لا ينصف الجزائر, إنصافا كاملا, من يكتب عنها من غير أبنائها, ومن لن يعش فيها حياة كاملة, ومن لم يدخل أعماقها. وأنا لا ادعي مقدرة الكتابة عنها رغم ما كان لي من شرف العيش فيها بعض السنوات, وهي في أوج فرحتها بالنصر والاستقلال, وبداية حملات التعريب, وشرقنا خارج لتوه من الهزيمة الكارثة في 67 19, كنت يومها في ريعان الشباب, والإنسان لا ينسى بلدا كرمه, ولا أماكن وذكريات ريعان شبابه.
من تتح له فرصة زيارة المكتبات الفرنسية سيجد مئات الكتب كتبت عن الجزائر, تاريخيها و مجتمعها ... منها المزور لذلك التاريخ , ومنها المشوه لثقافتها وعادات و تقاليد أهلها, والقليل القليل المنصف لها. حتى يمكن القول انه لم يتم إنصاف الجزائر حتى الآن بقدر ما تستحق, وهي تستحق الكثير الكثير.
عرفت مدنها كاملة, شرقها وغربها, شمالها وجنوبها. طبيعتها المتنوعة بين الساحل, والسهل, والجبل والصحراء وكأنها قارة بذاتها. ثروات طبيعية, وخصوبة أراض واسعة, ومن لم يسمع بسهل متيجة والثروات الزراعية, حمضيات و عنب وفواكه وحبوب. وحول حاسي مسعود وحاسي الرمل, وارزيو معسكرات خبراء البترول والغاز قادمون من كل حدب وصوب. والمركّبات السياحية الرائعة على شواطئها: شرشال, تيبازا, زرالده, عين البنيان ..
كنا بعد العمل نلتقي نحن القادمين من المشرق العربي ــ أو المشارقة كما يَلقبنا أبناؤها ــ في مقاهي العاصمة المنتشرة في كل الشوارع الرئيسة والفرعية, ــ رغم أفكارنا الشرقية جدا عن رواد المقاهي, فهم, كما كان يقال لنا, من العاطلين عن العمل, وأصحاب السوابق, ولاعبي الورق, وإجمالا رواد غير محترمين. بينهم المندسون, من رجال المخابرات المتصيدون ضحاياهم فيها أو انطلاقا منها.
كنا من كل الجنسيات العربية تقريبا. و أحاديثنا في غالبيتها تتلاءم مع أعمارنا المتخطية بالكاد مرحلة المراهقة. لم يكن يعفينا ذلك من مراقبة أقران السوء لنا ــ مدسوسون بيننا, مبعوثون ثقافيون مثلنا!!! ــ لما نقول, أو تقويل بعضنا ما لم يقل, فكان هذا يدخل ضمن مهام نضالهم, المدفوعة بتسعيرة ما وراء البحار. أحاديث المقاهي إياها, والتي لا تزيد عن كونها "طق حنك", موثقة لخطورتها. وعلى توثيقها مرت عقود طويلة, ودالت دول وبقيت هي, وكأن حبرها القاتل من ثبات الأبدية. مات كثير من قائليها و مسجليها ورواتها, وهي باقية حية في سجلات المخابرات العربية, ويحاسب عليها الأحياء, وورثة المنسوب لهم قولها, إلى يومنا هذه في قرننا هذا.
كان جليسنا بعد العمل العم سعيد, في الثمانينات من عمره, حاجب المؤسسة التي ندّرس فيها, ينتظر بفارغ الصبر انتهاء دوامنا ليجلس معنا في الحديقة الصغيرة داخل تلك المؤسسة التي كانت ثكنة عسكرية أيام الاحتلال. العم سعيد من قدماء المجاهدين, يحمل في جسمه أثار تعذيب حضاري وجراح لم يعتذر الفرنسيون عنها بعد, وعما ارتكبوه في كل أنحاء الجزائر. فحقوق الإنسان لا تشمل كل إنسان. كان يحدثنا عن الثورة والثوار وما كان شاهد عيان عليه. وكان زملاؤنا الجزائريون ينظرون خفية لما يتركه ذلك من انفعالات عفوية على وجوهنا. وفي كل مرة كان العم سعيد يختتم حديثه بقوله حظ الاسرائليين إنهم بعيدون عن الجزائر.
من الأسئلة البريئة التي كان يطرحها علينا عندما يسمع أحاديثنا ونقاشنا, الهادئ غالبا, باللهجات السورية والمصرية والعراقية والفلسطينية واللبنانية, أي لغة من هذه اللغات( " الوعرة بالزاف ": الصعبة كثيرا) جئتم تنشرونها في جزائرنا؟. أنا أرى أن تبقى اللغة الجزائرية فهي مفهومة من قبل كل الجزائريين ولا يعيبها شيء. ثم يعلق بحنكة أكسبته إياها السنون: لو كنت في موقع بومدين لطلبت منكم تعلم الفصحى وإتقانها والتحدث بها, ثم انقلوها لنا بعد ذلك " يرحم والديكم". كانت تضحكنا تعليقاته ومداعباته تلك, وكنا ندرك مغزاها, ومنا من يحمر حتى أذنيه, وان تصنّع الضحك. كنا ندرك في العمق مأساة اللغة العربية التي يراد لها أن تبقى في باطن الكتب, وتدرس في قاعات الدروس, و يقفل عليها في أماكن تدريسها. فهي ليست لغة حديث أو خطاب أو استعمال في الحياة اليومية. وكثيرا ما تهتز عظام سيبويه في لحده حين يتحمس البعض من "مجيديها" للصداح بها.
