بحلول يوم 14 جانفي 2012 تكون تونس قد قطعت سنة كاملة على تاريخ إطاحتها بالرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي أجبرته ثورة شعبه العارمة على الفرار وعائلته إلى السعودية في عمليّة ما تزال بعض تفاصيلها محفوفة بالغموض...
غير أنّ ثورة الشعب التونسي لم تكن بحاجة إلى توضيح ولا إلى تفسير أو تبرير إذ كانت تستمدّ شرعيتها من تردّي نظام الحكم في الانغلاق والفساد وبالتالي تآكله. أما أهدافها فقد اختزلتها تلك الشعارات المدوّية بحناجر الشباب الغاضب وهي تردّد:"التشغيل استحقاق يا عصابة السّرّاق"..."الشعب يريد إسقاط النظام"..."حرية عدالة كرامة وطنية"..."بن علي يا سفّاح،بن علي إرحل(غالبا باللغة الفرنسية)"..."إذا الشعب يوما أراد الحياة//فلا بدّ أن يستجيب القدر"...
أما السؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم،أي بعد مرور سنة عن سقوط النظام المنهار،هو: ماذا تحقق من أهداف الثورة ؟
لئن كانت الإجابة عن كذا سؤال قد تفتح الباب على إجابات متعدّدة ومتنوّعة وحتى متضاربة وفقا لصفة المستجوَب ووضعه الراهن قياسا بما كان عليه ماضيا أو بالنظر إلى تطلّعاته،فإنّه ليس من المجدي المزايدة على الانطباعات الشعبية التي لا ترى حصادا يُذْكَر لهذه "السنة الثورية" غير فرار الرّئيس المستبدّ وانهيار منظومة حكمه العليلة،بل لا ينبغي التشكيك في براءة نواياها إذا ذهبت إلى حدّ التعبير عن تذمّرها وهواجسها وحتى انزعاجها مما آلت إليه الأوضاع من تدهور خصوصا على المستوى الاقتصادي فضلا عن مظاهر الاحتجاج الاجتماعي ومُؤشرات الانحراف إلى الفوضى وحتى المناوشات الطائفية بغطاء ديني أو جهوي...المطلوب استيعاب مبرّرات القلق الشعبي والإحساس بالإحباط لدى منْ يستعجل موطن شغل يحفظ له كرامته أو لدى منْ تُؤرّقه أوجاع لا تأتي له الثورة ببلسم لها... إنّ الشعوب،إذ تستفيق كلّ يوم على صباح جديد،لا تقتات شعارات جميلة،بل هي تُمنّي النفس بأن تعالج ضغوطها الحياتية المزمنة والطارئة وأن تظفر بالشغل والرزق،إنها تنشد في أوطانها ما يُساعدها على إتيان العمل المثمر الذي يدُرُّ عليها الخير الوفير في كنف الكرامة المحفوظة لكلّ مواطن والرّغيف المُؤمَّن لكلّ فم...وهي إذ تثور على حكّامها فإنّها لا تجرُؤ على ذات الصنيع إلا إذا تأكّدت من فساد الموجود ورغبت في المنشود الذي يفتح لها أبواب المستقبل مشرَّعة على ما تريد،وممّا تريده ما لا يحتمل الإرجاء ولو ليوم واحد...
الأغلبية "الغلبانة" الكادحة من التونسيين تطلب بإلحاح وشغف من كلّ يوم يمرّ عليها بعد سقوط النظام المقبور أن يكون مصحوبا بغيث نافع وثمار تتذوّق طعمها شهيّا ومُجْزيا...وحيث أنّ ذات الرّغبة لا تتحقّق بتلك السرعة ولا يُمكن لها أن تتحقّق إلا بحلول سحريّة فإنّ الحكّام الجدد القائمين على الشأن العام في البلاد مضطرّين أن يعتبروا الجهود المضنية التي يبذلون والاجتهادات المخلصة التي يستنبطون هي،في كلّ الحالات،دون المؤمّل قياسا بالحاجيات الضاغطة المستعجلة لعامّة الناس،بل عليهم أن يعوا،تمام الوعي،أنّ قدَرهم جرَّهم إلى قيادة شعب ثائر،ليس فحسب،قد قطع نهائيا مع كلّ تدجين واحتواء وإذلال،إنّما هو مسكون بهاجس الشك والريبة والحذر من أيِّ سلطة تحكمه مهما ادّعت الوطنية والطهارة والعذريّة،ذلك أنّ تجاربه المريرة مع السلطان علّمتْه ألاّ يمنحه صكا على بياض ولا أن يثق في "جنته الموعودة" بمعسول الكلام، بل أنّ المداومة على اليقظة تجاه قرارات السلطة وسلوك القائمين عليها هي حبل النجاة،أيْ أنّ الحاكم عليه أن يتدرّبَ على قبول أنّه محكوم بسلطة الشعب الذي لا يغفو له جفنٌ...
إذا كانت الحالة تلك فإنّ الثورة التونسية قد توفّر فيها كلّ مواصفات الثورة الناجحة غير القابلة للانتكاس...إنها بحقّ ثورة شعب،فضلا عن عبقريته في الإطاحة بدكتاتورية من أعتى الدكتاتوريات وهو أعزل إلا من إرادته،أضحى هو الماسك بزمام المبادرة الحارس الأمين على ثورته لا يتردّد في أن يلفظ من ضلوعه الذين يحترفون الفوضى والتهريج كلّما كان صنيعهم عبثيا مدمّرا ولا يخشى صولة من ائتمنهم بمحض إرادته على إدارة دفّة حكمه كلما ارتأى أنهم يُطوِّعون أهداف ثورته لمشيئتهم ويزيغون بها عما يُريد حتى إن لم تثبت عليهم سوء نية،إذ العبرة في القيادة السياسية ليست بالنوايا إنما بثمار العمل الصالح الذي يستفيد منه الجميع في وطن الجميع من أبنائه
أشفِق على الذين يتولون الحكم في البلاد اليوم من منطلق أنّ جلهم كانوا بالأمس مضطهدين ومقموعين ومشرّدين وملاحقين وملعونين من جهاز الحكم المطاح به ثمّ أنهم لمّا اعتلوْا سُدّة الحكم وجدوا أنفسهم في وضع أشدّ ضراوة،لكنّه هذه المرّة،مسلطٌ عليهم ممّن انتخبوهم واختاروهم لـ"عذريّتهم"،وذلك قياسا بوضع المعاناة التي كانوا يعيشونها في ماضيهم وهم يُمارسون المعارضة والمقاومة ضدّ سلطة برعت في إيذائهم...
إنّ تونس اليوم وهي تحتفل بمرور سنتها الأولى على ثورتها ضدّ الطغيان ومن أجل العيش الكريم لكلّ أبنائها سائرة،إجمالا وبعزم وإصرار،نحو بناء صرح الدولة الجديدة التي تستمدّ هيبتها من شعبها بالأساس والتي تكرّس الديمقراطية والقيم الكونية السامية...وبما أنّه لكلّ عمل جليل متاعب،فليس خفيّا على أيّ ملاحظ أنّ متاعب الشعب التونسي في إنجاز ثورته هيّنة بتأكّد قدرته على تحمّلها وتحويلها سريعا إلى مكاسب ومنافع مقارنة بثورات الأشقاء من الشعوب العربية الأخرى التي تراوح مكانها أو تنذر بكوارث وانزلاق نحو المجهول...
يمكن للنخب التونسية،على وجه الخصوص،الفكرية والسياسية أن يجدوا في السنة الأولى من حياة الثورة رصيدا ثريا وملهما من الحصاد الذي يُعَدّ سمينه أكثر من غثّه...ولهم أن يقفوا على العبر من تلك القدرة المثيرة للإعجاب إلى حدّ الإبهار التي مكّنت من التوافق على تأمين سير البلاد العادي بعد الإطاحة بسلطة الرّئيس الفار ثمّ، في ظرف لم يتجاوز بضعة أشهر،احتكِم للخيار الديمقراطي من أجل صياغة الدستور وإدارة الشأن العام بتنظيم انتخابات أفرزت مجلسا تأسيسيا ممثّلا لسلطة الشعب أفضى إلى توافق بين قوى سياسية (الترويكا) انبثقت عنها رئاسة دولة وحكومة وسلطة تشريعية ورقابية تسلّمت مهامّها في عملية انتقال سلمي وحضاري للسلطة هو الأوّل من نوعه يحدث في بلد عربي بذلك الأسلوب الرّاقي الذي لا نراه إلاّ في الدّول المتقدّمة...ثمّ إنّ سلطة المجتمع المدني بقيت يقظة ومستنفرة من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب التي أثبتت قدرتها وفي زمن أشهر معدودات أنها قادرة على الإضافة والإثراء والاحتجاج والاعتراض وتصويب ما يستوجب تصويبه...كلّ ذلك في أجواء بقيت محكومة بسلطة الشارع التي ابتدعتها الثورة والتي تُصِرّ على المداومة والثبات في كنف اجتهادات تسعى إلى التقليص من مظاهر الفوضى والتهريج المجّاني...إضافة لكلّ ذلك لا يجب للملاحظ ألاّ يُفرِد المشهد الإعلامي الجديد في تونس الثورة بدور حيويّ ومتميّز أضحى يضطلع به،فجأة ودون سابق إنذار،وكأنّما خرج لتوّه ماردا من قمقمه يصول ويجول ويدلو بدلوه في كلّ كبيرة وصغيرة وينتصب سلطة فاعلة ومؤثّرة لئن اختلف حول جودتها الكثيرون فإنّ لا أحد أضحى لا يكترث بها ولا يهابها...
بقي الخبز أوالتنمية الاقتصادية،ولا عيش يطيب دونها،ولا معنى لثورة لا يشعر المواطن العادي أنها حسّنت من عيشه ورزقه سواء كان الحاكم يسوس بعقيدة الإسلام وبركتها أو بعقيدة العلمانية وعقالها...والحقيقة أنّه ما كان يجدر التأدلج بالإسلام أو العلمانية أو غيرهما في بلد شعبه في أغلبيته المطلقة مسلم يريد لبركة دينه أن يحصل عليها من ربّه دون واسطة ويريد من حكامه ألاّ يتدخلوا في علاقته بربّه وألا يحشروا بأنفسهم في ذات العبادة،كما يريد من علمانييه ألا يُضمروا العداء لعقيدته الدينية بذريعة سلطة العقل فينالون من مقدّساته من حيث كانوا يتعمّدون أو لا يُدركون...المواطن يريد من حاكمه خبزا وشغلا وكرامة يُسبّح من خلالها بحمد ربّه لا بحمد مَنْ ائتمنهم على خدمته...
التعليقات (0)