مواضيع اليوم

سقوط الستار الحديدي المعاصر

عبدالكريم صالح

2012-02-07 15:22:34

0

اصبح النظام الدولي اليوم على المستوى الجيوسياسي نظام غير واضح المعالم والاتجاهات وهو بلاشك منقسماَ ازاء العديد من القضايا الدوليه ومع غياب الانماط القياسيه للتفاعلات الدوليه وهي ماكانت سائده في دراسة الاستراتيجيات العالميه ونقصد هنا الاحاديه او الثنائيه القطبيه فنحن على عتبة الدخول الى عصر جديد مختلف تماماَ عن التفرد والتوحد الامريكي على المستوى العالمي  ويبدوا ان نهوض وقيام التعدديه القطبيه  قد بانت وتشكلت علائمه بوضوح بعد سقوط الحجب والسواتر الامريكيه .

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، بدأت الصراعات الأيديولوجية بين الكتلتين الشرقية والغربية تزداد حدة وتفاقماً ، وبدا أن التحالف الذي استمر أثناء الحرب قد اشرف على نهايته، وقد عد بعض  المؤرخين ان الخطابين اللذين ألقاهما ستالين وتشرشل في مطلع عام 1946م إشارة صريحة لبدء الحرب الباردة ، "ستالين" أعرب عن اعتقاده أن الحرب العالمية ستظهر وتتجدد ما بقي العالم تحت سيطرة الاحتكارات الرأسمالية العالمية ، كما استخدم تشرشل تعبير "الستار الحديديThe Iron Curtain " الذي قال انه اصبح يفصل شرق أوربا عن غربها.

وبمراجعه سريعه للمراحل التي مر بها النظام العالمي  حيث بدأت معالم المعسكرين تتشكل وتتوضح ، واخذ كل من الفريقين يبدي رأيه حول تصاعد الأحداث وظهور معالم جديدة ستفضي إلى صراع جديد ، وقد رأى هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي : " ان شهر العسل كان قصيراً ، فالتصلب الـ(ستاليني) والأيديولوجية الشيوعية والاحتلال السوفيتي لأوربا حتى نهر الألب وتقسيم ألمانيا ـ أدى بالضرورة إلى ردة فعل عدائية ، واصبحت ثنائية القطب واضحه وبارزه ، مع تصارع القوتين العظميين عبر خط التقسيم المار في وسط أوربا ومضاعفة الأسلحة النووية على جانبي هذا الخط " . ومن الناحية العملية في 14 نيسان/ابريل سنة 1949م تم تسجيل انقسام أوربا بشكل واضح عندما قررت الولايات المتحدة ربط الجزء الغربي من القارة الأوربية بها، فأقامت حلفاً عسكرياً شمل 14 دولة أوربية وأمريكية "كندا والولايات المتحدة" تقع فيما سمي بمنطقة شمال الأطلنطي وكان الحلف بمثابة إعلان صريح عن إقرار الحرب الباردة ، وبدأ السياق نحو التسلح بحجة الدفاع عن العالم الغربي ، فقد كان العدو الذي لم يذكر في الاتفاق معروفاً لدى الجميع ، وهناك من يعزو سوء العلاقة بين العملاقين الى جذور سابقة من الكراهية وأزمة الثقة المتبادلة ، منذ ان حدثت ثورة أكتوبر البلشفية في عام 1917 م ، وتدخل أمريكا العسكري في روسيا السوفيتية مع غيرها من الدول الأوربية الرأسمالية لإخماد الثورة فيها ، وتأجيلها الاعتراف بالنظام الشيوعي حتى عام 1933م . أما الولايات المتحدة ، فقد انتابتها بعض الشكوك حول السياسة السوفيتية في أوربا حين اقدم الإتحاد السوفيتي خلال وبعد الحرب ، على ضم دويلات البلطيق الثلاث : (لاتيفيا واستونيا وليتوانيا) ، وكذلك ضم الأقاليم البولندية وبعض أجزاء من رومانيا ، وحينذاك بدا  للولايات المتحدة ان المطالب الإقليمية السوفيتية في منطقة شرقي أوربا لم يكن لها حد معين ، وتأكد ذلك بعد وقوع هذه المنطقة تحت سيطرة الجيش الأحمر في عام 1944م، حين بدأت الحكومة السوفيتية تطالب بحقها في الأراضي التي كانت تتبع روسيا قبل عام 1917م .