ومن إيمانه بان اللغة العربية هي لغة القرآن كان العم سعيد لا يفهم حقا كيف أن زميلنا جوزيف المسيحي عربي ويتحدث لغة القرآن ومتحمس لنشرها, فكيف يمكن أن يكون المسيحي عربيا ويدافع أكثر من غيره عنها؟ فنشرح له ـــ ونحن من كان يعتقد امتلاك ملكة الشرح والإقناع, بالطرق العربية المعهودة, قليل من المنطق, وكثير من الصراخ, وحركات يدين تسبق حركة اللسان وطلاقته, و تعابير متشجنة, متسارعة ومتبدلة, مسرحها وجوه تعودت التجهم, منذ صباها, حتى عند الضحك و الغناء, أو قراءة أو سماع الأخبار, وزف البشائر. وفي والاسترخاء والاستحمام والصمت والنوم ـــ عن المسيحيين ودورهم في التاريخ العربي القديم والحديث. وفضلهم, الذي لا ينكره حتى غلاة المتطرفين, على اللغة العربية آدابا وشعرا ونثرا, وتحديثها وتطويرها, والترجمة منها واليها. ويلتفت بعدها العم سعيد إلى جوزيف مداعبا: ممكن أن أفهم كل هذا, ولكن ما لا افهمه كيف انك يا جوزيف العربي لا تصوم رمضان.
كنا نلمس الروحية الصافية الصادقة للعم سعيد تنعكس على وجهه في كل مرة لا يكون جوزيف بيننا وكأنه متلهف لرؤيته. كانت قيم المناضل الحقيقي متجسدة في هذا الرجل, تقود تصرفاته. يدافع عن القضايا الحقة, ويهاجم القضايا التي لا يؤمن بها, وفي الحالتين بنبل الفروسية, التي يعترف بوجودها عند غيره مهما كان جنسه ودينه وموقعه. (أتذكر هذا وأنا أرى ثوروجيي ومجاهدي اليوم وأحقادهم المتفجرة, وقتلهم حتى بأشلائهم المتطايرة كل من يخالفهم رأيا , مهما كان دينه أو عرقه أو أصله).
وسأل جوزيف مرة العم سعيد عن المرأة الجزائرية, سؤالا لم يكن في غاية البراءة, فقد أراد أن يعرف كيف كان ينظر لها هو شخصيا ورفاقه في الجهاد و في تلك المرحلة من عمر الجزائر, أي معرفة نظرة المسلمين المجاهدين, وقد أذهلتنا إجابته السريعة التي لم نتوقعها من رجل في مثل سنه: المرأة زوجتي وأختي وابنتي وكل النساء اللواتي كن يحملن إلينا ما نحتاجه من غذاء ودواء وبعض الأسلحة والأخبار, إلى الجبل والى كل مكان تواجد فيه الثوار. ومنهن من قاومن كأشجع الرجال. المرأة فرضت وجودها في الثورة وعلى الثورة. وفرضت احترامها على الجميع. احترام المرأة هو احترام أنفسنا. كانت حرة والحر سيد نفسه ومتفق مع نفسه, ومتصالح معها. يشعر بالمسؤولية ويتصرف بمقتضاها. وانتم في المشرق هل لكم نظرة مختلفة عن أمهاتكم وأخواتكم وبناتكم؟.
رحم الله العم سعيد, وقبله كل شهداء الثورة الجزائرية الذين قاتلوا قتال الأبطال, بروحية وفروسية الأمير عبد القادر, من اجل قضايا عادلة, وشهد لهم بذلك أعداؤهم قبل أصدقائهم. وليعد من يريد التيقن لشهادات جنرالات فرنسيين بالأمير ومن بعده بالمئات من أمثال الشهيد العربي بن مهيدي ورفاقه ممن خلدوا ذكرهم في سجل الخالدين, قاتلوا بشرف المقاتلين العظام ودخلوا الشهادة الحقيقية من أوسع أبوابها.
لم يكن كل الجزائريين في الأيام الأولى للتعريب متفقون على ضرورته, وخاصة من تضررت مصالحهم. كما كان من بين المؤيدين من يعترض بشدة على الاستغلال الرخيص له , ممن نصبوا أنفسهم أولياء على تطبيقه. ومنهم من انصب اعتراضه على الوسائل المتخلفة لتطبيقه: كوادر, رغم حماس وحسن نوايا الكثير منها, غير قادرة على إعطاء المفيدة, لان فاقد الشيء لا يعطيه. وأساليب وطرق تدريس تعود لقرون ماضية, أو لا تعود لأي زمن, مرتبطة عضويا بأنظمة تعليمية وثقافية وسياسية متخلفة, في دول عربية متخلفة, لا تصلح لان تكون نماذج لدولة مستقلة حديثا تتطلع لمستقبل مشرق. وكانت كل القوى الجزائرية المتنورة تتخوف, بعد كل التضحيات, من إقامة دولة جزائرية مضافة إلى دول التخلف والاستبداد, تشكل جزأ من نظام عربي في طور التآكل.
كان هذا في أوج انتصار الجزائر وبداية استقلالها. السنوات الجزائرية بحق وبامتياز. ويومها كانت الخيارات قائمة, والفرص سانحة لدخول التاريخ والعصر, وبناء الديمقراطية و دولة القانون والمؤسسات, وحقوق الإنسان بعد كل ما عاناه إنسانها على أرضها.
قد تضيع الفرص وتُحبط الأحلام. ولكن الشعوب الحية خلاقة فرص, ووحدها صانعة مستقبلها.
د. هائل نصر.
التعليقات (0)