سعاد والخريف - جزء ثان
ما أن انتهينا من طعام الغداء حتى بادرت النساء إلى تنظيف المائدة يعاونهم أحمد، بينما كنتُ أتجاذبُ أطراف الحديث مع سمير الذي بدا متشوقاً لسرد مسيرة حياته وكفاحه في أرض السويد، هو طالب للصيدلة لم يُكمل دراسته في روسيا كما أخته، لم يكن مقتنعاً بجدوى تكملة ما يدرسه فقرر بدلاً من العودة إلى لبنان الغارق في الفوضى مرافقة بعض من معارفه إلى السويد، على أمل أن تقبل الدولة هنا طلب اللجوء السياسي الذي قام كغيره من اقرانه بالتقدم له.
تحدث عن المخيم الذي تم وضعه به تقدمة لفرزه إلى منطقة اخرى، كان حديثه ممتلئاً بالإمتنانِ لهذا الشعب العظيم الذي يحملُ له في قلبهِ الكثيرَ من آياتِ العرفانِ والجميل، مسيرةُ حياتهِ تلك لا تختلف في كثير من الأمورعن القصص التي نسمعها ممن جاؤا للإقامة في هذه الأرض الطيبة، لكنه اضاف بعد ان استوى في كرسيه أنه قابل فتاة أحلامه هنا وتزوجا بعد مُضي وقتٍ قصير من تعارفهما، ما أعجبني في حديثه هذا تلقائية كلماتهِ وبدت عيناه تشعان بالبريقِ وهو يتكلم في شغفٍ عن زوجتهِ وأطفاله.
- سمير: أعلم أنني اثقلتُ عليكَ بحديثي هذا
- لا على العكس .. ممتع ما ذكرت ! يعجبني فيك إنتماؤك الصادق لوطنِك الجديد وزوجك، وحبك لهذا الشعب
- سمير: صدقني لست اتخلى بهذا عن عروبتي، لكنها الحقيقة فهذا الشعب منحني كل ما أتمنى دون مقابل
- نعم صحيحٌ ما ذكرت .. هنا لا يعرفون معنى العنصرية ولا يهتمون للآديان، المهم أن تكون مواطناً صالحاً
- سمير: هل تعلم أنهم منحوني الجنسية السويدية بعد ثلاثة اعوام؟ أين هذا من بلادنا العربية
- لكن عليك أن لا تنسى أنهم بحاجة إليك لبناء شعب، هم في معظمهم مقلّون للإنجاب ومعظمهم يهاجرون لبلاد ادفئ من بلادهم، لذا فمن الطبيعي أن يُسارعوا إلى منحك الجنسية، وخاصة أنك تزوجت منهم
- سمير: نعم ربما ... المهم أنني سعيدٌ هنا وأتمنى أن يأتيَ جميع إخوتي ليعيشوا في هذا البلد
- سعاد: تفضلوا القهوة.. هه.. هل اطربكَ سمير بصوتهِ (وهي تغمز بطرفها لي)؟
- لا لم يُسمعني أي شيء
- سعاد: (وهي تضحك متوجهة لأخيها) سَمّعنا يا وحيد، يلا يا وديع
- سمير: (ضاحكاً) لا ليس الآن .. عليَّ أن أتناول القهوة والإنطلاق (ينظر للساعة في معصمه) فلم يعد لدي متسع من الوقت
- لِما ؟
- سعاد: نعم علينا العودة ... ليزا .. زوجته .. ستكون في طريقها إلى المنزل مع الأطفال
- إذن سأعلمُ احمد وهيلين بهذا الأمر واسمحا لي بوداعكما الآن
صافحتهما مودعاً على أملِ اللقاء قريباً ومن ثم توجهتُ إلى المنزلِ لإعلام أحمد الذي ظهر فجأة من باب البيت وفي يده سلة فاكهة وفي الأخرى صينية بها بعض أطباق صغيرة تمتلئ بالبذورات وغيرها مما لم أتبينه.
- أحمد: إلى اين يا خال
- إلى الغرفة .. أريد أن اتسطح قليلاً
- أحمد: لِما هل تشعر بتعب ما
- لا .. بعض الراحة لا يضر وربما استلقي قليلاً
- أحمد: حسناً أذا اردت شيء ما فأنا سأكون هنا.. في الحديقة لبعض الوقت
- طيب سمير يستعد للمغادرة، لإستقبال زوجه
مضى أحمد في طريقه بما يحمله متوجهاً صوب الحديقة حيث سمير وأخته سعاد، فيما صعدتُ أنا إلى غرفة نومي وأمسكت كتاب الأساطير أقلّب صفحاته، أقرأ عناوينه الفرعية لكن رغبتي في القراءة كانت معدومة، ألقيته جانباً وعيناي تتفحص سقف الغرفة الخشبي، توجهت إلى النافذة وألقيت نظرات إلى الأفق البعيد حيث أرض الجنوب كامنة خلف آلاف الأميال، وطيور اللقلاق تتسابق في نسقٍ بديع أمام عيناي، ألقيتُ جسدي على الكرسي الخشبي قرب النافذة، وشعرتُ به يغزو أوصالي ويتمدد في جسدي وعروقي يحتل كياني وكل مابي، إنه الضيق يعود ليعتمر في صدري والزفرات تنطلق في أسى من فمي .. لا لم يعد بإمكاني المُضي في ما أنا فيه، أشعر بسحابة قاتمة تُغطي سمائي وتحتل كياني.
أحسست بحركة قرب النافذة تُصاحبها زقزقة عصفور دوري، فيما سمعتُ نقر اصابع خفيفة على بابِ غرفتي الموصد، توجهتُ للبابِ وإذ بها هيلين تحمل طفلها ذو السنتين في يديها قائلة:
- هيلين: ما بك يا خال؟ هل استطيع الدخول؟
- تعال يا "حبيب" .. بالطبع تفضلي يا هيلين.. (وأنا أحمل عنها الطفل)
- هيلين: يبدو أنك مُتعب وشارد الذهن دائماً، خالي لما لا تكلمني فيما يُضايقك ألستُ صغيرتك هيلين؟
- أنا آسف يا هيلين .. لا اعلم .. أشعرُ وكأنني أُقحمُ حياتكم في همومي الكثيرة .. نعم ربما أنا متعب مما بي.. لكن أظن أن الوقت كفيل بإزالة ما بي .. في الحقيقة لا اعرف ماذا اقول لك.
- هيلين: أنا أعلم ما بك يا خال، لكن هل تظن بأن الوقت يستطيع حل المشاكل وإزالة الهموم؟ دون أن تحاول بدورك المساعدة في هذا الأمر
- كيف يا هيلين؟ وماذا استطيع أن افعل؟
- هيلين: أنت أكثرنا خبرة في هذا؟ الم تقل لي سابقاً بأن الحياة تستحق منا أن نراها بأطوارها المختلفة
- نعم (وانا أشير لحبيب) وهذه أطوارها يا هيلين .. ألا تذكرين أنني كنت أكلمك عن اطوار الحياة البشرية، وكيف أن الحياة لا يستقيم جمالها وكمالها دون الأطفال، لكني لا انكر أن للحياة اطوارها ايضاً.. وأعلم بأنني قد اثقلت عليكما أنت وأحمد ولكن...
- هيلين: (مقاطعة) خالي ارجوك لا تتكلم هكذا، أنت تعلم كم أحبك، لكنني اشعر بأنك تتعذب وألمك هذا يعذبني لأنني لا اعرف ماذا افعل من اجلك ... أنا لست خبيرة في هذه الأمور
يبدو أن معاناتي قد القت بظلالها على هذه العائلة الصغيرة، وهذا عبئ جديد لا استطيع إحتماله وإضافته إلى همومي، وبما انني لا أعلم كيف أستطيع التخلص مما أشعر به من ضيق وتعاسة لا أحُسد عليهما فقررت بيني وبين نفسي أن أحاول الإنتقال إلى مكان آخر أستطيع به أن ألعق جراح الماضي وأن أداوي فيه ما بي من سقم وآلام.
- لا أريدك أن تتألمي هكذ يا هيلين أنا آسف .. وأعدك بأن افعل ما بوسعي ..
- هيلين: (مقاطعة) إذن لنبدأ منذ اليوم، الساعة، بل الآن
- (ضاحكاً) حسناً لنبدأ منذ الآن، ولكن بماذا؟
- هيلين: هل تثق بي يا خالي؟
- بالطبع يا هيلين ... أنت تعلمين كم أحبك واثق بك
- هيلين: إذن تعال معي ... ولكن لتضع عليك شيئاً يقيك برد المساء المقترب
- ألن تقولي ... إلى اين؟
- هيلين: خالي ... (بلهجة محذرة)
- لا .. لا... سأحضر معك
القيتُ كنزة من الصوفِ الناعم الأبيض على كتفي فيما وقفت هيلين قرب الباب تلاعب طفلها وتنتظر إنتهائي مما افعل، فتخيلت نفسي للحظة سجين ينتظره السجان، لمرافقته إلى باحة السجن للتريض، توجهت مع هيلين التي بدت كشخص كسب جولة، أو فاز في رهان كبير، وتلك البسمة التي تغزو شفتاها....ماذا وراءها يا تُرى؟ ... يُتبع
التعليقات (0)