكن قبول الحديث عن الإصلاح إذا ما استطاع تضميد الجراح, وأعاد لعشرات الآلاف من المعتقلين المفرج عنهم بعد عشرات السنوات, ولمن ما زالوا في السجون المعتقلات, شبابهم الضائع وصحتهم الجسدية والنفسية ورفع عن ذويهم معاناتهم ومآسيهم. يمكن قبول الحديث عن الإصلاح إذا ما أعاد الآلاف ممن نزحوا في موجات خوف إلى تركيا ولبنان والأردن معززين مكرمين وعوضهم ماديا ومعنويا عما لحق بهم دون ذنب منهم. وأعاد للديار, التي أصبح العديد منها مجرد أطلال وآثار, المهاجرين طوعا أو خوفا, طلبا للحرية والكرامة واللقمة الشريفة في كل أصقاع الدنيا.  يمكن قبول الحديث عن الإصلاح إذا رفع اسم سوريا فعلا من قوائم المنظمات الدولية المتخصصة التي تضعها في "مؤخرة" الدول الأكثر تخلفا وفسادا في عالمنا هذا. يمكن قبول الحديث عن الإصلاح إذا أعُيدت جامعة دمشق لما كانت عليه قبل الانحدار المتواصل. يمكن قبول الحديث عن الإصلاح إذا لم يعد بإمكان المرتشي في قمة السلطة وقاعدتها يطلب الرشوة علنا بعظمة لسانه و يفرضها فرضا. يمكن القبول بالحديث عن الإصلاح إذا ما عاد مخلوف أكثر قليلا مما كان, واقل بكثير ما هو عليه الآن. يمكن القبول بالحديث عن الإصلاح إذا قبل المؤمن أن يلدغ من جحر مرتين. أو إذا وقع الحمار في نفس الحفرة مرتين.
كيف يمكن إقناع مستبد نصف قرني, بميراث استبداد نصف قرني, بان ابسط أوليات الإصلاح هو ترك السلطة حين الاستحقاق, والإيمان بالتداول على السلطة (بالانتخابات لا بالوفاة), وبان السيادة ليست له, وإنما كاملة للشعب, والشعب هو من ينتخب بحرية واردة حرة ممثليه لممارستها. وبان القانون فوق الجميع ولا يعلو على أحكامه أحد, ولو كان زعيم (بوزن زعمائنا).
يمكن ذلك لو كان بإمكان احد إقناع نيرون بان لا يحرق روما.  أو بإقناع زين العابدين بن علي أن يفهم شعب تونس قبل نصف ساعته الأخيرة في الحكم (حين وقف يقول بصوت مرتجف لا رئاسة مدى الحياة وكأن شعبه يطالبه برئاسة مدى الحياة ويرفضها هو زهدا. "فهمتكم" فهمت الجميع. جاءه الفهم متأخرا 23 سنة فقط). أو كان يمكن لأحد أن يقنع مبارك بضرورة الإصلاحات الجذرية, وان مصر غير قابلة للتوريث. أو القذافي بأنه ليس مفكرا ولا عبقريا, وان كتابه الأخضر لا علاقة له بعالم الكتب. وبأن لا يجب أن يحرق ليبيا كما كان ينادي في أيام جنونه الأخيرة وبأنها ليست لولده من بعده.
أو أن يقنع عقل مثل عقل عبدا لله صالح تربى على الاستبداد والفساد وفنون الخداع القبلي والإيمان بتوريث الأبناء والأقارب, بان في اليمن أيد أمينة ونظيفة أكثر من نظافته وعقول متفتحة, وأفكار حرة, ونساء تحصل على جائزة نوبل للسلام.
من يمكنه أن يقنع ابسط رجل امن في سوريا إن للإنسان السوري كرامة وعزة نفس وبأنه مبدع حضارة وناقلها ومبدعها, وبأنه لا يجب أن يسجد لغير الله, ولا يجب أن يُذل أو يهان, ولا يداس ظهره ورأسه بأقدام بربرية. فكيف والحال هذا يمكن إقناع معلميه من عتاة رجال الأمن والجلادين بأنهم خارج كل اصلاح؟.
لم يعرف النظام السوري منذ 42 عاما رجال سياسة, ولا حكم سياسة, وإنما رجال امن مهما كانت خلفياتهم, مدنية أم عسكرية. منهم من شغل مناصب سياسية وتصرف بها بعقلية الأمن, وليس بفن السياسة ومقتضيات المصلحة الوطنية, التي تقتضي إستراتيجية لبناء دولة عصرية على غرار الدول في قرننا الحالي. ومنهم من تولى مناصب أمنية بحتة وتصرف بها بوحشية قل نظيرها, لخدمة النظام وحمايته وقهر المواطن, كأولوية, بعيدا عن امن الدولة بكل ما تعنيه كلمة امن في الدولة الحديثة.
هل يمكن لنظام بهذه العقلية وهذه الممارسات القمعية والفوقية, التي لا يمكنه استبدالها ولو أراد, أن يصدق في حديثه عن الإصلاح والحوار. ويكف في الوقت نفسه عن استخدام كل قوته العسكرية والأمنية ويسلط على مواطنيه قطعان الشبيحة, لقتل الأبرياء والمطالبين بالحرية والديمقراطية وبالكرامة الإنسانية. ويعتقل عشرات الآلاف ومن بينهم مفكرين ومثقفين وفنانين وكل من يرى الإصلاح بغير ما يراه؟. هل يؤتمن مثل هذا النظام على حكم بلد؟. على حماية وطن؟. على أرواح وأموال المواطنين؟. أليس كرسي الحكم عنده اثمن من الدولة بكل مكوناتها؟. وهل يدافع عنها ضد عدو إن كان في ذلك خطر على كرسيه؟. هل في هذا تجن؟. أليست تجارب نصف قرن كافية للبرهنة على ذلك؟. هل إذا سقط الخوف والجبن وانتهت المصالح وعاد إلى ضميره الإنسان يمكن أن يقول عكس هذا؟.
هل يمكن, رغم كل هذا, أن يكون الإصلاح بديل للإسقاط الكامل للنظام برموزه وثقافته, والحوار معه مجد لبناء الدولة السورية الحديثة ؟. هل يمكن إعادة ما هو خارج العصر إلى العصر بإصلاحات وترقيعات, وحوار بعقول لا تؤمن أصلا بوجود محاورين أحرار على الطرف الآخر, وإنما عصابات ومندسين وخونة وأشرار؟.
ومع ذلك ــ وتحديا للشعب السوري وتنكرا للإنسان وكرامة الإنسان, والحق في الحياة والحريات الأساسية وحقوق الإنسان, وكل القيم والأخلاق ــ يبقى الإصلاح المزعوم, والحوار, حديثا روسيا وصينيا, حصريّا, ولازمة يرددها بعض "حكماء" الجامعة العربية في اجتماعاتهم الوزارية العادية والاستثنائية, وبعض الزعماء ممن يرون في الصمت المطبق "حكمة", أو من الذين أن نطقوا نطقوا جبنا وكفرا.
بلد تقيم فيه شامخة أقدم حاضرة مسكونة إلى اليوم عرفها التاريخ, وفيه تكونت أعرق الحضارات, ونزلت وتآخت الديانات, أليس جدير بدولة حديثة لكل أبنائه. قادرة على الإسهام في صنع تاريخه, ومتفاعلة من جديد مع الحضارة الإنسانية؟.
2ـ بناء الدولة السورية الحديثة. (المقال القادم).
د.هايل نصر 
 

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات