حسن غريب أحمد
الصفات الجمالية في الإبل :
من المزايا التي يتمتع بها الجمل أنسجة الخف ، التي تحتفظ بجزيئات الماء في شكل سلاسل ملتفة حول بعضها ، يمتصها الدم عند الحاجة والضرورة فتنفك السلاسل . كما أن ارتفاع الجمل وحول قوائمه يبعد جسمه عن ذرات الرمال المتحركة تحته ، وطول عنقه الشامخة إلى أعلى بالإضافة إلى تغطية جفن العين برموش طويلة ، وصغر الأذن وتغطيتها بالشعر ، وشق الأنف بدلاً من المنخار المعروف في الكثير من الحيوانات ، واكتساء جسمه بالوبر ، وانعدام الغدد العرقية في جلد الجمل إلا على السطح البطني وخفه الأسفنجي اللين الذي يساعده في السير على الرمال ، وكل هذه الميزات جعلت من الجمل حيواناً مع البيئة الصحراوية ويستحق لقب (سفينة الصحراء) عن جدارة .كذلك الجمل المرتفع القامة ذو القوائم الطويلة في شكل أحادي لا تخطئ ، وبعنقه الطويل ، وشكل رأسه ، وشق منخاره ، وبقمة سنامه . هذا بالإضافة إلى تميز الإبل عن بقية الأنعام والحيوان عموماً عن فوائد عديدة للإنسان .الناقة في الشعر الجاهلي : لم يلق حيوان اهتماماً ، لدى الشعراء في العصر الجاهلي ، مثل ما لاقت الناقة ، إذ قلما تخلو قصيدة من ذكر لها ، سواء كان وصفاً مباشراً أم تشبيهاً لحيوانات أخرى بها .ولا ريب أن هذه الأهمية أتت من طبيعة الحياة آنذاك ، ففي تلك الصحاري المترامية الأطراف في الجزيرة العربية ، لا توجد وسيلة لاختراقها والتنقل عبرها إلا الناقة ، فضلاً عما يستفيده العربي من لحمها ولبنها ووبرها ، في تلك الأرض الشحيحة الرزق القليلة العطاء .فلا يستغرب بعد ذلك أن يعدها أثمن ما لديه من مقتنيات ، وأن يجعلها دائماً نصب عينيه لا يفرط بها مهما كانت الأسباب ، وما أكثر ما كانت تقوم الخلافات حولها ، وما أكثر المعارك التي احتدمت من أجل الاستيلاء عليها ، ولما كانت للناقة تلك المكانة ، في نفوس العرب الجاهلين ، فقد جعلها الشعراء مدار وصفهم تارة ومدار فخرهم تارة أخرى .ولعل خير شاهد نجده على ذلك قول أبي رؤاد الإيادي :إبلي الإبل لا يحوزها الراعون مــــج الندى عليها المدام سمنت فاستحش أكرعها إلا النيـ م ني ولا السنام سنـــام فإذا أقبلت تقــــــول : إكـــــــام مشرفات : بين الإكام إكام وإذا أعرضت تقول : قصور من سماهيـج فوقها آطام وإذا ما فجئتها بطن غيب قلت : نخل قد حـان منها صرام أرأيت إلى شاعرنا كيف صور لنا نوقه مفتخراً بها ؟ إنها إبل نادرة الوجود والمثال ، يحسبها حيناً تلالاً مرتفعة ، وحينا قصور جزيرة سماهيج المشتهرة بكبر حجمها ، وحيناً أشجار نخيل قد ناءت بثقل أثمارها .العزاء والسلوان :أما إذا اشتدت الهموم الأتراح على ذات العربي ، وأراد الهروب بعيداً عما أثاره ، فإنه لا يجد إلا الناقة ملجأ له وسفينة لخلاصه ، فسرعان ما يمتطيها ويضرب بها عرض الصحراء ، عله يجد العزاء والسلوان ، وقد عبر الشعراء عن هذا الهروب بالناقة أصدق تعبير ، نجد ذلك واضحاً في وقوف الشاعر على الأطلال وبكائه لديار الأحبة وما تبعثه الذكرى في ذاته من حسرات حرى لا يجد مفراً منها إلا اعتلاء ناقته والغوص بها في لجة الصحراء .وعند قراءتنا لشعر الأطلال فإننا ، غالبا ما تطالعنا عبرات من قبل : " فدع ذا " و "عد عما ترى " وأمثالهما ، ثم يعقبها مباشرة وصف للناقة التي ارتحل عليها ، والصحراء التي قطعها ، نحو قول النابغة الذبياني في معلقته ، بعد أن وصف الأطلال وما أحدثته في نفسه : فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له وأنم القتود على عبراته أجد ولا تخلص الناقة المرء من همومه وأحزانه فحسب ، وإنما تكون أحيانا وسيلة الخلاص من أسر الحب أيضا ، مما يدفعنا أن نتساءل أيمكن أن تكون الناقة معادلا للحبيبة في ذات العربي ؟ و لعل متمم بن نويرة يعدها كذلك حينما يقول : صرمت زنيبة حبل من لا يقطع حبل الخليل وللأمانــــــــة تفجعجدي حبالك يــا زينب فإنني قد استبد بوصل من هو أقطعولقد قطعت الوصل يوم خلاجه وأخو الصريمة في الأمور المزمعبمجدة عنس كـــــــأن سراتها فدن تطيف بــــــه النبيط مرفعقربتها للرحل لمـــــا اعتادني سفر أهـــــم بــــه وأمر مجمعإذا فالشاعر قد قطع وصل حبيبته ، واستبدله بناقة تخالها قصراً عظيماً يطوف به الأعاجم لروعته ، فكانت هذه الناقة البديل الذي عوض الشاعر عن الهجر والحرمان .وقد تطول الرحلة أياما عدة ، وليس للعربي فيها من ملجأ يأوي إليه إلا ناقته فهي ظله في الهجير ومهجعه حين المبيت .فالشاعر زهير بن أبي سلمى يقطع الفيافي والقفار ممتطياً ناقته ، فإذا ما داهمه النعاس تشبث بها ، لأنها ملاذه الوحيد في تلك الصحراء :وتنوفة عمياء لا يجتازهـا إلا المشيع ذو الفؤاد الهاديقفر هجعت بها وليست بنائم وذراع ملقيه الجران وسادي وعرفت أن ليست بدار تئية فكصفقة بالكف كان رقادي وإذا كان نوم زهير على ناقته كصفقة كف فإن المثقب العبدي ينام ملء جفونه متوسداً ناقته ، التي تقتدي بصاحبها وتنام هي أيضا ، غير مهتمة بما عليها من أحمال وأثقال :فبت وبــــاتت بالتنوفـــة ناقتي وبــــــات عليها صفنتي وقتــــــودها وأغضت ، كما أغضيت عيني فغرست على الثفنات والجران هجودها الآهات وتلاقي المشاعر :ويبلغ الاندماج بين المرء وناقته أن يصل به الأمر إلى الشعور بما ينتابها من إحساس ، لم لا ؟؟ وهي رفيقة الحل والترحال ، تصاحبه ليلاً ونهاراً ولاسيما أن حياة العربي تدعوه إلى التنقل باستمرار بحثاً عن الكلأ والمرعي ، أو ارتياداً للملوك والسلاطين وسادة القبائل ، وإذا كان شاعراً ، لينثر أمامهم روائع نظمه وإبداعه ، ولينال منهم الجوائز والهبات ، وغالباً ما يكون مسوغه أمام الممدوح ما أصاب ناقته من جهد ووهن ، وما لحقتها من تعب وكلال في اجتيازها الصحراء والجبال .وحينما يبلغ الجهد من الناقة مبلغه فإن رغاءها يرتفع وأنينها يعلو ، وتتجه إلى صاحبها بالشكوى ، فتصل الآهات إلى أعماق النفس ، وتتلاقى المشاعر ، وتزول الحواجز بين الإنسان والحيوان ، فتغدو الناقة إنسانا يستطيع التعبير عن همومه وأحزانه ، يصور لنا ذلك المثقب العبدي في هذا المشهد الإنساني الخلاب :غدت قوداء منشقاً نساها تجاســـر بالنخاع والوتين تقول اذا درأت لها وضيني أهذا دينه أبـــــدا وديني ؟ أكل الدهر حـل وارتحال أما يبقي علي وما يقيني ؟ أما ناقة الأعشى فلكثرة ما أصابها من المشقة والجهد أخذت تئن وتشكو لصاحبها ، وكأنها قد أصابها الهذيان ، فبدت مثل إنسان قد أصيب بالحمى ، ولزمته طويلاً ، فإذا ما ألمت به كثر أنينه وتعالت شكواه :أكللتها بعـــد المراح فآل مــــن أصــلابها فشكت إليّ كلالهـــا والجهد مــــن أتعابها وكأنها محموم خيبر سبل مـــــن أوصابها لعبت به الحمى سنين وكان مـــن أصحابها التواصل الرمزي بين المرء والحيوان :إذاً فقد تم التواصل الرمزي والتعبيري بين المرء والناقة ، وأضحى كل منهما يفهم لغة صاحبه ، فما عليهما بعد ذلك أن يتناجيا وأن يفضي أحدهما للآخر بما يعتلج في نفسه فذاكم الشاعر المتلمس يسمع شكوى ناقته وحنينها الشديد إلى مراتعها الأولى ، ولكن لم يكن باستطاعته أن يلبي رغبتها ، فقد طرده الملك عمرو بن هند وحرم عليه العودة إلى موطنه .ولا غرو في أن حنين الشاعر إلى أرضه يضاهي حنين ناقته ، غير أنه يحاول من خلال مناجاته لها ، أن يخفف ما انتابها من ألم ولوعة الفراق .حنت قلـــــوصي والليل مطرق بعد الهدوء وشاقتها النواقيسمقصولـة ينظر التشريق راكبها كأنها من هوى للرمل مسلوس أنى طربت ولم تلحى على طرب ودون إلفك أمرات أمــاليس حنت إلى نخلة القصوى فقلت لها : تسل عليك ألا تلك الدهــاريس فقد اشتد بالناقة الحنين إلى الوطن ، وغدت ملهوفة كأنها قد سلبت العقل ، ولكن كيف الوصول إلى الأحباب والأصحاب ، وبينهم مفازات واسعة وفلوات رحيبة ؟ إنها تحن إلى نخلة القصوى لكنها محرمة على الشاعر ، وفي الوقت ذاته فهي محرمة على ناقته .وثمة حالات تحن فيها الناقة إلى موطنها الأول في رحلة هروب من فتاته التي لم تمنحه حباً خالصاً ، كما هو شأن عبيد بن الأبرص الذي آلا على نفسه أن يظل بعيداً عن ديار الحبيبة ، وزعم لناقته أن تلك الديار أصبحت بغيضة إلى قلبه ، ولكن أنى للناقة أن تصدق هذا الافتراء المزعوم :وهنت قلوصي بعد وهن وهاجها مع الشوق يوماً بالحجاز وميضفقلت لها لا تضجري إن منزلاً نأتني بــــه هنــــد إليّ بغيض وقد تدفع أسباب العيش بالشاعر بعيداً عن موطن القبيلة بحثاً عن موارد الرزق ، فيظل متنقلاً من مكان إلى آخر ، مصاحباً في غربته ناقته رفيقة حله وترحاله .فإذا ما طال السفر ، وبعدت الشقة ، وانبعث الحنين في النفوس ، شرعت الناقة تناجي الشاعر بأصوات هامسة ، تعبر فيها عن لوائج الشوق إلى مراتع الصبا ، فإذا الشاعر أكثر حنيناً وأشد شوقا ، يعبر عن ذلك دوسر بن ذهيل فيقول :وحنت قلوصي من عدان إلى نجد ولم ينسها أوطانها قدم العهد وأن الذي لاقيت ، في القلب مثله إلى آل نجد من غليل ومن وجد توحد الإنصهار الوجداني : أما الشاعر سبيع بن الخطيم فإنه يزجر ناقته حينما تعالت أصواتها شوقاً وحنيناً إلى أرض القبلة ، بعد أن طال التنقل والتجوال ، غير أنه ما يلبث أن يكف عن زجرها ويشاركها شوقها وحنينها ، عندما يرى عبراتها تتناثر ألماً وحرقه .وما دموع الناقة إلا دموع الشاعر نفسه ، بعد أن انصهر في حالة وجدانية مع ناقته : أما ترى إبلي كـأن صدورها قصب بأيدي الزامرين مجوففرجرتها لما أذيت بسجرها وقفا الحنين تجرر وصريف فاقني حياءك إن ربك همــه من بيـن حزرة والثوير طفيففاستعجمت وتتـابعت عبراتها إن الكريم لمــــا ألم عروف لقد اتخذ العربي ناقته صاحباً ورفيقاً ، وخلع عليها من مشاعره وأحاسيسه ما جعلها تتصف بالصفات الإنسانية ، فتشكو وتتأوه ، وتشعر بالغربة والحنين إلى الوطن ، وتناجي صاحبها وتحاوره .وقد صور الشعر هذه الصلة الإنسانية الوشيجة ، بين الإنسان وناقته ، أصدق تصوير مما يسمو به إلى أن يكون متبوءاً في الشعر الإنساني الخالد . لذا فالحيوان يحس كما نحس ويتألم كما نتألم ويبكي كما نبكي لكنه بكاء بغير دموع .تذكرة :القرآن وعالم الحيوان– عبد الرحمن محمد حامد تأملات في العلاقة بين الإنسان والإبل– دكتور كمال فضل السيد الخليفة– المركز القومي للبحوث – السودان 1995 م مجلة الأمة العدد 23 – السنة الثانية – الدوحة– قطر 1982 م . هل سر الجمل في سنامه ؟ توفيق يوسف القيس الشعر والشعراء لابن قتيبة – القاهرة – ج أ – ص 2390 شرح ديوان زهير بن أبي سلمى : الثعلب – القاهرة – ص 330 شرح المفضليات : لابن الأنباري – بيروت – ص 63 ، ص 727 ديوان المثقب العبدي : معهد المخطوطات العربية – ص 90 ، ص 192 ديوان المتلمس : معهد المخطوطات العربية – ص 82 .
التعليقات (0)