سموا الأشياء بأسمائها
طلب الحرية ليس غزوة خارجية. ليس فتنة داخلية. ليس عمالة أجنبية. ليس تحريضا على الطائفية. ليس مطالب حزبية. ليس سلاح ومسلحين ضد الشرعية ـ إن وجدت فعلا الشرعية ـ ليس أحلاما رومانسية. ليس صرعة غربية. طلب الحرية في النظم الشمولية هو عودة الإنسان إلى صنف البشرية, واسترداد الهوية والخاصية الآدمية.
نضال الإنسان من اجل الحرية ليس جديدا بدأ مع بدء البشرية. على مذبحها سالت دماء وقدمت تضحيات, وعبر القرون كان ينتصر الاستبداد ويسترق ويستعبد الإنسان ويهان, ولكنه لم يكف يوما عن طلب الحرية بيده أو قلبه أو لسانه. وعبر القرون أيضا فرض الإنسان نفسه حرا وسيدا. وكم سُطرت ملاحم في النضال من اجل الحرية. وكم صيغت فيها نظريات فلسفية والفت كتب ونشأ أدب, وعُزفت على الأوتار الموسيقية. وباسمها سما فن وشعر وأغنيات ومسرحيات.
في ظلها وحدها يجد الإنسان نفسه, يبدع , يكتشف, يكور ويتطور, يفكر يصل إلى خلق الأشياء من الأشياء ويعيد, بما وضع الله فيه من مقدرة على الخلق, ترتيب الكون فهو ليس مجرد مخلوق ضعيف مستكين تفرض عليه إرادات الآخرين وبأنظمة مخالفة لطبيعته وقوانين ماسة بكرامته.
في منطقتنا العربية قتلت الأنظمة السياسة الخاصية الإنسانية الأساسية في إنساننا, خاصية الحرية. فهو غير حر في التفكير أو التعبير أو الخلق أو الإبداع. عنه يفكرون وله يبدعون وباسمه يقررون. يريدونه أن يضع نفسه موضع المسود الذي لا حول له ولا طول, يؤيد, يصفق, يصدق, يشيد, يسبح يحمد, يهتف, يفدي, يُعظّم. طقوس تراقب ممارستها أجهزة تُسمى أمنا, تراقب أنفاسه وتحصيها فان بقي فيها أنفاس حية توجهها أو تقمعها وتخمدها.
حال دفع محمد البوعزيزي لحرق جسده بيديه, حتى لا يبقى بمتطلباته عبئا عليه, بعد أن حرقوا أماله وأحلامه وحقه في حاضر مقبول ومستقبل مشرق, انتزعوا منه صفة المواطن والإنسان. بحرق جسده حرق البوعزيزي منظومات الفساد والاستبداد المجسدة برؤساء ووزراء وأعوان وأتباع. حرق الاستبداد والتنظيمات الشكلية المشكلة بالإرادات العليا بأسماء أحزاب ومنظمات وهيئات وجمعيات ونقابات, لم تكن تستطع أن تكون إلا أدوات قمع للمواطنين وحرياتهم, وتخلفا للوطن وحرمانه من أن يأخذ موقعا بين الأوطان النامية الحرة. حرق فلسفات سلطوية ونظريات وتنظير وثقافة الخنوع والتبرير. النار المنبعثة من جسد البوعزيزي أنهت عصرا عربيا أصبح قديما, وأعلنت بداية تاريخ جديد تاريخ يقوده الشباب المطالب بالحرية. شباب في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه. شباب عاشوا وشاهدوا وسمعوا عن معاناة آبائهم وأجدادهم خلال عقود وعقود. شباب إنتاج عصرهم وحملة مفاهيمه وقيمه و فكره.
كابر طاغية مصر بعد سقوط زين العابدين بن علي في تونس وأعلن بان مصر تختلف عن تونس, أي أن شباب مصر وشعب استمرؤوا الذل والهوان واعتادوا عليه. اعتقد النظام انه استطاع تغيير طبيعة مصر وإنسانها إلى الأبد. وان ارتباطاته بالعمالة لأمريكا والغرب سيكون النظام محميا. ولن ويبق عليه إلا تسمية الوريث رسميا, لانتقال الحكم من الأب للابن لصيانة الملك وحماية الثروة.
قال هذا عقيد ليبيا وطاغيتها " ليبيا غير تونس وغير مصر" وردده واثقا ومهددا ومتوعدا سيف أبيه المثلوم وخليفته بعد عمر طويل, فالابن سر أبيه. معتبرا تعطش شعب كامل للحرية وللتغيير وللحياة الكريمة والديمقراطية بعد 42 عاما انه هلوسة شباب يتعاطون حبوب هلوسة ومخدرات, عملاء للامبريالية. إنها بعرف القذافي مؤامرة خبيثة على ليبيا وعلى نفطها وثروتها, أو ما تبقى منها بعد هدرها على مغامراته فالرجل أراد أن يكون اكبر من وطنه, زعيما عظيما وملك ملوك متوج بتاج ثمنه بترول الدولة الليبية, وقائدا عالميا أين منه المرحوم شي غيفارا.
كما اعتبر عقيد اليمن ثورة شباب اليمن للمطالبة بالحرية والديمقراطية وإزالة الفساد "مؤامرة أمريكية تحاك في غرف مظلمة إسرائيلية". والقتل عقوبة من تضلله المؤامرات الداخلية والخارجية.
وبما أن سورية دولة عربية, وبما أن شعبها في طليعة الشعوب العربية, وبما أن الحرية مطلب لكل الشعوب, وبما أن طليعة الشعوب لا تريد أن تتخلف عمن سبقها, وبما أن أحدا لا يستطيع أن يقول أن سوريا ليست مثل تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن, فكلنا في الهم شرق, والشعوب هناك عبرت على أنها تعشق الحرية . ولا احد يستطيع القول أن سورية تخلت عنها ولا تعشقها ولا تتعطش لها. وما مطلب الحرية الكامن في الصدور الذي تفجر في درعا في حوران الأبية إلا نتيجة معاناة طويلة وإذلال, وإنها ليست إلا مطالب سورية وطنية. لا احد يستطيع القول, عدا الإعلام السوري, بأنها مظاهرات غير سلمية تم التعبير عنها بغير شعارات وهتافات رددتها الحناجر والأصوات المدوية في السماء " سلمية سلمية حرية حرية". لا احد يستطيع القول, باستثناء الإعلام السوري والأجهزة القمعية, بان هؤلاء المطالبين بالحرية, وبهذه الطريقة, مثيرو فتن, أو عصابات, أو مأجورون, أو عملاء, أو طائفيون, وغير ذلك من أوصاف لا يمكن أن يطلقها على أبناء بلده إلا إعلام حاد عن مهمته الحقيقية في إعلام الناس بالحقائق ــ إعلام لا يخجله ما ينقله عكس ادعاءاته الإعلام العربي والغربي بالصوت والصورة ويوصله للعالم أجمع . إعلام لا يؤمن بعد بان وسائل الاتصال قد تغيرت وان العالم أصبح قرية صغيرة ــ فبأي حق إذن يطلق الرصاص الحي على أصحاب هذه الحناجر والأصوات وعلى الصدور العارية؟. رصاص حي على شباب حي يريد الحياة الكريمة. شباب خرج يطالب بما كفل له الدستور من حقوق. لا احد يستطيع شرح ذلك وتبريره إلا الإعلام السوري.
لم تتفجر المطالب السلمية بالحرية في حوران واللاذقية وبانياس ودمشق وحمص ودوما .. على أيد معادين لبلدهم أو متآمرين عليها. فلم يسبق أن سجل التاريخ السوري تآمر احد في حورا ن أو اللاذقية أو حمص أو بانياس أو دوما أو أية محافظة سورية على بلده. تاريخ الشعب السوري بكل مكوناته منذ الثورة السورية الكبرى تاريخ مشرف. والوطنية لا يعطيها احد لأحد, ولا يستطيع احد أن يشكك في وطنية أحد.
مطالب الحرية التي سقط من اجلها الشهداء, وأدينت وشوهت, بدا الاعترافات بمشروعيتها. وطرحت من أعلى المستويات وعود بإصلاحات كثر الحديث عنها. أما جديتها فليس هنا مناقشته. ما نريد قوله هنا إنه يجب إعادة الاعتبار والتكريم لذكرى شهداء درعا وعموم حوران, وكل الشهداء في المحافظات السورية الأخرى, الاعتبار والتكريم الرسمي فهم شهداء الحرية من أجل إعادة بناء الوطن على أساس الكرامة والمواطنية. أما تكريمهم الحقيقي الذي يستحقونه فهو في نفوس كل السوريين الشرفاء في كل مكان.
سموا الأشياء بأسمائها, أيها السادة, فالشهيد شهيد. والمطالب بالحرية والكرامة الإنسانية ليست تآمرا أو فتنة أو دعوات مشبوهة أو طائفية. أمام الحرية تتساوى الأديان والطوائف, ولتتساوى الأديان والطوائف لا بد من الحرية. إنها مطالب ينشدها كل حر على كوكبنا, سبقتنا إليها الشعوب وبنت على أسسها دولا وأوطانا متقدمة متفتحة حضارية ومنيعة. لم تعد, أيها السادة, سياسة إذلال الشعوب واضطهادها سياسات تدار بها الدول في قرننا الواحد والعشرين.
لا أحد يكتب إنشاء فالشباب اليوم يكتب التاريخ بدماء الشهداء. ولتُسمّى بأسمائها الأشياء.
د.هايل نصر
التعليقات (0)