بقلم/ ممدوح الشيخ
mmshikh@hotmail.com
من القصص المثيرة في الحرب العالمية الثانية قصة الجاسوس السوفيتي ريتشارد سيرج الذي ساهمت برقية أرسلها من اليابان للمخابرات السوفيتية في تحديد مصير الحرب العالمية الثانية، وهو رغم دوره الحاسم لم يجن ما جناه حكام مثل هتلر أو تشرشل أو ستالين أو روزفلت، أو قادة عسكريون مثل الجنرال ماك آرثر أو الجنرال روميل، فالمجد غالبا يجنيه القادة السياسيون والعسكريون، أما رجال الخدمة السرية فتبقى إنجازاتهم في الظل.
وبعد الاجتياح النازي للاتحاد السوفيتي كان الجيش مقسوما إلى جزئين أحدهما يواجه الجيش النازي القادم من الغرب والثاني يرابط في أقصى الشرق ليكون مستعدا لهجوم ياباني محتمل، وفي توقيت حاسم أرسل سيرج برقية يقول فيها إن المصانع التي تزود الجيش الياباني بالملابس تصنع ملابس صيفية، كما أن مصانع الثلج تعمل بكامل طاقتها. وبإخضاع هذه الكلمات القليلة للتحليل رجح السوفييت بقوة أن اليابانيين يستعدون للتوجه إلى شرق آسيا، وبذلك أمكنهم حشد معم قواتهم على جبهة المواجهة مع النازي ما ساهم بنصيب كبير في تحويل مجرى الحرب العالمية الثانية.
وقد كانت الحرب العالمية الثانية منعطفا تاريخيا في مفهوم الصراع وبخاصة لجهة أهمية التقنية والاختراع في معادلات القوة، بل يمكن القول إن هذه الحرب طوت إلى غير رجعة حقبة طويلة من التاريخ البشري كانت القوة فيها مرتبطة بالكثرة العددية، وهو مسار كانت قمته – وبالتالي نهايته – مفهوم "الأمة تحت السلاح"، وبمقتضاه كانت قدرة كل دولة تقاس بقدرتها على حشد عدد أكبر من الجنود، وطبعا قدرتها على تحمل التضحية بأكبر عدد منهم!
وهذا التحول الذي بدأ مع حرب البوير في بداية القرن العشرين نضج تماما بنهاية الحرب العالمية الثانية لتصبح الآلة البطل الحقيقي للحرب، وبازدياد أهمية الآلة ازدادت أهمية الاقتصاد وبخاصة الصناعة، وقد كانت درجة تطور الاقتصاد الأمريكي قياسا بنظيره الصيني هي ما مكن أمريكا من تجنيد ثلاثة أضعاف العدد الذي جندته الصين في هذه الحرب، رغم أن تعداد الصين كان ثلاثة أضعاف تعداد أمريكا.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وميلاد القنبلة النووية أصبح "الردع" مفتاح الأمن. ثم في مرحلة تالية جاءت بعد عقود قليلة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وفيها أصبحت التقنية تصنع الأمن والقوة معا، قبل أن تأتي هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتضع كلا من: الآلة والتقنية والردع، محل شك وتساؤل كبيرين. فالعدو الجديد لم يعد كيانا تنظيميا لدولة يمكن تهديده بتوجيه سلاح نووي إليها، ولا أرضا يمكن حصارها برا أو بحرا أو جوا أو اجتياحها. كما لم يعد قرارا شن الحرب في يد دولة – ديموقراطية كانت أو شمولية – بل أصبح بإمكان حفنة تختبئ في مكان مجهول في بقعة نائية أن تشعل صراعا مع دولة كبيرة تملك مؤسسة عسكرية ضخمة مدججة بأكثر الأسلحة في العالم فتكا وتقدما، فهذه حرب من نوع جديد بين نسقين غير متماثلين ولا متكافئين، وهو تحول آخر في تاريخ الصراع كانت له نتائجه.
وقد جاء المنعطف الجديد بينما المؤسسات العسكرية في العالم المتقدم تنتقل من صنع "الأضخم" إلى اختراع "الأكفأ"، وبينما هذه المؤسسات مزهوة بالمدى الواسع الذي وصلت إليه فكرة الحروب التي يحدث كل شيء فيها بـ "كبسة زر" إذا بها تواجه عدوا جديدا لا يشكل امتدادا لأي ظاهرة سابقة في تاريخ الحروب التقليدية.
ومع التحول الجديد أصبح هناك ضرورة لتغيير مسار التفكير في مستقبل الصراع، فقد طويت – على الأقل لفترة – فكرة نقل الحرب إلى الفضاء لتحل محلها حقيقة أن الحرب انتقلت إلى جبال تورا بورا وشواطئ الصومال القاحلة حيث لا شيء لتنسفه الأسلحة التقليدية ولا النووية!
ومع تغير العدو والميدان والهيكل للخصم كان من محتما تغير استراتيجيات المؤسسات العسكرية، والتغير الجديد لخصه عسكري بريطاني مرموق في عبارات قصيرة لكنها تنطوي على الكثير جدا من المتغيرات.
فبديلا عن التطوير العسكري التقليدي طالب قائد الجيش البريطاني الجنرال ديفيد ريتشاردز بتطوير التجسس مقابل خفض تكاليف التسلح التقليدي كتطوير السفن والطائرات الحربية، وقد اعتبر الجنرال ديفد ريتشاردز أن الصراع القادم هو صراع تقني مخابراتي بالدرجة الأولى، ما يفرض إعادة النظر في الطرق المتبعة في تسليح وتطوير الجيوش لمواكبة التطور التقني، ولتجنب استهداف البنية للدولة.
وحسب الجنرال ريتشاردز فإن هذا ينسحب ينسحب على قوات عسكرية نظامية تابعة لدولة "عدو" مفترضة في المستقبل حيث أي صراع مستقبلي هو استخباراتي تقني بالدرجة الأولى. وقد استخلص الجنرال ديفيد ريتشاردز هذه النتيجة من تجربة الجيش البريطاني في العراق وأفغانستان وهي تجربة تؤكد أن المطلوب ليس تضخيم التسليح التقليدي وإنما الاتجاه نحو حرب التجسس وتطوير طرق اختراق الخصم.
إن الجنرال ديفيد ريتشاردز يختصر بعباراته تلك يحلل ويتنبأ ويخطط ويحذر في آن واحد، فالمعلومات تتحرك من خلفية المشهد إلى واجهته، والآلة أخلت مكانها بوصفها العنصر الفاعل أو الحاسم لتحل محلها المعلومات، وهكذا اكتمل التحول الثالث في تاريخ الصراع: من البشر إلى الآلات، ومن الآلات إلى المعلومات، وكلمات الجنرال ريتشاردز سهم بريطاني يشير إلى المستقبل.
التعليقات (0)