ونتيجة لهذه المخاوف وتقاطع المصالح بين الدولتين ، وكذلك الخلافات العقائدية والسياسية ، قامت الحرب الباردة على نمط جديد من الصراع ، لا تنطبق عليه شروط الحروب التقليدية من حيث الخسارة والربح في العدد ، والمساحة ، والتخطيط للمعركة واختيار الزمان والمكان ، ولكن يبقى الاتفاق قائماً بين النمطين في الهدف النهائي للحرب الفعلية، أو التهديد باستخدام القوة ، الآمر الذي ينطبق على الحرب الباردة، هو إخضاع الخصم وإجباره على تنفيذ إرادة الخصم .

أصبح من البدهي القول ان الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي كانتا خارجتين من الحرب بوصفهما قوتين وحيدتين لهما القدرة والتأثير في شؤون السياسة الدولية، يفصل بينهما خط أيديولوجي لا يلتزم بالحدود الجغرافية التي كانت عليها الدول في الماضي ، ولكل منها خطط أستراتيجية وأهداف معينة اخذت تعمل لأجلها بكل ما أوتيت من قوة لإنزال قدر كبير من الخسارة للطرف الآخر في الجوانب العسكرية والاقتصادية والسياسية  ، ومع مرور الوقت آخذت ظاهرة الخلاف بينهما تأخذ صفة الثبات ، وهذا الخلاف الدائم في الحرب الباردة جعل الفريقين يعملان في الغالب على ترك الانطباع بأن وصول علاقاتهما إلى اعلى مستوى محتمل من التوتر هو وضع طبيعي في العلاقات الدولية  .

وفيما يخص السياسة السوفيتية وأستراتيجيتها في العلاقات الدولية ، وسياستها في الحرب الباردة تجاه الولايات المتحدة فيذكر الاستاذ نبيه الاصفهاني قي بحثه المعنون الفكر اللينيني في السياسه الدوليه في مجلة المجله العدد 20 لسنه 1970م  : "ان من الواضح أنها كانت قائمة على التفريق في العلاقات بين الدول الاشتراكية وبين الدول الأخرى ، وهذه العلاقات تعود في جذورها إلى المنطلقات الفكرية الأساسية للسوفييت وقد اكد لينين ان العلاقات بين الدول الاشتراكية يجب ان تكون قائمة على أساس اعتراف واضح بالوحدة الاخوية ، وعلى تحالف وثيق بما في ذلك التحالف الاقتصادي والوحدة العسكرية ".

اما فيما يخص علاقات الدول الاشتراكية بالدول الأخرى فان كل سياسة بما فيها السياسة الخارجية تعد صورة من (الكفاح الطبقي ) " فالحتمية التاريخية للصراع الطبقي ، جعل الحرب المستمرة والثورة المستمرة المتمردة على الواقع الرأسمالي ، التي تضمنتها التعاليم اللينينية التي أصبحت لا تقبل الجدل ، طالما لم تقتلع جذور الإمبريالية كليةً من الأرض" وهي جزء لا يتجزأ عن السياسة السوفيتية وعلاقاتها بالعالم الغربي ، لكن في الوقت ذاته ، كانت مشاكل البناء الاقتصادي ورد الاعتبار للدولة السوفيتية ، تحتم على الإتحاد السوفيتي ان يعطي اهتماماً خاصاً بالسياسة الخارجية ، وفي ذلك كتب لينين : " ان من واجبنا الحفاظ على حدود الجمهورية الاشتراكية الوحيدة التي يحيط بها أعداء رأسماليون" ، لهذا كان ينادي بسياسة التنازلات ، "حتى لا تتكالب القوى الاستعمارية وتقضي على الجمهورية الاشتراكية الشابة ".

