مواضيع اليوم

سلاح (الأسماء) ومعارك النفوذ الديني...

قفصة تونس

2009-06-22 08:59:40

0

سلاح (الأسماء) ومعارك النفوذ الديني...

للسلطة العاطفية التي حظى بها (الأحبار والرهبان) على مر التاريخ وبمختلف المسميات وفي معظم المجتمعات؛ بريقاً جذاباً، جعلها تسير موازية للسلطة السياسية؛ منافسة لها أحياناً ومساندة لها أحيانا أخرى، حيث اصطنع رجال الدين لأنفسهم أَسِرَّةً للملك العاطفي في نفوس العامة، بعد أن فقدوا سرير الملك السياسي الذي اختصره السيف في أُسَرٍ بعينها، وحصره البطش في أفراد معدودين على مساحات شاسعة من التاريخ.
وعلى الرغم من ذلك؛ فإنه ليست ثمة مبالغة في القول بأن السلطة العاطفية لرجال الدين قد تفوق السلطة السياسية وجاهة ونفوذاً، وهي ثمار تستحق من وجهة نظر المنتفعين بها التضحية بـ(الدين الخالص) من أجلها. ذلك أن السلطة السياسية تَخْفُتُ جذوةُ نارِها خلفَ حدودِ الممالك، ويذوي بريقُها بضعفِ السّطوة، ويذهبُ ريحُها بانتهاء الأجل... وكم من الساسة (الجبابرة) من حظي في التاريخ بعد رحيله بضرب الأحذية وهتك العرض!! ولكن في المقابل يتوِّجُ (العامةُ) و(الغوغاءُ) و(الدهماءُ) أصحابَ السلطةِ العاطفيةِ على امتداد التاريخ وفوق الحدود، بل ارتفعوا بأسرَّةِ ملكهم من الأرض إلى السماء حين (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ...) مبتعدين كل البعد عن المنهج الصافي الذي ارتضاه لهم الله عز وجل (... وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). وكان رد الجميل هو مكافأة الجماهير المساندة لهم بتلك الفتاوى والأحكام والتفسيرات والأخبار التي تُثَبِّتُ أوضاعهم على ما يرتضونه، أو تسليهم في أوقات فراغهم، أو تصطنع لهم المبررات الشرعية لما يقترفونه من مخالفات، وهي مكافآت تئول في النهاية إلى تبجيل ذوي السلطان الديني وتثبيت عروشهم في نفوس العامة من الناس ...
ولم يكن تاريخ الفكر الإسلامي بمعزل عن هذه الظاهرة؛ إذ حاول أصحاب هذه السلطة العاطفية إنشاء ملكهم وتوطيد دعائمه على أنقاض (الدين الخالص)، وتكرر المشهد الذي جاء متشابهاً كل الشبه بما حدث في الأمم السابقة، مطابقاً لنبوءة الرسول (ص): [لَتَتْبعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ]. (أخرجه: أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم)
وصحيح جداً أن كثيراً من الشخصيات التي (عُبِدَتْ) تشريعياً، على طريقة (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ)، كانت بريئة مما نسب إليها ونسج حولها، حيث تم استغلال أسمائها لتسلية الجماهير وإمتاعها، أو لاستعراض العلم وموسوعية المعرفة، أو لخدمة التيارات الدينية الفقهية والفكرية المتنافرة، والتي كانت تشحذ كل أسلحتها -شرعية وغير شرعية - في معركتها من أجل البقاء في سدة السلطة العاطفية التي تسيطر على عقول العامة وقلوب الدهماء!
وحتى لا يظل الحديث نظرياً مجرداً؛ نقف قليلاً أمام شخصية من آلاف الشخصيات التي تترَّسَ خَلْفَ اسمِها (المتدينون) في معاركهم؛ إنه : الصحابي الجليل: عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-الذي كان اسمه بطلاً من أبطال التفسير، حين أخذ المفسرون بأطراف ثيابه؛ كلٌ وفق هواه، بل تحول هذا الصحابي في بعض الأحيان إلى سلاح يضرب به المتنافرون بعضهم بعضا، تحت حجة دعاء النبي (ص) له [اللهم علمه التأويل] الذي انفرد بها عكرمة عن ابن عباس... وعكرمة هذا هو [مولى ابن عباس] الذي اتهمه غير واحد مثل مالك ويحيى بن سعيد الأنصاري وأحمد، ولذا لم يحتج به الإمام مسلم واستبعد روايته من جامعه الصحيح –إلا مقروناً – ولا يشفع له رواية الإمام البخاري – على عظيم قدره ورفيع علمه- له في صحيحه-ولا توثيق بعض الرواة له، فقد ثبتت التهمة وبلغ الشك إلى روايته مبلغه، ولا دافع لها!! (راجع ترجمته في: الكامل في الضعفاء، الضعفاء الكبير للعقيلي، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم).
لقد تحولت أسطورة ابن عباس مع التفسير إلى أصل من أصوله ؛ فلن تعدم قصصاً مخترعة بثتها كتب التاريخ والأدب بلا سند يُعتمد، تُجَذِّرُ للفكرة؛ مثل قصة سؤالات (نافع ابن الأزرق) لابن عباس، وهي قصة لا يعرفها ابن عباس، وربما لم يخترعها نافع نفسه، وإنما اخترعها من جاء بعد...
إن حدّ التترس بالأسماء هذا لم يقف عند ابن عباس وحده، فقد أضيفت هالة القداسة لكل من مر في الشارع و(ألقى السلام) على ابن عباس!! فابن عباس يقدم التفسير الحجة لأنه –في نظرهم-ثمرة دعاء النبي له... وعكرمة ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وغيرهم يقدمون التفسير الحجة لأنهم تلامذة ابن عباس... وتلامذة تلامذتهم حجة كذلك لذلك... وهكذا تتضخم كتب التفسير بشكل لا طاقة لأحد بحصره... وكلما زاد الكذب، وذكرت الأسماء (الكبيرة)، صفقت الجماهير، وارتفعت أسهم المنتفعين!
ونعود إلى ابن عباس الذي تقدس اسمه؛ فنسبت له الروايات المتناقضة، في ظل غياب الروح الناقدة عند المُصنِّفين الذين تقدست أسماؤهم –فيما بعد- كابن كثير؛ وعلى سبيل المثال وفي أحد حوارات الدوائر المفرغة التي لا تنتهي على أي اتفاق بين تيارات معاصرة متباينة، وهو الحوار حول جواز كشف وجه المرأة أو عدمه، يفر المدافعون عن جواز كشف الوجه إلى قول ابن عباس في تفسيره لآية النور (قال الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال: وجهها وكفيها والخاتم. ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم -نحوُ ذلك)...
والذين يدعون إلى فرضية حجب الوجه، لا يبتعدون –أيضاً-عن ابن عباس ولا عن ابن كثير، بل كل ما في الأمر أنهم سينتقلون عبر صفحات الكتاب ذاته إلى تفسيره لآية الأحزاب حيث يقول ابن كثير: (قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة)... وهكذا تكون الاستدلالات!!
إننا لسنا بصدد الحكم في مسألة فقهية، ولكننا بصدد ملاحظة كيفية التلاعب بالأسماء الكبيرة، وأغلب الظن أن ابن عباس نفسه الذي نسبت إليه الروايتين لا يعرف عنهما شيئاً؟! فهما روايتان ساقطتان إذا عرضتا على أبسط قواعد النقد المنهجي للآثار !
ولكن أين كان (ابن كثير) وهو يروي هاتين الروايتين وينسجم مع السياقين كأنه شخص مختلف ؟! إن الإجابة عن ذلك تتمثل في طريقة التدوين التي انتهجها المصنفون في عمليات الجمع، والقص واللصق، سواء كانت متناقضة متعارضة أو غير معقولة دون أن تكون لآلية النقد العلمي المنهجي دور، وهي آلية لم يعدمها تاريخنا العلمي، وإن ظلت على مدار الأيام منزوية باستحياء، وربما بإحباط؛ لضعف الإقبال عليها وقلة جماهيريتها. بل ربما انزوت رهبة من بطش الواقع السائد الذي لا يقبل نقداً... وابن كثير (المتوفي سنة 774 هـ) لم يكن وحده الذي يسير في هذه المتاهة؛ فمعظم أقرانه في (المهنة) يفعلون ما فعله؛ فقد كانت شهوة التدوين التي تقيس المؤلفات بالمتر وتزنها بالقنطار، وحشد الأخبار والنصوص، وكتابة الحواشي، وشرح تلك الحواشي، وتهذيب الكتب ثم تهذيب التهذيب، ثم تقريب التهذيب ثم تذهيب التهذيب ... إلخ... سمة من سمات العصر المملوكي سياسياً وثقافياً، فلا تجد المتناقض والمكرر فحسب بل إنك تجد المقزز أيضاً!
وهذا مثال لا مبرر لوجوده في أي صفحة من صفحات التراث غير الحشو وعدم المسئولية النقدية للمصنفين أمام ما يتناقلونه ... وهو ما ذكره القرطبي (المتوفي 671هـ) في تفسيره لقوله (هيت لك) في سورة يوسف وقوله: (قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن وعنه: استلقت على قفاها وقعد بين رجليها، ينزع ثيابه، وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الإليتين وجلس منها مجلس الرجل من امرأته)...
لا حظ... كيف قاسى ابن عباس من استغلال اسمه هذا الاستغلال الفاسد؟!
ولم يقف الأمر عند ابن عباس ولا كتب تفسير القرآن الكريم، التي كانت بعيدة كل البعد عن قداسته برواياتها العشوائية وحشوها الشنيع، فما حدث مع ابن عباس حدث مع غيره من الصحابة؛ كأبي هريرة الذي تكاثرت الرواية عنه صدقاً وكذباً؛ فأخذ بخناقه (المغرضون)، وتابعهم (المتعصرنون)، ودافع عنه (التقليديون)؛ فإذا بأدلة الحوار بين المتنافرين؛ ظلمات بعضها فوق بعض!!
وما حدث مع ابن عباس وأبي هريرة حدث مع السيدة عائشة بحجة حديث [خذوا دينكم عن هذه الحميراء] (أخرجه: الدارقطني وأبو يعلى وغيرهما)، وهي رواية عرجاء، تسقط علمياً ومنهجيا وفق أدنى قواعد النقد المنهجي للآثار، وعلى الرغم من ذلك تترس خلفها من شاء أن يستغل اسم السيدة عائشة لينهل من صندوق النذور الفقهية ما شاء من الفتاوى والأحكام... وما فُعِلَ مع الصحابة فُعِلَ مع التَّابعين، وحدث مع كبار الفقهاء ومشاهيرهم كأحمد ومالك والشافعي؛ فتضخمت المؤلفات وترهلت الموضوعات ... وما فعله عكرمة بحديث ابن عباس فعله الوليد بن مسلم بحديث الإمام الأوزاعي... وهكذا... وعلى الجبهة الشيعية فعله (زرارة بن أعين) بحديث جعفر الصادق (عليه السلام)، وفعله غير زرارة بغير حديث جعفر!! وهكذا...
والأمر لم يقف عند تفسير القرآن الكريم، فقد توغل الحشو المقيت في كل كتاب من تلك الكتابات؛ وعلى سبيل المثال (لاسم آخر) يتحدث الإمام النووي (المتوفي سنة 676 هـ )، بلا أي مبرر في حاشيته على بعض أحاديث الجامع الصحيح لمسلم؛ وهو الكتاب الذي شوَّهَهُ وأفْسَدَ كثيراً من قيمته العلمية بعنونته لأبوابه، ثم شرحه له وتحويله جزءاً من الفقه الشافعي الذي يعتنقه؛ فيقول في حاشيته على كتاب الحيض: "قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَوْ غَيَّبَ الْحَشَفَة فِي دُبُر اِمْرَأَة ، أَوْ دُبُر رَجُل ، أَوْ فَرْج بَهِيمَة ، أَوْ دُبُرهَا، وَجَبَ الْغُسْل سَوَاء كَانَ الْمَوْلَج فِيهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَسَوَاء كَانَ ذَلِكَ عَنْ قَصْد أَمْ عَنْ نِسْيَان، وَسَوَاء كَانَ مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ اسْتَدْخَلَت الْمَرْأَة ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِم، وَسَوَاء اِنْتَشَرَ الذَّكَر أَمْ لَا، وَسَوَاء كَانَ مَخْتُونًا أَمْ أَغْلَف، فَيَجِب الْغُسْل فِي كُلّ هَذِهِ الصُّوَر عَلَى الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْفَاعِل أَوْ الْمَفْعُول بِهِ صَبِيًّا أَوْ صَبِيَّة"!!
إن الإمام النووي – غفر الله له -يطرح في الفقرة السابقة – وهي فقرة مجتزأة ولها بقية في الكتاب -18 احتمالاً مقززاً، وهو لم يجد غضاضة أخلاقية ولا علمية في ذكرها بكل ما آتاه الله من شُهرة جعلت الناس فيما بعد ينحنون أمام اسمه؛ ويهابونه كأنهم أمام منطقة عسكرية لا يجوز منها الاقتراب أو التصوير!! فإذا أنت عرضت هذه العبارات (البشعة) أمام أي قاريء دون أن تشير له إلى كنه صاحبها؛ لاشمأزت نفسه وعافت عباراتها؛ فإذا قمت بالكشف عن اسم صاحبها؛ لصُبَّتْ عليك اللعنات، وقيل لك: يا جاهل... لا حياء في العلم!! ومن أنت حتى تنظر في كلام الأئمة الكبار... (يا صعلوك)؟!
ترى... ما الذي جعل العقول والنفوس تتغاضى عن هذه الصفحات المشينة في تراثنا الذي أصبح في نظر كثيرين مصدراً للفكر الديني السائد؟! إنه (السلطان) العاطفي، الذي بغيابه يفقد الإمام أو الشيخ أو الخطيب أو الداعية ... سدانته ومكانته ولقبه ونفوذه... وربما فَقَدَ برنامجه الأسبوعي في قناة (الغوائيين) الفضائية ... فهو إذ يتحول إلى طابور المصلحين، سوف يكتب عليه الصمت أكثر مما كان يتكلم، وإذا نظر حوله يطلب السند والمدد لن يجد معه إلا نفر هنا وآخر هناك!! وربما أوذي وطورد وفق مبدأ (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ).
ومن المؤسف أن الإنسان إذ يستدعي -على كره منه -مثل هذه العبارات المتكاثرة في كتب التراث، ويحاول تفسير هذه الحالة الرديئة من آلية التدوين التي أساءت إلى التفكير الديني السائد؛ فإنه يتهم بمحاولة التشويه، وإهانة العلماء، والطعن في الدين...
على الرغم من أن الأمر لا علاقة له بالدين ... ولا هم يحزنون!!




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !