فليعذرني الأصدقاء في المعهد المتخصص للتكنولوجيا التطبيقية بمدينة الخميسات على ما اعتبروه تقصيرا مني في تقدير موسم تكويني قضيناه سويا في القاعة 2 من بناية المعهد دون أن أكتب عن ذلك حرفا واحدا ، ولعل "الجلسة" الختامية التي قمنا خلالها بتقييم تلك السنة كانت مناسبة اتفقنا خلالها جميعا على كونها مجرد يوم واحد تكرر بعدد أيام السنة ، وقد وردت هذه النقطة في الجلسة ، ووقع الإجماع حول كون حالة الركود التي عانينا منها طيلة سنة بأكملها هي التي أدت إلى إضعاف الروابط الإجتماعية بيننا ، حيث لم يبرز القسم كوحدة منسجمة ، بل انقسم المتدربون حول بعضهم في مجموعات ، حتى أنني وأنا أخط هذه الحروف ، بعد شهرين من نهاية الموسم التكويني ، أجد نفسي لا أكاد أذكر سوى أسماء الزملاء المقربين ، ربما قد يكون ذلك خطأ شخصيا وقعت فيه لأني كنت طيلة الموسم شاردا ، لكن من خلال ما تداولناه فقد اتضح فعلا أن إرادة المسؤولين عن تسيير المعهد بتحويله إلى ما يشبه الثكنة العسكرية كانت أقوى ، كيف ذلك ، لقد قررت أن أكتب في بضعة أسطر أشياء بقيت عالقة في ذهني ، رغم اني أحاول جاهدا محوها وهي بالفعل في طريقها إلى زوال لأني لن أعود مطلقا لتلقي دروس تسيير المقاولات ، فقد اقتنعت بشكل لا رجعة فيه أني لن أكون مقاولا ناجحا ، ومن المستحيل على دماغي أن يستوعب هذا الكم الهائل من المعلومات المتعلقة بفنون التسويق والمحاسبة ونظام الضرائب وغيرها..، ولا شك أن الزملاء والزميلات كانوا قد لاحظوا كيف أنني لم أستطع فهم أبسط الدروس وأيسرها على الإستيعاب ، بكل بساطة ، لأن الأستاذ الجديد أو الأستاذة حين يهمون بالشرح أكون شاردا غير قادر على الفهم ، لماذا؟ لقد سألت نفسي مرارا وأجلت الإجابة عن ذلك إلى حين انتهاء الموسم حتى لا اقول أني عاجز عن قلب طريقة تعايشي مع العالم من الحروف إلى الأرقام ، ثم إني علمت قبل شهر أن مستقبلي قد حسم في مجال اخر كنت أتمناه منذ الصغر.. إذن لا بأس من القول : وداعا أيها المعهد السيء الذكر.. أجل إنه كذلك سيء الذكر ، أولا لأني لم أفهم شيئا ،ولم أستفد من شيء باستثناء تلك الأوراق التي كنت أدسها وسط الكراريس المقاولاتية ، والتي كنت أقرأها أثناء إلقاء الدروس من طرف الاساتذة . أذكر مثلا أن حصص درس "التسويق" الطويلة والمملة استغللتها في قراءة روايتين ل"ألبير كامي" ولكم أن تتصوروا كم هو صعب تغيير مجرى الإهتمامات بشكل فجائي وجذري ، أولا من الجامعة "الحرية" ، إلى معهد أشبه ما يكون بالثكنة العسكرية ، حيث يختنق من اعتاد على أجواء أخرى ، إضافة إلى طول المسافة الرابطة بين بيتي والمعهد حيث كنت أسير كيلومترات وكنت مرة أخرى لا أكف عن التساؤل : من أجل ماذا؟ لم أحن أجد أجوبة محددة لكني كنت أحاول الإقتناع بما يقوله الاخرون عن كون تلك الشهادة الجامعية اليتيمة التي حصلت عليها لم تعد تخول لحاملها شيئا ، وعندما استشرت بعض من ظننتهم راسخين في العلم أشاروا علي بالتسجل "فورا" في ميدان اخر مطلوب في سوق الشغل ، مستشهدين بفلان وعلان ممن حصلوا على الديبلومات وهم الأن هنا وهناك يشتغلون ، وذلك ما قمت بفعله ، ليس من باب إرضاء من اقترحوا علي ذلك ، بل في سبيل مواجهة الفراغ فقط لا غير ، ثم لا بأس بتجربة جديدة حتى لا يقال أن فلان لما عاد من الجامعة انتهت الحياة عنده كأنه حصل على تقاعد مبكر فلا تجده إلى في تلك المقهى أو قرب عمود الإنارة ذاك أو في صالة الأنترنت يدخن ويقتل الوقت ، هذه هي الصورة التي رسموها حولي وأنا أتفهمهم جيدا ، بكل بساطة لأنهم لم يخطئوا في حكمهم فقد كنت على وعي بذلك ولطالما تساءلت عما عساي أفعله لأتغير، لم أفكر كثيرا ، فعندما قصدت المعهد لتسجيل اسمي طلب مني أحد الموظفين هناك أن أقص شعري فقد كان طويلا بشكل عبثي وكانت لي أيضا لحية نسيت أن أحلقها ، نفذت ما طلبه مني الموظف وقصصت شعري ولحيتي وبدأت الأيام الأولى بمظهر غريب علي حتى أني عندما كنت أنظرإلى المراة كنت لا أكاد أتعرف على نفسي ، بعد الحصص الأولى التي كنت خلالها أجلس تقريبا في الصفوف الخلفية اكتشفت أن على وضع نظارات طبية لأرى السبورة بشكل واضح ، هكذا حصلت على قالب جديد استغرب له أصدقائي ومنهم من ضحك وقال أني أصبحت محترما.. لكني خيبت ظنهم عندما تركت العنان مرة أخرى للحية لكي تطول وتقريبا عدت إلى العبث بمظهري كما في السابق بعد مضي أشهر كاملة من مقامي في هذه المعهد دون أن أفهم شيئا ، وأيضا ،وهذا ما كان يحيرني ، دون أن اغادره ، بشكل منطقي سيكون الجواب واضحا ، لقد ضاعت مني السنة، هذا أمر أكيد ولا بأس من عدم الإستسلام للفراغ مجددا ، رغم طول المسافة وتعامل هؤلاء المسؤولين وبغض الأساتذة المثير للإشمئزاز وفارق السن بيني وبين زميلاتي وزملائي الذين التحق أغلبهم بالمعهد بعد الباكالوريا مباشرة ، باستئناء الزملاء الثلاثة المجازين وهم معروفون على أية حال ، وقد نجح اثنان في التكيف مع أجواء المعهد وفهم الدروس ، أما أنا وصديقي هشام فقد كنا نظهر كمن هبطوا لتوهم من عطارد أو زحل نتناقش في الفلسفة بينما هم يكابدون في إيجاد حلول لتمارين استخلاص الأجور والضرائب... ونسخر ملء أفواهنا من الأموال والأرقام والإقتصاد اللعين..هل كنا نداري عجزنا ؟ قطعا لا ،هو له أسبابه الخاصة وأنا أحترمها ، أما بالنسبة لي فلم أكن خلال اغلب الأوقات قادرا على التفاهم مع من يرى أن الدنيا جميلة أو بسيطة ، البساطة بالنسبة لأمثالي شيء مقيت غير محتمل ، وقبل أن أفهم مثل هذه الدروس علي أولا أن اقتنع بجدواها وماذا تمثل بالنسبة لي ، هذا ما حاولت شرحه لصديقي هشام في ذات نقاش عبثي :
-لم اقع في غرام هذا الميدان... لذلك حتى لو بقي معنا هذا الأستاذ الدهر كله فأنا لن افهم شيئا ..
هشام لا يعارض كثيرا ، وقد أومأ برأسه أني على حق دون أن يقتنع ، وقد كنت أمقت مثل هذا التعامل ، لكنه على أي حال هكذا ، اي لا يمكنني أن أغيره ، جلسنا مع بعضنا طيلة السنة في اخر طاولة في الصف الأوسط في موقع استراتيجي يتيح لي رؤية الساحة بشكل مستمر ، هكذا كنت أبصق في ذهني ضدا على عجرفة بعض الأوغاد ، منهم "الطاووس" قصير القامة الذي كان يستفزني برائحة السيجارة في كل حين ، في وقت يمنعنا نحن "المتدربون" من الخروج أثناء حصص الدرس، منظره وهو يتجول بزهو محركا رأسه الضخم الذي أنهك كتفيه كان أشبه بإله متوج على عرش هذا المعهد ، أستاذ اخر لغوي" أنجلوفوني" محنك ، لم أره قط يضحك ،كان دائم العبوس كأنه خسر في الإنتخابات ، أو كما قال أحدهم كمن يشتم رائحة كريهة ، أتمم هشام :
-خياشيمه مسكونة برائحة ما يخلفه الإنسان من بقايا ...
محمد الشاوي / غشت 2010 / الخميسات
يتبع
التعليقات (0)