ان دور الولايات المتحدة في العلاقات الدولية حتى الحرب العالمية الثانية هيمنت عليه روح الانعزالية التي نتجت عن  مبدأ مونرو لعام 1823م أو مبدأ العزلة . وقرار الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية الخروج من عزلتها التقليدية ، والقيام بدور الحارس على القيم والحضارة الغربية عبر العالم، وايقاف التوسع الشيوعي سواء كان هذا التوسع سوفيتياً ام صينياً واتسمت ستراتيجيتها بالحزم وعدم السماح لتقدم شيوعي جديد "بعد الصين" في جنوب شرق آسيا والعالم وبالتالي ضرورة انقاذ مواقع استراتيجية عديدة ممتازة في العالم من زحف الشيوعية  .

ويمكن عد استراتيجية الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية حصيلة اجتهادات الدبلوماسي "جورج كينان George Kenan " ورئيس الجمهورية ترومان الذي أضاف إلى استراتيجية الاحتواء مسحة من الأيديولوجية بتأكيده طريقة الحياة الأمريكية والديمقراطية البرلمانية الغربية ، وانتفع جورج كينان من وجوده في موسكو واستطاع التأثير في الأمريكيين بالإيمان أن السلوك السوفيتي في العلاقات الدولية تتحكم فيه افتراضات الأيديولوجية ، وان السوفيت يؤمنون بحتمية انتصار مبادئهم . فالحكومة الأمريكية باتت تعتقد ان للإتحاد السوفيتي مخططاً استراتيجياً مرسوماً للسيطرة العالمية ، وانه يستخدم الأيديولوجية وأدوات العنف المسلح بوصفها وسائل لتنفيذ هذا المخطط العالمي ، وبدا ان هناك اتفاقاً بين الجمهوريين والديمقراطيين على ضرورة مقاومة الولايات المتحدة لهذا المخطط السوفيتي الديناميكي بكل ما تملك من إمكانات القوة ، وما يقال عن سياسة الاحتواء والتطويق وسياسة الأحلاف التي اتبعتها الولايات المتحدة ، شكلت عصب السياسة الأمريكية ، وكان يقال عن تتبع ستراتيجية مشابهة في التعاون بين الدول الاشتراكية ، وكان هناك ما يشير إلى ذلك ليس لدى مجموعة حلف وارشو Warsaw Pact وحسب إنما كانت التصريحات الصينية تعبر عن ذلك بالقول: " انه كلما زاد عدد الدول التي تمتلك السلاح الذري زاد قوة المعسكر الذي تنتمي اليه هذه الدولة ، ومن ثم فأن من شأن السلاح الذري الصيني ان يزيد المعسكر الشيوعي قوة ".

كان الهدف المعلن لاستراتيجية الاحتواء هو إحباط نزعة التوسع السوفيتي من خلال تطويق الإتحاد السوفيتي والمجموعة الاشتراكية بجدار ضاغط من الأحلاف والقواعد العسكرية التي تحول دون نفاذ الإتحاد السوفيتي عبر خط التقسيم الفاصل بين الكتلتين وتعويق وصولهم إلى مناطق النفود التي يسيطر عليها الغرب اذ كانت الولايات المتحدة - بناءً  على هذه السياسة - تقوم بحقن تحالف الأطلسي بإمكانات جديدة تمكنه من مغالبة التحديات الهائلة المناوئة ، فعلى سبيل المثال نجد انه في عام 1950 م بلغ مجموع الفرق السوفيتية 175 فرقة في حين مجموع الفرق التي كانت تحت سيطرة الناتو لم يتعد اثنتي عشرة فرقة، منها فرقتا الاحتلال الأمريكية في ألمانيا ، ومنذ ذلك الحين بدأت تغيرات مهمة في حجم الامكانيات العسكرية للناتو، بدأ التخطيط في هذه المرحلة الإعداد لتنفيذ الاستراتيجية الأطلسيه الدفاعية التي اطلق عليها آنذاك "استراتيجية الدرع والسيف Shield and Sward Strategy "  القائمة على بناء قوة عسكرية كبيرة ترابط في وسط أوربا بمثابة الدرع و قوة جوية أمريكية نووية بمثابة السيف .

ذكر السنتاور "يوجين ماكارثيEugene McCarthy " الذي كان مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة ، ان اليابان وقعت استسلامها له وكانت له آراء عنيفة ضد الروس عن روبرت مكنمارRobert McNamara وزير الدفاع " لقد كان المبدأ السائد في برامجنا للمساعدة العسكرية هو ان مصالحنا الأساسية في هذا البلد تعتمد أساساً على قوة العالم الحر وليس على قوتنا وحدنا ، اذ انه لا يمكن تحقيق توازن القوى اليوم إزاء تحديات هذا العالم الذي نعيش فيه الا بالاعتماد على أصدقاء أقوياء مسلحين ومستعدين للقيام بدورهم . لذلك فأن برنامج المساعدة العسكرية يهدف إلى تدعيم القوات التي تكمل قواتنا المسلحة ، والمساعدات الأمريكية توفير الأسلحة الأساسية وما يلزم" ، وقد تميزت هذه المرحلة من حكم الرئيس هاري ترومان Harry S.Truman بتدعيم القوة الاقتصادية للحلفاء فضلاً عن القوة العسكرية ، وكان لتبني الكونجرس الأمريكي مشروع الجنرال جورج مارشال Marshall Plan The وزير الخارجية الأمريكي- بعد منتصف الأربعينيات اهمية كبيرة في دعم وتلبية حاجات أوربا التي كانت اكبر من قدرتها على الدفع كي تستطيع ردع أي هجوم سوفيتي على أوربا الغربية، وشهدت تلك المرحلة تطوير القوة النووية الأمريكية وافرج خلالها بين السياسة الخارجية والسياسة العسكرية ، وبناء حلف شمال الأطلنطي في أوربا في سنة 1949م، ومع بداية الحرب الكورية 1950 م، واقتنع الأمريكيون أن المواجهة مع الإتحاد السوفيتي قد تتخذ شكل حروب محدودة النطاق .

استمرت الولايات المتحدة في انتهاج استراتيجيتها العنيفة لخمس سنوات عرفت دولياً باسم "أستراتيجية الحصارStrategy of Embargo"، أو الاحتواء التي تدرجت منها فيما بعد إلى اعتناق استراتيجية الانتقام الشامل في ضوء تقييمها للآثار الدولية التي تمخضت عن تنفيذ استراتيجية الاحتواء Containment Strategy وقد قامت استراتيجية الرد الشامل أو الانتقام الشامل Comprehensive Strategy for Revengeعلى عنصر الردع بالأسلحة النووية ، وكانت القوة الجوية الامريكية الاستراتيجية هي الركيزة التي قامت عليها هذه الاستراتيجية بلورها  "جون فوستر دلاسJohn Foster Dulles  "- الذي شغل منصب وزير الخارجية الأمريكي في عهد ايزنهاور- أريد منها تحقيق ميزتين في آن واحد إحداهما الميزة الاستراتيجية التي أعفت أمريكا من الاحتفاظ بقوات ضخمة في المناطق المكشوفة امام الهجوم السوفيتي ، والميزة الثانية سايكولوجية وهي ان الردع بالأسلحة النووية يشكل خللاً للوضع الدولي القائم لصالح الولايات المتحدة، فرض السلاح النووي نفسه في هذه المرحلة – مرحلة حكم الرئيس الامريكي دوايت آيزنهاورDwight D. Eisenhower- وقد تبنى فيها هذا الاخير النظام الدفاعي لحلف الأطلسي ، واقيمت شبكة القواعد والاحلاف حول المناطق الشيوعية في أوربا الشرقية والإتحاد السوفيتي والصين ، وقد تعرضت هذه الاستراتيجية لانتقادات حادة كان ابرزها قد يدفع تطبيق هذه الاستراتيجية العدو للقيام بحرب نووية مباغتةPre-Emptive War  ليحبط أي هجوم نووي أمريكي ، وبدا كثير من المحللين الاستراتيجيين يتبنون وجهة النظر القائلة أن تنوع امكانيات القوة الأمريكية ، وعدم تركيز الردع في الأسلحة النووية وحدها ، قد يزيد من ثقة خصوم أمريكا في فعالية هذا الردع  وواقعيته .

وبدأت الدعوة إلى انشاء قوة تقليدية ضخمة لمواجهة أي هجوم بالأسلحة التقليدية وبالعكس في حالة استخدام أسلحة نووية يكون الرد بالمثل، وكان هذا التحليل هو الأساس في تحول الاستراتيجية الأمريكية إلى فكرة الرد المرن  أو الرد المتدرج أو التصاعدي ، وهي الفكرة التي أصبحت تعرف باستراتيجية الاستجابة المرنة Flexible Response أو استراتيجية القوة المضادة Counterforce Strategy التي طبقت منذ عهد الادارة الديمقراطية للرئيس جورج كينيديGeorge Kennedy  ، فأصبح التركيز على صنوف الأسلحة كافة بما فيها القوات البرية ودعمت امكانيات النقل الجوي. كما زيد عدد القاذفات الاستراتيجية والصواريخ ذات الرؤوس النووية بحيث تفوقت بنسبة ثلاث أو اربع إلى واحد على الامكانيات السوفيتية المقابلة.

وبعد تمكن الإتحاد السوفيتي من إنتاج الصواريخ العابرة للقارات اصبح الرد النووي متبادلاً ، وتأكد معه ان أي طرف مهما اتيح له بدء الهجوم فانه سيخسر كل شيء بسبب قدرة الطرف الآخر على توجيه هجوم مضاد لا يقل عنه تدميراً، وهكذا قام ميزان الرعب النووي الذي اصبح بمثابة صمام أمان يصون العالم من الدمار الشامل، الا ان ابتكار سلاح جديد وهو صواريخ الدفاع المضادة للصواريخ النووية كان من المتوقع انذاك ان يقضي على قدرة الردع تلك، حينما بدأت الولايات المتحدة بامتلاكه لاول مرة ، والقضاء على حالة التوازن الاستراتيجي، والعودة من جديد إلى وضع سباق التسلح.
عموماَ تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهت مرحلة التوازن الدوليه وصار العالم يحكم من قبل القطب الواحد وهو الولايات المتحده الامريكيه فبعدما اعتاد العالم ومحيط العلاقات الدولية على التعامل مع معادلة توازن دولية قائمة على ثنائية قطبية أو القوتين، وبين ليلة وضحاها انفرط عقد هذه المعادلة، وانهار جدار برلين الذي أحدث زلزالا مدويا نجم عنه انهيار نظم سياسية بل وتشضي أكبر دولة في العالم، حتى إنه لم يتردد البعض في الحديث عن ولادة عالم متعدد الأقطاب، وعودة دور الأمم المتحدة فاعلا دوليا بعد تهميشها في حفظ الأمن والسلم الدوليين، إلا أنه سرعان ما تبددت هذه "التمنيات"، وبدأت تكتشف ملامح عالم جديد، مرتكزا على قطب أحادي الجانب، اعتبر نفسه، على حد تعبير هنري كيسنجر: "المكون الذي لا غنى عنه للاستقرار الدولي و مصدر المؤسسات الديمقراطية في كل أنحاء العالم، والضامن لها، وحكما على نزاهة الانتخابات الأجنبية يفرض عقوبات اقتصادية، أو ضغوطا أخرى إذا لم تستوفي معاييرها، وقام هذا القطب بنشر قواته العسكرية على مساحة كبيرة من العالم، وشكل الأذرع لأكبر عمليات تدخل عسكري باسم "حفظ السلام" و"ردع العدوان"إذ إن "الانتصار في الحرب الباردة يغري بالزهو"، وبالاعتقاد بالهيمنة الأمريكية على العالم.
وقد عبر وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين Hubert Vedrineعن ذلك عام 1999 بقوله أن الولايات المتحده الامريكيه قد تخطت مرحلة القوة العظمى في القرن العشرين إلى أكبر من ذلك "فالهيمنة الأمريكية امتدت إلى كافة النواحي الاقتصادية والمالية والعسكرية العالية لتطال طرق الحياة واللغة والنتاج الفكري والثقافي للآخرين، لتعيد تشكيل الأفكار وتسحر حتى أعدائها” ليصف الو.م.أ بمصطلح القوة الخارقة أوالمفرطة ويؤكد جوزيف ناي أن النظام الدولي اليوم لم يعد يقوم على توازن القوى كما كان عليه الأمر سابقا وإنما أصبح نظام القطب الواحد والهيمنة الأمريكية.
أما تشارلز كروثامرCharles Krauthammer فقد رأى أن" : انهيار الاتحاد السوفياتي ولد شيء جديد تماما عالم أحادي القطب تسوده قوة عظمى غير مهددة من قبل أي منافس، وذات نفوذ حاسم في أي بقعة من الأرض، إنه انعطاف حاسم في التاريخ، لم يشهد له مثيل منذ انهيار روما، إنه تحول جديد، غريب تماما إلى حد أننا لم نملك أي فكرة عن كيفية التعامل معه".

الإسفين الذي يدق في نعش النظام القطبي الأوحد السائد منذ عام 1991م هو الاقتصاد فالانهيارات الاقتصاديه الماليه التي منيت بها الولايات المتحده الامريكية نتيجة حروب الاستنزاف التي خاضتها تحت شعار الحرب على الارهاب  والتي أثبتت أنها بعيدة عن الاستراتيجية عندما أسقطت طالبان 2001 م في أفغانستان واحتلت العراق في 2003م، تراجع القوة الإقتصادية الأمريكية في الاقتصاد العالمي، بعد بروز قوة اليابان، والاتحاد الأوربي،والنمور الآسوية، وتفاقم الإختلال الداخلي، المتمثل في عجز الموازنة الفديرالية، والاختلال الخارجي في عجز ميزان المدفوعات. وتقلب قيمة الدولار الأمريكي،وعدم استقرار سعره، وسقوطه،ومن ثم سقوطه من علي عرش العملات الدولية، بعد أن أصبحت عملات دول أخري تتنافس معه علي احتلال عرش العملة العالمية، وعملية الاحتياطي الدولية.

في الوقت الذي تنامت فيه اقتصادات الدول الكبرى الاخرى مثل الصين وكنتيجه حتميه سنستحضر نظرية المجموع الصفري Zero Sum Gme Theory حيث تصف الحاله التي يكون فيها ربح او خسارة مشارك ما مساوياَ بالضبط الى مجموع الخسائر او المكاسب للمشاركين الاخرين ،اذا كانت المكاسب الاجماليه للمشاركين يتم اضافتها والخسائر يتم طرحها فان المجموع سينتهي الى نقطة الصفر ومن الممكن ان نتصور قضية المجموع الصفري بشكل اعم على انه مجموع ثابت حيث ان مجموع الفوائد والخسائر لجميع اللاعبين هي نفس القيمه من الفائده ان عملية قطع الكعكه هي عملية ذات مجموع صفري او مجموع ثابت وذلك لأن اخذ قطعه اكبر من الكعكه يقلل الكعكه المتاحه للأخرين في المقابل فان المجموع غير الصفري يصف الحاله التي تكون فيها مجموع ارباح وخسائر الاطراف المتفاعله اما اقل او اكثر من صفر وهنا تنشطر القضيه الى شطرين الاول يسمى المجموع الصفري الايجابي Positive Sum Game والشطر الاخر السلبي Negative Sum Game وهنا يمكن ان نفسر البروز الواضح للدور الروسي والصيني بعد ان اصبح القطب الواحد الواهن اقتصادياَ ولايمكن ان ينكر دور روسيا المؤثر في الساحه الدوليه فالعديد من التحديات الكبيره مثل الحفاظ على الامن الاوربي والدولي ومكافحة تزايد اسلحة الدمار الشامل والحرب على الارهاب وتثبيت اسواق الطاقه المتقلبه والتعامل مع الصراعات الاقليميه كأزمة الشرق الاوسط لايمكن التصدي لها من دون المساهمه الايجابيه البناءه من روسيا .

التحول الايجابي Positive Shift الروسي قد حدث منذ 13 كانون الاول/ديسمبر عام 1999م عندما تسلم "فلادمير بوتينVladimir Putin " زمام الحكم ومغادرة "بوريس يلتسينBoris Yeltsin " حيث اعلن خلال فترة رئاسته الاولى منذ عام2000 م حتى 2004م أعلن أنه يملك في جعبته مشروعاً لروسيا ونجح في تحقيق النظام والاستقرار ودفع بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية وشملت الإصلاحات تحديثاً بالسلطة وشراكة متوازنة مع الغرب واستطاعت روسيا بوتين تعريف هويتها الجديدة دولياً ومحلياً وأعاد روسيا إلى مكانها الطبيعي كقوة عظمى.

