سعاد والخريف - الجزء الحادي عشر
لم تكن ماغي فرِحة بما قررتهُ بعدما عَرَفَت بالأمرِ من زوجها، فبينما كُنا نحنُ الأربعة نتبادلَ الأحاديث أشارت إليَّ بأنها تريدُ أن تُكلمني على انفراد، توجهتُ إليها حيث اختارت مملكتها الأولى للتحدث معي بالأمر الذي تريد..
- ماغي: ما هذا الذي سمعته من علي... قل لي لماذا تتصرف بجنون؟ ألآ تعلم بأنك مريض وبحاجة للرعاية؟ ألم تَعُد تهمكَ نفسُك؟... هل نسيتَ أنك أب .. يُحبونك ويتطلعونَ لِرؤيتكَ في يومِ ما ..يحتاجونَ إليكَ ... لماذا لا تردّ عليَّ...
- ما تقولينهُ صحيحٌ يا ماغي ويَحفِرُ في قلبي الألم ... وهلّ تظُنينَ أني لا أعبئَ بِهم ...لا اشتاقُ إليهم... ولكن ما العمل أخبريني ...ما العمل...حاولتُ المستحيل لِلبقاءِ معهم ...لكنَّ الأمرَ أصبح أكبرُ من أن أحتمله... أنتِ تعلمينَ ماذا جرى معي يا صديقة ... لكِن هل تعلمينَ أنني أمضيتُ شهرين هُناك دون منزلٍ أو ملجئٍ أو سقفٍ يُظللُ رأسي حتى ..هل تعلمين كم قاسيت ... ماذا أفيدهم بوجودي هناكَ والحربُ قد أُعلنت فوقَ رأسي
- ماغي: منها... هي..؟
- عائلتها... أبيها ... أنتِ تعلمينَ كيف هي الأمور هُناك... وأنا أعُتبر غريباً عن البلاد
- ماغي: لكنك ولِدتَ هناكَ ... وترعرعت هناكَ ...وأمضيتَ أجملَ سنين شبابِكَ هُناك؟
- وهناك من لا يُريده وطناً لي ولا يُعترفُ بي مواطناً... ألآ تعرفين كيف هي الأمور.....هُناك؟
- ماغي: لكن هذا كثير ... كثير و...وماذا فعلت؟
- ساعدني والدي في بِداية الأمرّ عن طرق سفارة بلادنا ... ومِن ثَم أعانني مصطفى وها أنا .... لن تُصدقي كيف أمضيتُ الشهور هُناك ... لا... لن تُصدقي
- ماغي: تكلم ...أزل عَن كاهلِكَ الألم ...إن لم تتحدث ..سيعيشُ معكَ ويأكلُ من روحكَ والجسد
- سأبُقي الجِراحَ في قلبي ونفسي ....ستُدفن معي في قبري ...فلِما الحديث ...والأمرُ برُمتهِ غريب
- ماغي: لكِنَ بقاءكَ ..وحدكَ كما يقولُ علي .... هذا شيء لا انصحكَ به ...على الأقل هذه الأيام ..لِما لا تنتظر حتى تتحسنَ صحتك ويشتد بدنك وبعدها إفعل شئت وما تريد ..هه أرجوك
- ليس لهذه الدرجة صدقيني ...هل تعلمينَ أن حبي للوحدة كبير وأجدُ الراحة بها ...تستكينُ روحي وتنطلق إلى حيثُ أريد
- ماغي: على شرط هه...... أن نبقى على اتصالٍ .. عدني ..هه
- حسناً ... بالطبع يا ماغي ليس لدي غيركِ كاتمة لأسراري.. كما تعلمين
- ماغي: حسناً إبقى هنا .. لقد أعددتُ فَطيرة الجوز التي تُحبها .. لا تخرج ابقى لأضع لك شيء منها ...تأكلها ساخنة كما تُحب
لله درها كم هي محبة وصادقة معي... تناولتُ معها الفطيرة وشاركتنا بها سوزان فيما كان الكلبُ قابعاً أمام الباب نرمي له بقطعة ليلتقمها أو تذهب إليه سوزان بقطعة من حصتها لتطعمه إياها بنفسها... وبعدما إنتهينا من الحلويات سألتني عما سأفعله بخصوص ليندا وما إذا كنت سأحاول الإتصال بها لأطمئن عليها ... فأخبرتها أنني لا أملك رقم هاتفها ... فنظرت إليَّ مبتسمة وهي تقول .. تبادلتُ معها أرقام الهاتف فأعطيتها رقمي وأعطتني أرقامها في المنزلِ والمدرسة والهاتف النقال .. فايهم تريدُ هو موجود ولكن ينبغي أن يكون لديك رقم هاتفها النقال ... وهي تشير بأصبعها وتقول أنظر إليَّ ... الفتاة تُحبكَ ... هذا ما لديّ لأقولهُ لك.. وأنتَ تعلمُ أنني لا أخبئ عَنكَ أمراً...
- ماغي: متى ستغادرنا..؟
- اليوم الآن نعم الآن بعد قليل ..ألم يُخبرك علي بالأمر
- ماغي: أحببتُ أن اسمع ذلك منك...لأنني أريد أن أوصيك بنفسكَ خيرا ...هل تفهم؟
- حسناً ... لا تخافي عليَّ فأنا اسد ...
- ماغي: نعم .. لكنكَ أسدٌ مريض ... عموماً إنتبه لصحتك
ما أن شارفت الساعة على السادسة مساءاً حتى توجهتُ وأخي يرافقنا أحمد بسيارته إلى فوجيشتا ...تلك الساحرة التي منحتني معنى آخر للحياة يا إلهي ... كأنني لم اراها منذُ عشرات السنين سماءها، سهولها، هضابها، رائحة عشبها وطيورها ..لقد طوى يومين عمري بالأنين.. أنظرُ في المرآة لأرى أثار دمعِ في عيني...لا لم يكن وداعاً هيناً ... فما ان أعلن علي أننا راحلون حتى تبادرت الفتياتُ مودعين والأسى يعتمرُ الصدور فكم من دمعة ذُرفت وكم من آهة سطرها في قلبي الأنين..
لا أعلمُ بما كنتُ أفكر، حيثُ أن شقيقي كانَ يُكلمني لم أكن معه ولا اذكر أني سمعتُ شيئاً مِما يقول ... وعندما سألني عن رأيي .. سألته عمَّا؟ رأيتُ على قسماتِ وجهه دهشة المُنكرِ لِما أنا عليه،
- مصطفى: حسناً عندما كُنتَ في المنزل مع زوجة علي ..كلمني أحمد عن فتاة لبنانية اسمها سعاد .. أظنها أخت لصديقه هي طبيبة ..
- نعم ما بها...؟
- مصطفى: أخبرني بأنها إتصلت مُنذ الصباح عشرات المرات به تسألهُ عنكَ بعد أن عرِفت أنكَ دخلت إلى للمستشفى ليلة الأمس
- نعم ما بها ولكن ...غريب هذا الأمر هل قال لك أحمد هذه الكلمات ؟
- مصطفى: نعم وما الغريب في الأمر ؟
- كيف عرفت هي أنني ذهبتُ إلى المستشفى؟ ما أدراها... غير معقول
- مصطفى: لا أعلم... لِما أنتَ مستغرب من الأمر ... ربما زوجة أحمد أخبرتها أو أحمد ...هذا ليس مهم ..
- لا هو مهم عندي يا مصطفى لأنها لا تعرفُ غير رقمي النقال .. ولكن اين الهاتف؟ ..أظنه مازال لدى علي في الغرفة...
- مصطفى: ما أدراكَ أنها لا تعلمُ سوى رقم هاتفك ولماذا مهمٌ هذا الأمر عندك؟
- يا اخي أنا لا أريدُ منها شيئاً .... لا اريدُ منهُن أي شيء ... لكن إستغربت معرفتها لأمر ذهابي إلى المستشفى.. لا غير .... إنه غريب... أعطني الهاتف...لأتصل بـ علي...
- مصطفى: الِأجل الهاتف ؟... سأطلبُ منه إرساله لكَ بالبريد ...لكن إن أحببت فرقمه هو الثاني على قائمة الإتصال
- نعم وجدته ....
أجريتُ الإتصال بـ علي وطلبتُ منه أن يعرف من سارة كيف كان حالة هاتفي النقال حين وجدته في الحديقة.. حيث أن هناك أمرٌ غريب أريد إستكشاف معناه... فطلب مني التريث ونادى عليها ...فسألها أن تتكلم معي ... أخبرتني أنها وجدت الهاتف على أرض الحديقة وكان هناك أحد ما يتكلم ... لكنها عندما سألت عمن يتكلم فلم يُجب أحد، فأغلقت الهاتف .. وبعد قليل عاد الهاتف للرنينِ من جديد وفي كل مرة لم يكن أحداً يجيب لذا فقد قامت بمحاولة لإطفائه لكنه لم يستجب للأمر فأخرجت البطارية منه... وسألتني إن كنتُ متضايقٌ لهذا الأمر فأجبتها بأن ما فعلتهُ هو الصوابُ بعينه وشكرتها على ذلك ثم طلبتُ منها أن تُمررَ الهاتف لوالدها وأخبرته بأن يُرسلَ الجهاز بريدياً لمنزل أحمد في فوجيشتا فوعد بأن يفعل ذلك صباح اليوم التالي
إذن سعاد عرفت مِنَ الهاتفِ ما جرى ... الإرتطام لم يَفصُل البطارية بل لم يغلق الهاتف وبقيت هي على الجهة الأخرى تستمعُ لما يُقال ويدور، وعندما اغلقت سارة الهاتف فلم ترى غير هاتفَ أحمد لتستعلمَ منه .. وتسألهُ عني ...كنتُ افكر وأنطقُ بالكلماتِ دون أن أعلم لأنني سمعتُ مصطفى يقولُ لي ... وما شأنها سعاد بكَ ... هل هناكَ شيء بينكما ...
- ألم يتكلم معك أحمد بأمرها
- مصطفى: قال بأنها أختٌ لصديقهِ تسألُ عنكَ بإستمرار وبأنها مهتمةُ بِكَ
- نعم ... يبدو أنها كذلك...
- مصطفى: ممتاز وبِما أنها طبيبة ... فمِن الممكن أن ....
- لا أرجوك أبعد عن ذهنِك هذا الأمر يكفيني ما بي ...
- مصطفى: غريبٌ أمركَ يا أخي! الفتياتُ يلاحقنكَ وأنتَ تَرفُسَ نِعمة الله
- (ضاحكا) الحمدُ لله .... آهـ .. يا مصطفى ..لو تعلمَ ما في قلبي من الجوى والألم لما قلتَ ذلك
- مصطفى: يا اخي هنَّ رياحيين الحياة
- وسُمها ... يا أخي صدقني ...وسُمها
- مصطفى: حسناً كما تشاء ولكن ليسوا كلهم في هذا سواء وأنا أعرف أنك عانيتَ من هذا الأمر .. عليك أن ترفسُ فقط من لا يُريدك وأن لا تعبأ به
- وهذا ما أفعلهُ ... وسأفعلهُ
كادت الساعةُ تقتربُ من الثامنةِ مساءاً حينما بدأت مَشارفُ فوجيشتا بالظهورِ أمامنا واضحةً جلية لا لبسَ بها ولا غموض فكلٌ ركنٍ بها عرفته وحفظته ... فتحت نافذة السيارة لأستنشق من عبيرها ... علَّ عبيرها يأتني بما يسرُ خاطري وبالي، ويُنعش بيَ الآمال التي ألقيتها خلفَ ظهري وفي ركنٍ من جيبِ بنطالي تقبعُ رسالتها...التي لن أمزقها والتي لن أقرأها والتي سأختارها من بين الأمور التي سأدفن نفسي معها وبها... أشار أحمد لمصطفى للتوقفِ على جانبِ الطريق، ثم نزل من سيارته وأشار إلينا بالنزولِ إليه وحينما وصلتُ إليه كان يُشير لشقيقي على بعضِ الأكواخ التي بدت مُضاءة بنورٍ خافت وقال هذا ما أخبرتكم عنه وفي الغدِ إحداهم سيكون مفتاحه معنا مشيراً لإثنينِ منهم لا يبدو وجودَ إنارة بهم، وعُدنا للإنطلاقِ من جديد .. من هُنا شارعٌ يؤدي لمنزلِ سمير وأمامنا ثلاث طرق فرعية على جنوب الطريق رابعهم يؤدي إلى.....إلى حينا الذي يقطن به أحمد.
لا أدري ... تَسارعت دقاتُ قلبي فأقسمتُ أني لن أنظرَ لمنزلها ... لا ...لن أنظر ..ولن ألتفتَ إليه ....لن أُعبِّره، لن يكونَ على خارطتي في يومٍ من الأيام ... لن اسمحَ لنفسي بالمرورِ من هُنا أبداً.. وها هي السيارة تلتفُ للدخولِ خلفَ سيارة أحمد ... إلى الشارع الذي يقطن أحمد بهِ... لِما لا يُسرع ..؟
- مصطفى: السرعة ممنوعة في الشوارع الداخلية ... ألا تعلم بالأمر؟
- هذا كثير ...
- مصطفى: لِما أنت متعجل ... هل تريد دخولَ المرحاض أو شيء من هذا؟
- لا يا أخي .... أين أنا من هذا الأمر (أغلقتُ عيناي والتزمتُ الصمت)
حين مررنا قرب منزلها وفيتُ بعهدي وإلتزمتُ بقسمي ولم ارى منزلها ولم أتلفتَ صوبه .... لكن يبدو أن قلبي اشتدت ضرباته عندما أصبح بجانبه وشعرت بتعرقِ في جَبيني ... لا أعلمُ لماذا؟
عندما وصلنا إلى منزلِ أحمد كان الأولاد نائمون وكان جيمي يمرح في الحديقة ويلتفُ حول نفسه في حركات مُضحكة يحرك ذنبه فرحاً بوصولِ سيده إلى المنزل فما أن أغلق أحمد باب سيارته حتى بدأ يلاعب سيده ويتقرب منه...
- مصطفى: ما بك ألن تنزل من السيارة ؟
- بلى ولكن إمنحني بعض الوقت ....
- مصطفى: (وهو ينظر لأحمد ويتكلم بصوت هامس) أنت لا تريد أن يعرف احداً بوصولك؟
- (نظرت إليه) ... كيف عرفت بهذا الأمر؟
- مصطفى: يا أخي الأمر واضحٌ عليك ... أنتَ بالنسبة لي كتابٌ أستطيع قراءةَ سُطوره
- إن كنتُ لا افهمُ نفسي أفأنت تفهمني يا مصطفى؟
- مصطفى: كما تشاء (متهكماً) المهم ماذا تريد أن نفعل الآن
- إستدعي أحمد ... أووووووف ها هي هيلين اضاءت الكشاف ... أظنها رأتني ... خلاص إنتهى الأمر ..رأتني
- مصطفى: وهل تريد أن لا تُكشفَ على النساءِ ايضاً .... ما بِكَ أخبرني هذه هيلين؟ وليست ما اسمها الأخرى ...؟
- هيلين: أهلاً يا خال .... اقلقتنا عليك ... كيف اصبحتَ الآن... و خالي.. مصطفى الحمد لله على السلامة كيف.. لم يخبرني أحد أنك جئت .. هل العائلة بخير ؟
- مصطفى: أهلاً يا هيلين الحمدُ لله كلهم بخير ... كيف والأطفال ... وحبيب كيف هو هذا الصغير .. هل تعلمين أنني لم أره منذ أن كان عمره شهر أو أقل ... كم عمره الآن يا هيلين؟
- هيلين: حبيب عمره سنة ونصف تقريباً ... منذ أن تعلم المشي وهو دينامو العائلة .. يبدو أنه سيكون لاعب للكرة، خال ألستَ متعباً.. تعال..
لم ارد أن تراني هيلين لا ادري لِما ولكن يبدو أنني أريدُ قطع علاقتي بكلِ ما يمتُ لها بصلة، لكنها ... هيلين !.. هذه هيلين ايها الأحمق التي تعتبرها ابنتك.... ما بِكَ .. ؟ هل تُبعد الشياطين ... أم تُبعد الملائكة ... إنها صديقتها ... نعم وماذا ؟ ألم تُبعد عنكَ سعاد عندما رأتها لا تُناسبك... ألم.... آهـ ...نعم نعم .... ستُبعد ألف ألف إن لم تناسبك ... ولكن من يُناسبك؟ أنت شقي ... تعيس .. بائس من يناسبك؟ لتذهب روحكَ إلى الجحيم... نعم هذا افضل .. لكن ليس الآن .. ليس الآن ..
دخلتُ إلى غرفتي والقيتُ على السريرِ جسدي، منهكٌ ..أنا ..أين الدواء؟ الدِوار يغزِلُ رأسي ..ربما في السيارة لا أدري... لِتنم ولكلِ غدٍ أمره .. عِش يومكَ ..فربما لا يأتي غيره...وإن إلتبسَ عليكَ أمره فدعه لسواه... وداعبَ النومُ عيناي وجابه السُهد وغزاه وفي مقتلٍ أصابه ورماه..
لا أعلم ماذا حصل ليلة الأمس ولا اعلم ما سيكون عليه يومي ... نظرتُ لوجهي في المرآة .. أيها التعس، وهل من رادٍ لقضاء الله فالتمس منه النجاة وامضي في يومكَ فلكلِ يومٍ شأن هو قاضيه... توكل عليه... نعم ... قلتها لنفسي وأنا أصُب على رأسي الماء وأسرعتُ للغرفة أرتدي ثيابي فأرتطمت قدمي بكيسٍ ورقيّ .. هذا ما رأيته من قبل مع شقيقي عندما جاء من مالمو .. يبدو أنه وضعهُ هنا في المساء ولم يُرد أن يُزعجَني في نومي، عندما وصلتُ إلى المطبخ لم يُكن في المنزل من أحدٍ سواي ..إنها العاشرةُ والربع صباحاً ... أحمد سيكون في عملهِ وهيلين أيضاً مع الأطفال وحبيب في الحضانة ولكن اين مصطفى؟ ألقيتُ نظرة من نافذة المطبخ ..المطلة على الحديقة .. لا يوجد أحد سوى خال هيلين وهو يقطنُ المنزل الذي يلي الحديقة يقطِّع بالفأسِ بعض الحطب ... هو يستعدُ للشتاءِ القارس ويجبُ عليه البدأ بقوة من أوائل الخريف كي لا تنفذ منه مؤونة الحطب، فدونَ الحطب يُصبح الشتاء القارسِ وبالاً على صاحبهِ فإستخدام المحروقات سيُثقِل كاهله وهو يعلمُ ذلكَ جيداً وخاصة أنه مُتقاعد وزوجه ربة بيت ولم يرزقهم الله الأولاد... لكن أحمد لا يعبأ بهذا الأمر فهو وزوجه يعملان... ولا بأس من إقتطاعِ جزء من الراتبِ الشهري يُخصصُ للمحروقاتِ وخاصة أنه سيُدفئ المنزلَ برُمته فلديهِ عدة غرف يستخدمها هو والأطفال ويجب عليه التأكد من إدفائهم خاصة عِند النوم فهذا واجبٌ عليه ... فالشتاء يصل إلى خمسة وثلاثين درجة مئوية تحت الصفر في بعض الأحيان في هذه المناطق وترتفعُ به الثلوج لعدة أمتار فتغطي الشوارع والمنازل والشجر... ولكن اين مصطفى يا تُرى ؟
أمازال نائماً؟ ألقيتُ نظرة على غُرفة الضيوف لكنها فارغة ... وبدا واضح أن مصطفى كان نائماً بها فالسرير ليس على عادته من الترتيب الذي أشتهرت بهِ رباتُ البيوتِ في السويد وخاصة هيلين... إذن هو ربما في زيارة لأحد اصدقائه هنا وأنا أعلم أن لديه العديد من المعارف كما أنه أمضى الكثير من سنوات عمره في السويد متنقلاً من مدينةٍ لأخرى، ولكن من يعلمَ أين هو وليس لدي هاتفه؟ ... وهاتفي ليس معي، وأنظر من النافذة مرة أخرى فيما أشرب قهوتي، إنه هناك مكاني المفضل قرب الشجرة ليتني ... لا لأبقى في المنزل فأنا لا أريد رؤية احد ... نعم هذا افضل ...صببتُ المزيدَ من القهوة وأشعلت لفافة تبغ ثم أخرجتها من جيب بنطالي ... وضعتها قليلاً قرب أنفي وأغلقتُ عيناي ... تخيلتها وهي تكتبُ وتُسضطِرُ الكلمات لِتنظر إليَّ وأنا نائمٌ مطمئنٌ بأنها مازالت قربي وبجانبي ... إبتسمتْ وطوتها ومن ثمَ وضعتها تحتَ علبة الدواء وكأنها تقول لي إشربها معهُ صباحاً ومساء... أعدتها إلى جيبي وعدتُ إلى غرفتي وما أن وصلتها حتى سمعت هدير سيارة تدخل الحديقة فأسرعتُ بالنزول ... دخل أحمد برفقته مصطفى إلى المنزل وما أن رآني حتى قال
- أحمد: صباح الخير ... كيف اصبحت اليوم ..
- بخير يا أحمد .. اين كنتما ... ولماذا أنت لستَ في العمل؟
- أحمد: ذهبت كعادتي لكنني أخذت إجازة اليوم لأصطحب خالي مصطفى ونوقع العقد الخاص بالكوخ خاصتك
- تمزح معي ...؟
- أحمد: ضاحكاً ... لا لما؟ إسأله وهو يشير لمصطفى ..
- مصطفى: هاك العقد .. وهو يقدم لي ورقة ممهورة بختم وتوقيع وتاريخ والكثير من الكلمات السويدية التي لا اعرفها... إذن اصبحَ لديك منزلاً خاص بك، ولكن عليك أن تعلم أنه مجرد كوخ اي غرفة واحدة لا غير .. ليس به سوى غرفة في العلية للنوم وأخرى في الأسفل بها منضدة والعديد من الكراسي التي لن تحتاجها وبالطبع يوجد مكان للطهي وحمام صغير ومدفأة تعمل على الحطب وعليك إحضار ما تريد ليكتمل ويكن سكناً لك .... فهل أنت سعيد الآن؟
- بالطبع أنا ...لا أعرف كيف اشكركما ...
- مصطفى: ما الذي تقوله ... نحن أهل يا أخي وأنت كبيرنا ... وهل ننسى أنك وقفت معنا دائماً في العديد من الأمور... لا هذا امر سهل، بعد الظهر وعندما تأتي هيلين سنرى ما تريده لنرسله لك إلى الكوخ وبعدها سنرى ما نفعله..
لم يكن أمر الإنتقال إلى الكوخ صعباً ...الأطباق والشوك وغيرها لم تكن موجودة لكن هيلين قامت بتوضيب البعض مما لديها ووسادتي التي تعودت عليها.. ولم يكن غير هذا ما أريد .. وما تبقى سينقله لي أحمد حينما يزورني كلما أراد .. في اليوم التالي ودعني مصطفى في الصباح بعدما ارتشفنا بعض من القهوة أمام منزلي الجديد وأوصيته وأوصاني وكان وداعاً حاراً بعض الشيء وهو يرمي بحضني حقيبته الجلدية الصغيرة...قائلاً ليعتني بك الله يا أخي .. وآخر ما رأيتَ منه يده وهو يلقيها في الهواء مودعاً إياي بينما كان يلتفُ بسيارته ليحتضن الطريق العام السريع الذي يجب عليه أن يسلكه ليقوم برحلتهِ الطويلة والتي ستمتد إلى ثمانية ساعات أو أقل لا أعلم ..
كان صباحاً جميلاً ...فأصوات الطيور المغردة على الأشجار تُغري بالخروج إلى الغابة التي تلتف حول البحيرة، تثآءبت كثيراً عندما وضعت الماء لتحضير القهوة حيث أنني سهرت كثيراً وأنا أكتب وربما قرأت بعض الصفحات هنا وهناك فليل الغابة يُغري بالسهر...لكن ما أن لمس الماء البارد جسدي حتى صرخت مساماته إنتعاشاً وحيوية ورائحة الصنوبر البري تُذاب في أنفي ... ما اشدّ جمال الطبيعة وما أجمل الحياة في العراء، لكن الطرقات الخفيفة على بابِ الكوخ أيقظتني من ثورة الإنتعاش تلك فيما كنتُ بصدد تناول القهوة ..فتحتُ الباب ..لم أتوقع غيرَ أحمد فمن سِواه يعرف مسكني لكنني فوجئتُ بها تقفُ أمام باب الكوخ تبتسم لي قائلة: صباح الخير..... يتبع
التعليقات (0)