تلحفت عباءتها السوداء وبدا على رأسها خمارها الأبيض ينزاح عنه يميناً أو شمال، حسبما وجهت للنظر عينيها، لكنها في حركة لا إرادية تعيده منضبطاً على رأسها .... وبين جموع الزائرين إتخذت مكاناً لها بينهم قصيّا ...
لم يكُن الصمت والوجوم خياراً للجميع لكنه بدا كقاسم مشترك بينهم، فيما توزعت العيون بين أنّات طفل يستبيح صراخه الصمت في الركن البعيد وضحكات لطفلة تلهو في وسط الغرفة التي بدت في عينيّ فسيحة ومحكمة التنظيم، توزعت على جدرانها البيضاء بضع لوحات بدى واضحاً فيها تأصّل الماضي وحيرة الحاضر وتصارعت فيها ألوان الصيف وبعض ألوان الخريف وتناثرت عليها رسوم الصحراء والبحر وقد بدا أعلاها طائر نورس يشقّ طريقه سابحاً فوق قمم الأمواج وكأنه يترقب في برهة صيد ثمين، وفي الزاوية منها رسمٌ لرجل يلتحف غطاء تقليدي كان واضحاً تدرّج اللون البني عليه فيما بدا وجهه الشاحب مشبّع بالخشونة تشعّ من عينيه نظرات حادّة تملؤها الثقة قد حجب شاربه العريض إبتسامة خجلى ورائحة الصحراء تعبق من ورائه تجرّ أذيال الرياح المسافر على متنها حبات الرمال وحرّ الهجير، فيما كان موج البحر أمامه يتلاطم ثائراً والزبد يعلو هامه كفارسٍ غرّته في الحلم أميرة لقتال آلهة الشواطئ وبدا الموج يصهل مزمجراً عند الوصول ... وعلى الجانب الآخر للجدار صورة أخرى لطفلٍ صغير تعلوها ساعة زرقاء كلون السماء تلتهم في نهمٍ ثوانٍ تخلى عنها الجميع، وبدا الطفل وكأنه يعانق بنظراته الحائرة سماء الساعة الزرقاء مستمعاً لأنين الثواني وهي تلاقي حتفها فيما الجميع منصتاً يأنس لسرب حمام توجه نحو الشمال ... كان الجميع متقوقعاً في صمته على الألم وربما بعض الشجون المخبأة، كانت نظراتي الكسلى تطالع الوجوه تتساءل عن تلك الحكايات وما أخفته تلك الصدور، وعاد الخمار كعادته وهي في مكانها شاردة تراقب الباب في صمت، ومضى الوقت يغتال أسراب الدقائق غير عابئاً بالوجوه، رأيت التململ وسحابة من الحزن تغطي وجهها الأسمر، الذي زحف عليه الزمان فما أبقى غير تجاعيد إستوطنتها منذ سنوات، كانت بين الفينة والأخرى تُلقي بنظرة خاطفة إلى باب الغرفة الرئيسي وكأنها تسائله أمراً ما .. أتراها تنتظر منه جواب؟
وبدأ الضيق ينسج أرديته على وجهها فأسندت ظهرها الى الكرسي وأزفرت وهي تطالع الساعة في ملل ... أتراها إستسلمت للقضاء؟ ... لم تكن سبعة عقود تلك التي مرّت عليها كلّ إرثها في الحياة ... أتراها تعيد حسابات عمرها وما خلدته الأيام في نفسها من نكبات، سبع عجاف ؟؟ أينطبق هذا القول على ما لديها من ابناء؟؟ تتمتم الشفتان " ربي لم أكُن يوماً بغيًة ولا عاقة ولا..."، لكنها لم تُكمل ما بدأته من الأقوال وأسرعت بحروف الإستغفار معلقة نظراتها تطالع سقف الغرفة وكأنها تلتمس من ربها التوبة والرحمة في ما أثمت به الشفتان، انفرجت أساريرها وكأنها اكتشفت في ما جرى نجيّا، سمعتُ بعض الكلمات التي فرّت دون إستئذان من فيها تناجي بها النفس قائلة: "ألآ يقولون أن الله يبتلي من عباده الصالحين ويثيبهم بما عملوا وآمنوا ورضوا جنات ونعيم "وبدا لي أنها ارتاحت لقولها هذا وأرخت على وجهها ستار الإطمئنان، مرددة : "ليكن نصيبك أيتها الروح الباقيات الصالحات".
لكنّها استنفرت نفسها فجأة كأنّما تذّكرّت أمراً مهما، وألقت على الباب نظرة وأخرى على الساعة فعاد الشحوب إلى وجهها، تكوّرت على جسدها المرهق ثم نهضت واتجهت صوب الفتاة العاملة في العيادة تسألها " ألم يأتِ الطبيب بعد ؟" وأردفت" لم أعُد أطيق الانتظار ... لقد تعبـ ..." وقبل ان تتحررّ بقية الكلمة من فيها دخل الطبيب من الباب الذي شردت عنه نظراتها للحظة مسرعاً يتأبط حقيبته ..
التعليقات (0)