ان الدور الروسي الذي برز مؤخراَ في اروقة الأمم المتحده تجاه الأزمه السوريه هو في الحقيقه نقطة التحول الايجابي في جوهر سياسة موسكو الخارجيه وفي تعاطيها مع الازمات الدوليه فلم نرى هكذا موقف من روسيا وخلال الفترة الممتدة من 1990م حتى 2004م فقد كانت دائماَ في غلبة من  أمرها ولايمكن لروسيا او الصين ان تقف وتستخدم حق النقض الفيتو  ضد القرارات التي يصدرها مجلس الأمن وغالباً ما تكون هذه القرارات أميركية الصياغة والمصالح، ونادراً ما سمعنا عن تلويح موسكو لاستخدام حق الفيتو، وعادة ما تذهب واشنطن لانتزاع شرعية تدخلها في مناطق العالم الجيوسياسية دون الرجوع للأمم المتحدة التي أصبحت في الآونة الأخيرة غطاء يتم استذكاره للتغطية على مشاريع واشنطن وظهر ذلك جلياً في الأزمتين الأفغانية والعراقية،ولعل هذا الموقف يؤكد عودتها لتكون قوة عالمية منافسة لواشنطن وقادرة على التأثير في النظام الدولي ليس فقط في مجالها الإقليمي بل تعداه إلى المستوى الدولي، وهذا ما يذكرنا بالحرب البادرة إلا أن المشهد الدولي يفرض هذه المرة "الصين" كقوة دولية صاعدة ومؤثرة لها خطابها السياسي الخارجي المستقل عن الخطابين الروسي والأميركي،وليس في اروقة الامم المتحده يبرز الدور الجديد لروسيا والصين على المستوى الدولي انما في المواقع الجيو سياسيه في العالم فالحضور القوي والمؤثر للصين في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينيه التي كانت فيما مضى يطلق عليها الحديقه الخلفيه لأمريكا اي انها مناطق نفوذ يمنع الاقتراب منها لتتحول اليوم الحديقه الخلفيه لأمريكا الى الحديقه الاماميه للصين ترتبط بعلاقات اقتصاديه وسياسيه ذات طابع استراتيجي وغير خافي صعود الصين كقوه عالميه منافسه لواشنطن في العديد من المواقع الجيوسياسيه في العالم ."حيث يشير تحليل الأداء السلوكي الخاص بالسياسة الخارجية الصينية- الشرق أوسطية إلى أن الإدراك السياسي الصيني لم يعد يكتفي بإستراتيجية الانكفاء ضمن الحدود الصينية الوطنية، المصحوب بالتعامل مع دول الجوار الإقليمي، وإنما أصبح أكثر اهتماماً إزاء التأسيس لجدول أعمال سياسية خارجية صينية جديدة، ولعل اقتراب الصين من إيران وبناء علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية معها دليل على اقتراب بكين من منطقة الخليج العربي الذي يعتبر منطقة نفوذ أميركية لا بل أكثر من ذلك حيث يعتبر أمن الخليج العربي جزءاً من الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية"، حيث تعتبر هذه العلاقات من الركائز المهمة في سياسة الصين الخارجية، فهي علاقات قديمة وعميقة، ولكنها باتت تعتمد في العصر الحديث على ركائز قوية، وفي مقدمتها استيراد النفط من إيران، إذ تحصل بكين على 14% من وارداتها من إيران، وكذلك تطور الصين حقولاً نفطية في إيران في مقدمتها حقل أزادبيجان، وحقل بارس الجنوبي، وتعمل الصين في إيران إما من خلال شركات نفطية صينية، أو من خلال شركات نفطية صينية مشتركة مع دول أخرى مثل "شركة سوناغولSanangol Group " المشتركة بين الصين وأنغولا. وعليه تنتقل بكين هي الأخرى مع موسكو إلى مستوى الدول المنافسه لواشنطن التي فقدت هي الأخرى العديد من نقاط قوتها الإستراتيجية في مواجهات عديدة (أفغانستان والعراق والصومال فضلاً عن الأزمات الاقتصادية العالمية) كلفتها فاتورة باهظة ما جعلها تتراجع قليلاً وتسمح للدول بالانتقال إلى هذا المستوى الأمر الذي يعني أننا سنكون أمام نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية نظام تكون فيه موسكو وبكين وواشنطن وربما الاتحاد الأوروبي هي القوى العظمى في النظام الدولي تفرض إيقاعها الجديد على الساحة الدولية وتكون بمنزلة صمام أمان إن لم يمنع اندلاع الحروب على الأقل يحد من تأثيرها في مناطق التنافس الدولي ويحفظ الاستقرار من خلال توازنات القوى، فالحرب التي من الممكن أن تشنها واشنطن على طهران أو على دمشق أو على أي دولة أخرى أصبحت اليوم أكثر صعوبة مما مضى وذلك لأن بنية النظام الدولي تغيرت وطوت معها صفحة نظام أحادي القطبية".  ان النظام الدولي الذي يطلق عليه جزافاَ بالجديد فهو ليس بجديد لأن هذا النظام ليس بجديد انما هو امتداد لأمبراطوريات التسلط والهيمنه الغربيه فهنا لانحتاج ان نكشف القشر لبيان اللب فهو امتداد لسيلسة الامبراطوريه البريطانيه التي يطلق عليها الامبراطوريه التي لاتغرب عنها الشمس فاسياسه الاستعماريه واحده والسيطره على مقدرات الشعوب واحده لكن المتغير الوحيد هو الانماط والاشكال والشعارات ،اليوم اسقطت المواجهه بين الستار الحديدي الذي فرضته الولايات المتحده على منظمة الامم المتحده والمؤسسات التابعه لها واحتكارها فقد اسقطت روسيا والصين هذا الستار الحديدي واسقطت معه تجاوز الغرب المستمر على الشعوب تحت مظلة مجلس الامن .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !