سعاد والخريف - النهاية
لماذا دونت كلُ هذه الكلمات ..؟ ولماذا هذا الصباح ؟؟ لما تغافلت عن غيره من الأيام.... وقد أقبلنا على الحياة مرات كثيرة بعده بإنتشاء؟
تترافقُ الآلآم طوعاً عندما يأتي المساء وتسيح بظلمته أحلام وآمال وتخيلات يتوجها النوم، وفيما أنا مستغرقُ في نومي شعرتُ بها وهي تنساب من قربي لم أعبئ للأمر كثيراً وخاصة أن النوم بدا كسلطان جاثم على رأسي وبدني لكني بعد فترة شعرتُ بأنها لم تعُد لجانبي رفعتُ رأسي لأجدها هناك في زاوية العلّية ... أنهكها البكاء
- سعاد ... أتشعرين بسوء؟ (واتبعته بإستفهام) لما لا تأتي لقربي... تعالي
لكنها لم تُجب وبدت كأن لم تستمع لما قلته لها، فكرتُ فيما يمكن أن يكون ... آهـ ..يا للنساء حتى الفرح يجعلهن بواكي ..ألم نترافق النوم من قبلها سعداء وأغمضنا جُفنَ العينِ بالنكات والضحكات وافتعال المفاجآت
- ماذا في الأمر سعاد ؟ أمتألمةٌ أنت من شيء؟
لم أرى بُداً من الترفقُ وتفهم ما بها ... وكان هناك حيث تجلس القرفصاء تُرافقها الدموع والآهات، فكنتُ وهي في الأمر سواء جالسٌ قُربها أحاولُ معها لكنها ابدت التمنعات ... وكأنها غاضبة مني لأمر لا أعلم سبباً له...يُنقبنَ عن البُكاء ويفرُزن الحزن من الأمنيات ... أخذتُ بعد تمنُّعٍ رأسها إليَّ فأشهقت بالأنين قائلة: لِما لا تَعُد إلى حُضنها... حبيبتك؟ ... لا أدري لِما دغدغت صدري الكلمات ...وسألتها ..
- لما تقولين ذلك وهل أخبرتكُ أنني أود الرجوعَ إليها ..؟
- سعاد: لِما تذكرها في نومك إذن ... تناجيها عالية...؟ (وعادت للبكاء)
لم أُفاجَئ بقولها كثيراً بَل تعمدتُ الضِحكَ وأنصتُّ للبُكاء، إذ أني في كثيرٍ من الليالي أتكلمُ في نومي من الأعياء ...سمعتها من عالية وأخبرتني أمي بذلك ...
- وهل أنا مسيطرٌ على الأهواء؟ ما هي إلآ اضغاثُ أحلام ..تعالي إليَّ ...تعاليَّ (أخذت رأسها أقبله وأنا أضحك) ..أتغارين منها؟
- سعاد: لما لا أغار..لتعلمَ أمراً ...أنا أحبكَ و..أغار .. أنا زوجتك الآن..(تنتحب وتشهق في الكلمات)
- لأقل لك أمراً ....سعاد ...أولاً لستُ بصددِ العودة إليها ..لا اليوم ولا في الغد... وإن كان هناك في حياتي أمر فهو بيني وبين نفسي ...لا علاقة لك به ..وإن كنتِ زوجتي.. فهلا فهمتِ هذا... هي أم لأولادي ... وطليقتي ليس إلآ...(أخذتها في حضني) لنعُد للنومِ ..انا متعبٌ ..وأنتِ .. لا تظني بي بعد الآن...
كان الجو صحواً عند الصباح...وهي تتوسدُ ذراعي نائمة كما تركتها ليلة الأمس وبدا عليها شحوبٌ لم أعهدهُ سابقاً ...أتُراها أمضت ليلها بالترحال وسافرت أفكارها شرقاً وغرباً... يؤلمني هذا الأمر..لا أريد لها التعلقَ بي ...كما لا اريده لنفسي ... فأنا عاهدتُها على البقاء طليقاً ...ولم تعُد القيودَ تُغريني بالبقاء ...تداولتُ أفكاري قانعاً بالنظرِ إليها أبتسمُ عندما يطرأ بفكري نكاتها اللطيفة ليلة الأمس ... مرحة هي ...نعم جميلة ..جذابة بل عاشقة رائعة ... لأقل امراً ..دعك من هذا ..فالقيدُ لا يناسبني ... ولا أريدهُ بعد اليوم ...لِما ؟ لما تحسبه قيداً..أنت من جعل القيود بيدكَ ..ألم تتعلم أمراً ... أليس لقارب الحبِ شراع .. يجوبُ الحياة؟ .. لتكن ربانها ...علمها ما تريد ...الشراع ..الرياح ..الوجهة ...أعطها الأسباب لترسم لها الحدود ..خريطة الحياة.. أعطها الأملً لتمنحك الحياة ..ألآ يستحقُ العمر أن يُعاش؟
وضعتُ رأسها برفقٍ عن ذراعي فعادت لتُمسِكَ بيدها الذراع ... مُقاوِمة هذه الفتاة... كيف سيكونُ وقعُ الفراق؟ يجب إطعام الكلب وعليه الذهاب لقضاءِ حاجته ... سحبتُ من يدها ذراعي فعادت للنوم تلتحف الغطاء فيما كنت أغادر الكوخ يسبقني الكلب .... كان الجو منعشاً والهواء بارد وشديد قارس وكانت الشمس تذرع الفضاء بإصرار رائع وتبدو كزهرة توجت في محيط من اللون الأزرق ...والثلج الأبيض يكتسحُ الدروبَ وكأن للشجرِ لُحَى أيقظها الشيبُ على الغصون في لوحة أتقنَ الخالقُ رسمها في العيون...وبدت عيون الزهر ثملى يتلئلئ قربها خمر الثلوج وعلى الغصن النائي ترائ ليَّ زوج من الطيور... إنها الدنيا إستفاقت في حياة لن تغيب...كان للكلب دروب يحتفي فيها لعوب يسرح مني طويلاً يختفي ثم يعود وأنا أعبئ بالنسم صدري وألآعب قدماي في تمارين ويداي فما أجمل الفجر الندي وما اروع الشمس الطروب...
مضى الصبح سريعاً تخلله مجيء شقيقي سيراً على الأقدام حينما كنت أستحمُ بعد تمارين الصباح وفيما كانت سعاد تعد إفطار شهياً للعرسان، فوجئتُ به وأنا خارجاً أجففُ من الماءِ شعري وبدت نبضاته وهو على صدري يندي كأننا لم نلتقي منذ سنين طوال ...أمضيتُ الصباح معه نتسامر ومعنا سعاد وانطلقنا في دروبٍ قُربَ شُطآن البحيرة، ذلك اليوم تجلَّ فيه سردُ الذكريات قَصٌ من الماضي تخلله طعام الغداء، كانت سعاد بيننا تزهو بالحياة وردةٌ فواحٌ عِطرُها عَمَّ الهواء .... ما أن غابت الشمس حتى بدا أحمد وبيده بعض الأكياس يرافقه حبيب وجيمي كلبه الصغير الذي ما أن شاهده كلبنا حتى اسرعا باللقاء واللعب بين شجيرات قريبة من فناء الكوخ ومضت امسية اليوم كما مضى من قبلها الصباح سريع إيقاعها فغدأ يفارقنا شقيقي الذي إختلى بي لبرهة وسألني عن الحقيبة الصغيرة التي القاها بحجري ذلك اليوم الذي غادرني بسيارته، فسألته إن كان يريدها؟ فقال لا ...ضاحكاً ألم ترى ما فيها؟ فنفيت إطلاعي عليها وأخبرته بالذي يعرفه بعد ذاك مما جرى معي ولِما يسأل عنها إذن سألته، فأجاب بنبرة متشككة القيتها إليك مليئة بالنقود ..أحقاً لم تعلم ما فيها؟ ...فأعدت عليه النفي، فاستغرب للأمر ...لكنني بحثتُ عنها وألقيتُ عليها نظرة أمامه وبالفعل كانت مليئة بالنقود كما تركها ..ودّعتُ شقيقي خارجاً وعدتُ أحمل الماضي الثقيل في جوفي...وحيدين عُدنا يجمعُ بيننا سقفٌ غريب...من جديد.
ليس للألم مكان هذه الليلة ...غير كوخ يترامى بين غاب وبحيرة ... لو تعلمي كم أنا يا سعاد وأنتِ أشقياء ... فغداً أو بعد غدٍ سنمضي في الدروب غرباء ...أهي الحياة تسير الهوينا لا تعرف معنى للوفاء؟... أتظنين نعود ونلتقي تحت سقفٍ السماء ...أترانا نلتقي يوماً وقد تاه عن ذكرنا الفرقاء .... تحدثني نفسي بهذا وعيني تطالع سقف الكوخ وهي في الأسفل لبعض شؤونها ...وعندما أصبحنا معاً سألتها عما ستفعل بعد إنتهاء التدريب ... لم تجب وقالت بعد تفكير بأن خططها للأمر اصبحت مشوشة، وسألتني لِما؟ ... وهل لدي خطة لها ...
- مجرد تساؤل ... لأعلمَ كيف ستمضين في حياتك
- سعاد: ماذا ستفعل أنت؟ هل ستبقى هنا أم ...
- مثلك لكنني بدون خطط ...لا شيء ... لا أعلم
- سعاد: (وهي تضمني إليها) .. إذن لِما لا تأتي معي؟ ألم تحبني ...لا ... ألم تحب رفقتي.. سأكون لك ..كما تريدني أن أكون ..
- لا أعلم صدقيني ولكن ... أنت يا سعاد تستحقين أفضل من هذا... صدقيني..فأنا لست كما تظنين... روسيا لا بالطبع لا ....مستحيل
- سعاد: إذن لبنان ...هنا... اي مكان ...اينما تريد ...نعم لما لا (وهي تجلس) ... نستطيع البدء من جديد أنت وأنا .. لماذا لا تفكر بالأمر
- سأفكر على شرط ... أن تقبلي بالنتائج مهما كانت ...
- سعاد: أي نتائج تقصد ؟
- ما سأصل إليه بعد التفكير ... إن كنت ساذهب وأنت معاً أم لا... ماذا ظننتِ؟ لننم الآن فأنا متعب ...
- سعاد: (بعد تفكير) .. لتعلم أمراً قبل التفكير ... لن اضايقك بأي شيء عن الماضي ولن اقول اي شيء عما تقوله خلال نومك لا لن أتضايق ... ما رأيك ... ؟
- ممتاز هل نستطيع النوم الآن؟
- سعاد: ألن تفكر بالأمر الآن؟ (وهي متفاجئة من أنني أريد النوم قبل التفكير)
- غداً إنشاء الله نتكلم بالأمر ...
- سعاد: ... هل تظنني سأنام بإنتظار الغد... كيف يأتني نوم ولم تُطلعني على ما تريد؟
- لأنني لم افكر بالأمر بعد يا سعاد أووووووووف كلكم بهذا سواء .. الأمر .. يحتاج لتفكير يا سعاد والآن أنا بحاجة للنوم فهل أقل لك بأنني قد فكرت وبأنني لن اذهب لترضي... حتى أنام ...أم ننتظر حتى الغد
- سعاد: لا .. ليس قصدي بل ننام وغداً نفكر بهدوء.. نعم حبيبي بهدوء ..ليس قصدي (بصوت خافت)
لكنني استطيع الجزم بأن أفكارها شردت كثيراً كما أنها قامت بالنزول والصعود لمراتٍ عديدة من العلية إلى الفناء أو المطبخ أو الحمام لا اعلم... لكنها في كل مرة كانت تحاول الصعود وعدم إصدار صوت عندما تعتلي السلم ولم تنجح في ذلك أبداً، وكان هذا الأمر صعباً بعض الشيء .... أشعر بها ... أشعر بقلقها .. يخالطني مزيج من المشاعر ...ضائع أنا بين البقاء والرحيل ...لكن ... لا للعواطف بعد اليوم ...هذا أفضل لي ولها ...هذا هو القرار ...نعم البقاء
في اليوم التالي غابت سعاد عن واجهة الصباح ...عانت طوال الليل من الأرق والسهر والتفكير فانعكس ذلك عليها ..ما أن أتى الفجر إلآ وكانت غارقة في سُباتها ... كلمتُ أخي بالهاتف.. كان مايزال في المحطة بإنتظار القطار.. سألني عما سأفعله مع سعاد فأخبرته بالحال الذي أنا عليه ... سألني عنها وقال هي طيبة لِما لا تبقى معها ...لن تجد مثلها ..فلم أردَّ عليه ...فقال هي حياتك إذن ... لكن لا تُطلقها فربما عدت في يومٍ إليها من يدري.. وأغلقنا الهاتف بعد وصول القطار
ألم تكن عالية طيبة في نظر الجميع؟ أم كانت في نظري أنا ملاك...
عند الظهيرة جاء سمير وزوجته ومعهما طفلاه ... كانت سعاد لاتزال في نومها غارقة فسألني عما بها.. فأخبرته بما يدور في رأسها وبما تُريد ... بدا عليه الإنزعاج مما أخبرته به ... سألني
- سمير: لما تزوجتما إذن؟ (والجواب لو قيل لكان ثقيل... ترويت بالأمر وأنا اصب له المزيد من القهوة)
- ألآ تظن أننا بحاجة للمزيد من التفكير في الأمر هي لا تعمل وأنا كذلك ولم نخطط للأمر ولديها سنة من التدريب... لنرى ما سيكون
- سمير: النقود ليست مشكلة؟ فأنا..(مقاطعاً)
- لا لم تكن النقود في يوم مشكلة... لم أتكلم عن النقود ...تكلمت عن العمل ..تعلم كيف النساء يفكرن
- سمير: إذن ما رأيها هي؟
- لم نقرر بعد ... أنت تعلم النساء يُسهلن الأمور كثيراً في البداية..وبعد ذلك يبدأن في الضرب ....لنرى كيف سيكون الأمر (ضاحكاً)
- سمير: (ضاحكاً) نعم معك حق ... ولكن ... كيف الحل برأيك؟
- لدينا وقت يا سمير ....لدينا سنة من التفكير في الأمور
- سمير: إذن ستبقى أنت في فوجيشتا بينما هي بيلوروسيا ..و...بعد ذلك تخططون للأمور
- لنرى ما سيكون لا أعلم ...لكن بالتأكيد سنختار الأفضل...نعم ربما كما تقول
غادر سمير متوجهاً إلى عمله فيما بقيت ليزا والطفلين ليمضيا اليوم برفقة عمتهما وخاصة أنها ستغادرهما يوم الغد، كانت ليزا متفهمة للأمر أكثر من سمير بطبيعة الحال فهي تعرف خبايا الأمر أكثر منه ... لا أدري إلى أي حد لكن بدا لي أنها تعلم كل شيء ... عند الثانية من بعد الظهر استفاقت سعاد من نومها وفوجئت بوجود ليزا والأطفال الذين إشتاقت لرؤيتهم لكنه بادرتني بالسؤال
- سعاد: ألم تتناول إفطارك (وهي تنظر إليَّ)
- لا لست جائعاً ... إكتفيت بالقهوة
- سعاد: أنا آسفة ... لم أكن متواجدة ... لم استطع النوم ليلة الأمس
- أعلم ... و كان سمير يسأل عما سنفعله (مقاطعة)
- سعاد: وماذا أخبرته ؟
- لم نخطط للأمر بعد ... سعاد ... ليزا هنا والصغيران معها ..سنتكلم بالأمر لاحِقاً ..هه
- سعاد: فهمتني...خطأ ... لست أجادلك بالأمر ... سأكتفي بما تريد قوله... إما لا وإما نعم... فكرتُ بالأمر كثيراً ليلة الأمس ... معك حق..ربما تسرعتُ أنا بالأمر وفرضتُ عليك نفسي... لكن عذري أنني أحبك (وعينها تدمع) ومع هذا (تضحك) ..هل تُنكر أننا أمضينا ايام جميلة معاً (تمسك بيدي وتضغط عليها برفق فيما ليزا تتابع الأمر بصمت) ..
إحتضنتها فيما بدأت تسيل دموعها على صدري ... أتعبتني سعاد ...أتعبتني ... العاطفة الجارفة تأخذني بعنفٍ معها تقتلني سعاد بحبها ...تزرع الأمل وتحصد الألم ... أي قسوة تلك التي بين الضلوع زرعها الماضي في قلبك؟ ...كل هذا تبدد في لحظة إنكسار سعاد أمام مرفأ صدري ...نحيبها ...شعرت بالقلب الذي يحتويه أضلعها ينتفض متألماً يستصرخ بي الحب ...لكنه مات في قلبي ... ألَمْ تبكي عالية من قبلها على صدرك آلآف المرات؟ ألم يتبدل الحب وأمسى صارخاً بالخيانة والجحود ...
- الأولاد سعاد ...ليزا هنا
- سعاد: لأبقى قليلاً .... لن أبكي ..(تحضنني بقوة)
أخرجت ليزا الأطفال ليلعبوا قليلاً مع الكلب فيما بقت سعاد في حضني رأسها على صدري تنظر إلى وجهي حيناً .. وتقبلني حيناً آخر وكأنها تستعطف ما تبقى من إنسانيتي ....ولكن هل تبقى مني شيء لآ أعلم ... وكل ما شعرت به كان ألم ...الم لأنها تتعذب ...لكن ليس لي ذنب بهذا ...نعم
- أرجوك أن تفهمي ...أنا لا أكرهك بل أحببت فيك كل شيء ...كل شيء لكنني لا استطيع المضي فيما تريدين
- سعاد: لا اريد اي شيء (تمسح دموعها) لنبقى الليلة معاً ... فقط هذا ما أريد ...لنجعلها ليلة الوداع ..هه حبيبي (وأشهقت بالبكاء من جديد)
قبلتُ رأسها وأجبتها لما تُريد وسألتها أن لا تُظهر أمر بُكائها للصغيرين ... إبتسمتُ بوجهها وقبّلتُ الشفاه ورجوتها أن تُسيطر على نفسها فاليوم ليزا هنا والأطفال يتوقون لرؤيتها والجلوس معها فأجابتني لما أريد...
إتفقتْ مع ليزا على أن يمُرا عليها في الثامنة من صباح الغد فيما هما يأكلان البيتزا التي أرسلها سمير لإصطحابها إلى مطار أورلاندا فالطائرة لن تغادر قبل الثانية من بعد الظهر وسيكون لديهم المتسع من الوقت لتناول القهوة هنا ومن ثم الإنطلاق والوصول إلى المطار قبل مغادرة الطائرة إلى أمستردام ومنها إلى مينسك بثلاث ساعات على الأقل... أمضيتُ ما تبقى من نهار اليوم في القراءة والإستماع لبعض الموسيقى فيما كانت سعاد ترافقها ليزا تقومان بالتجوال أحياناً أمام الكوخ وملاعبة الصغيرين ..
كانت سعاد تختلس إليَّ النظرات فيما كنتُ أحاول القراءة ... لم أفهم شيئاً مما قرأته فأستعيد الصفحات مرة تلو الأخرى وكأنني اقرأها من جديد، أهي النظرات ما يقلقني أم ما يدور في رأسي يسقمني ويُحيد بي عن التركيز فيما أقوم به ... ألقيتُ الكتاب من يدي لا زهداً فيه واصغيت للحنِ الجميل لا حباً فيه وأغمضتُ في الأسى عيوني أحاول إرضاء شيء بي ، وكأن ما أسقمني أمام عيناي بينما الصرخاتُ في جوفي تعذبني أهو الضمير ما يؤرقني..؟
سهت عيوني عن الدنيا وما فيها ويبدو أنني رقدت في مكاني وما تنبهت إلآ وسعاد توقظني وتخبرني بأنها عادت لتوها من منزل أخيها.. غريب أمرها هذه الفتاة ..ذهبت لتعود وحيدة وحقيبة السفر الغريبة .. بين يديها .. وارتجاف الشفتان .. ولهاث كالشريدة ...عادت ...مشياً على الأقدام... لِما ؟ سألتها وأين كان أخيكِ... فيما هي تدير وجهها بعيداً عن عيوني وتذرف الدمع شجون... أترانا يا سعاد في غربة حمقاء؟ سوداء وهذا الثلج يا سعاد.. لما الجفاء ... هل الغربة تقبع في نفوسنا أم أننا نقبع بها وبها نتمثل غرباء ... اشارت إليَّ أن لا تعبأ بما لا يهم ... فقلت وما المهم ... أجابت أن نكون معاً ...هذا المهم... وأن نكون سعداء... وأردفت ...وأنا أحمل حقيبتها ..هل سيبقى شيء؟ لم ألقي لها بال ...لم ألقي لها بال..
كأنها الدنيا تُنازعني وتدور بي وكل ما حولي أصبحَ خصمٌ يُقارعني، وكانت بذهنِ الليل تختبئ ينتابها الحزن والأشجان والكمد ترنو إلى الحلمِ تستره فيكشفها لحظ العيون وفيه الدمع ينسكب، حيرى فما حلم يؤنسها... والحلم كالأطفال تحتضن .. ولا أمل بها الدنيا .. وكاد الأمس بالآمال يبتسم، في الوجد صرعى تغيبُ من لواعجه ..سكرى بخمرِ العشق والسدم... مرت بها كمرور النسم لا تألو جهداً ولا ترضى بها السقم ...كانت سعاد كما الأحلام ليلتها نبعٌ من العشقِ فيه الشهدُ والعسل بزَّت آلهةَ الحُب قاطبة فأخلوا لها التيجانَ وأرتحلوا.... هذي سعاد التي ما فتأت... تقتاتُ مني ومِنها أنهلُ السُكر ... واقبلَ الفجرُ سريعاً على عجلٍ وكأنَّ للآلهةِ أعوانٌ بهِ وصلوا ... وكأن الثواني إن مرت تمر بنا سرعى وفيها النار والجمر... وأقبلت ساعة الهجر تمتشق حد السيوف وفيها الموت ينتصر ... كانت سعاد من وجدٍ بِها ثَملُ ومن أرياضها الأحزان والقهر ... وفي مغادرتها لي ابقت يدها على زجاج السيارة الخلفية .. تودعني ..لم أنظر إلى عينيها .. إتفقت معها أن تتصل بي من المطار بعد مرورها من الكونترول وبعد أن تودع ليزا وشقيقها....
منهك كلمة تقال بالفم لكنها بدت واضحة المعالم عليَّ ...جسدي، روحي وكل ما فيّ متعب حتى ... أرهقني ما أنا فيه فعدت إلى فراشي وبيدي هاتفي .. النقال..كانت تتصل بي كل عشرة دقائق ..علامة بيننا ... وبعد وصولها إتصلت بي كما اتفقنا ودام الحديث بيننا لمدة تقارب النصف ساعة ..تبثني لواعجها وتنتحب حزينة للفراق .. تسألني الإهتمام بنفسي ونسيان الماضي وتحثني على البدء بتنظيم حياتي وبأنها أبقتني في عروقها للأبد .. سألتها عن معنى هذا .. فلم تجب لكنها قالت أتذكر يوم رقصنا معاً في الحفل ... الم اقل لك أنت ملكي ... ستظل ملكي ..وشهقت بالبكاء قائلة لكن ستبقى في عروقي للأبد واقفلت الهاتف على أن تتصل بي عند وصولها إلى المنزل في مينسك ...
يبدو أنني سأستطيع النوم لبضعة ساعات ... وضعت الهاتف على الشاحن وأغمضت عينيَّ لبرهة ليعود الهاتف من جديد يزعق في أذني ويوقظني من جديد وكان الإتصال منها فسألتها لما اتصلتِ فقالت كما اتفقنا لقد وصلت إلى المنزل، ألقيت نظرة على الساعة وكان قد مضى أكثر من سبع ساعات بالفعل ... فطلبت منها أن تفتح الحقيبة وتنظر في جيبها الداخلي وعندما فعلت قالت هناك ظرف ... أجبت هو لك بكل ما فيه ... إقرأيه حينما تشائين ..الوداع يا سعاد إهتمي بنفسك ... الوداع ...وأقفلت الهاتف ..ألقيته جانباً وعدت للنوم...
في العاشرة مساءاً أفقت من نومي جائعاً ... تذكرت الهاتف .. اعدته لحالته الأولى وذهبت لإعداد الطعام ... لكنني لم اصل المطبخ حتى عدت للهاتف وإذ بها سعاد... تصرخ بي تأنبني وتبكي بحرقة ولوعة ...لماذا فعلت ما فعلت بي؟ سألتها عما فعلته ؟ فأجابت لماذا أقفلت الهاتف؟ فقلت لأنني أريد العودة إلى النوم وحتى لا يوقظني الهاتف من جديد
- سعاد: أنت لا تعلم ماذا فعلت بي.... أمتني لمراتِ عديدة ... هذا لا يجوز (وهي تنتفض وتنتحب في البكاء ) لا يجوز...
- لكنني متعب يا سعاد .. وأردت النوم ...ألآ استحق بعض الراحة وقد أنهينا الإتصال؟ أنا لم اغلقه من أجلك ولكن من أجل أي كان ... لأنني كنت متعب ..على العموم أنا آسف ... اعتذر لكنني تصرفت حسب الإتفاق
- سعاد: لكنني حسبت أنه أغمى عليك كما حصل في فسترأوس وسقط منك الهاتف و...(مقاطعاً)
- (ضاحكاً) سعاد ألم نتفق على عدم الإتصال .... فلما اتصلتِ بي؟
- سعاد: لأسألك ... لأقل لك.. هذا كثير ... ولكن لا تغضب مني هو سؤال لا غير لا اقصد به شيء ... لما فعلت هذا .... (وهي تبكي) هل..هو ..ثمن ..(مقاطعا)
- لا يا سعاد ..لا تظني هذا بي .. أنت كنت زوجتي ... أرجوك هذا ملكك ولك ...حقك يا سعاد ..أنا آسف
- سعاد: لكن أنا لا استحق هذا ولم..(مقاطعا)
- أرجوك يا سعاد ألم نتفق في الأمس على كل شيء... نحن الآن اصدقاء ولكن كما اتفقنا ...لا لقاء .. لا إتصال
- سعاد: كما تريد ... ولكن ارجوك لا تغلق الهاتف.. لن اتصل بك ولكن ..حتى إذا اتصل غيري (ضاحكا)
- حسناً ..مع السلامة سعاد .... الوداع ... الإتفاق...سعاد ...وداعاً
أأغلق الهاتف..أستعود لتتصل من جديد؟ ... هل ستلتزم بما اتفقنا عليه؟ ... كيف هي يا ترى... أحزينة تبكي ... ستنسى ..كلهم ينسون ...نعم كلهم ينسى ...سرعان ما تنسى ...لأذهب للطعام... جائع أنا!
تبددت دقائق الأمسية سريعاً بين تجهيز الطعام وتناوله وكان الهاتف يدق كل نصف ساعة تقريباً لمرة واحدة ويعود للصمت من جديد ... لم أنظر إليه إلآ في المرة الأولى ... ولم أغلقه ...لكنها ستعود ولن تحفظ العهد والوعد والإتفاق...كلهم لا يفعلون..لم أرى مشكلة فيما تفعل ..دعها ستمل ..ستنام ..ستنسى..
أمضيت ما تبقى لي من المساء في المطالعة وكتابة بعض الخواطر فيما كنت أراقب الكلب وهو يجثم أمام المدفأة ...خطى الشتاء ثقيل وطأها هنا والتكاسل لن يفيد ....
مضت الأيام سرعى فيما كنتُ منغمساً في كتابة ديواني الجديد الذي أرتايت أن أطلق عليه اسم أوراق الخريف ... في الإسبوع الأول كانت سعاد تتصل في الصباح وعند الظهر وقبل المغيب ربما لتعلمني بأنها إستيقظت من النوم وبأنها عادت للمبيت لكن إتصالاتها تباعدت شيئاً فشيئاً حتى ظننت أنها قد ملت من هذا العبئ اليومي وأن مشاغل الحياة لا بد ستلهيها في الوقت الذي إنقطعت علاقتي بأخيها سمير ..
وفي يوم من أيام الشتاء وقد مضى الخريف بأمسياته العبقة وذكرياته التي يرتج صدها في أنفاسي ففي كل زاوية أراها أمامي تزور مخدعي في الليالي لتعرّي برؤياها أحلامي، تبادر إلى سمعي صدى دقات على باب الكوخ فيما كنت أستمع لسميفونية من روائع رحمانينوف بينما كنت أستعد لتحضير الكانيلوني وابدأ بتقطيع بعضاً من الصمون إستعداداً لأمسية إيطالية رائعة وخاصة أنني أحضرت السي دي الخاص بأوبرا فيردي التي لم أكن قد إستمعت إليها من قبل ... كالعادة حسبته أحمد فلا غيره يزورني من الكائنات في الأمسيات وما أن فتحت الباب وفي حركة مسرحية أرحب به على وقع الموسيقى الملائكية حتى فوجئت بها أمامي ..... لا ... لا أدري ما الذي أصابني مذ رأيتها ... لا أنكر بأنها قد زالت من ذاكرتي ولم أتوقع حضورها ولا لقاؤها في يوم من ايام حياتي... ليندا ...تلك المسافرة فوق السماء وبين النجوم تختال في حضن الليالي ببابي ...تحتال بالنظرات عمن يكون في جوف داري ...ألقت بتحيتها واستأذنت بالدخول فأومأت لها برأسي وفي يدي ملعقة خشبية أعالج بها الكانيلوني، ما أن رأتها حتى تبسمت كعادتها وتابعتُ وراءها دخولي ... ما الذي أتى بها يا ترى؟ كانت تطالع في شغف جدران الكوخ ...تتلاحق نظراتها في المكان ...تتفحص زواياه في صمتِ وعليّته كأنها متفاجئة بما ترى،
- ليندا: سألتها عنك ...
- من؟
- ليندا: هيلين ..أخبرتني أنك عانيت كثيراً في الأيام الماضية...أنا آسفة ..لم أعلم بهذا الأمر سوى ليلة الأمس ... ما الذي جرى معك وكيف أصبحت الآن؟ ...
- لما لم تعلمي سوى في الأمس؟
- ليند: ألم تقرأ ما كتبته لك؟ ...
- وما الذي كتبته لي..؟
- ليندا: ألم تجدها تحت علبة الدواء حيث تركتها ورقة صغيرة... يبدو أنك لم تنتبه لها ...لم اجرؤ ..على إيقاظك لم تنم كثيراً في تلك الليلة ...لكن في الصباح الباكر جاءني هاتف من طليقي يعلمني بأنهم في المستشفى ...حادث سيارة .. الحمد لله كانت إصابات خارجية لكنها قابلة للشفاء ...هل تعلم بأنني شكرت الله وأنا في القطار .... أنت ملاك أرسله لإبنتي رب السماء... كنت رائعاً تلك الأمسية هل تعلم أنك أنقذت ابنتي ...
- واين هي الآن ...؟
- ليندا: في منزل أبيها ...تحتاج إلى وقت حتى تعود للشفاء ...زوجة ابيها تعتني بها ...إمرأة صالحة لكنها تعاني ...كما تعلم...
- ولكن لما هي ليست معك هنا ..
- ليند: لا ... لا هذا أفضل لها ... السفر يتعبها ..المهم أن تشفى ..وأن تكون بخير...
- أنا آسف ... لم أعلم ...
- ليندا: لما تأسف ...لا أحد يعلم سوى المدرسة ...بالطبع هيلين ...لكنها أخبرتني بأنها لم تقل لك ...غريب أنها لم تشاهدك...
- نعم لم أراها منذ عودتي من فيسترأوس و ..ومرضت كانت الأمور هنا .. صعبة قليلاً ...
- ليندا: نعم سمعت بهذا ومجيئ أخاك ايضاً ... لكنك تبدو بحال أفضل ...
- نعم أنا أفضل ولكن جائع.. هه .. ما رأيك ... نأكل معاً
- ليندا: ماذا تطهي؟
- هل تحبين الطعام الإيطالي .. ..
- ليندا: (ضاحكة) لا تمزح معي ومن لا يحبه....
- إذن هاك السكين قطعي الصمون .....
نزعت معطفها الجلدي وشمرت عن ساعديها ضاحكة وهي تقول: وتطهو أيضاً ، يبدو أنك تعرف الكثير ... طعام إيطالي ..ستعلمني أليس كذلك...؟
عادت الإبتسامة جذلى إلى الجدران الخشبية ... والموسيقى تنساب حالمة في فرح تعانق سقف الكوخ وتتهادى على جنباته في رفق بينما كنت أعلمها كيف تقوم بتحضير الطعام وعندما أنتهينا من تناوله كان فناء الكوخ ملتقانا للرقص على أنغام حالمة يعانقها الرجاء والأمل في إنكسار النظرات من خجل رأيته يتوارى رويداً من عينيها فيما كانت شفتاي تتلمس في شوق اليتيم فمها وتنغمس في قبلة طال الإنتظار إليها ... أهـ .. إنها الحياة ترنو إلى حضني من جديد ..أتبتسم طويلاً أم تغوص بها الألآم في جوفي لتنحر البهجة في عيوني... وتنزع من عمري المزيد ...إنه الشتاء قد أتى يختزل في لياليه كل أيام الخريف.
مازلت اذكر تلك الليالي والأيام الحالمة ... كانت ليندا كالنسمة التي تهفو النفوس إليها ... ناعمة كالحرير أيامها ولياليها ...في ايام الشتاء القارس تم زفافنا ...بسيط لكنه دافئ ..في يوم عاصف جمعنا أمام مدفأة الكوخ الصغير حيث الوهج المتراقص على الوجوه ... تركت الكوخ بعدها بأيام على مضض مني لنقيم معاً في منزلها ... لكنني مازلت احتفظ به لأيام تأتي بالربيع وأيام تذهب بالخريف حيث تبدأ الحياة وتحتضر في عناق دائم ابدي مع الطبيعة ...
أعدتُ الصفحاتَ التي أرسَلَتها إلى المظروف بعدما قلَّبته مِراراً وأنا أطالعُ العلية في صمتٍ...أتساءلُ ... لِما تُذكِّرني سعاد بلياليها ولِما بعد عام مضى حتى ظننتُ أنها مَلّتْ ونَسَتْ ... هل تحاولُ أن تثبتَ لي أمراً ... أم أنها تُداعِبُ الماضي لتُدغدِغَ حاضري ...أم تُراها مازالت تعيشُ في أنفاسي كتلكَ الجمراتُ المختبئة تحتَ الرماد؟ لا ليس في قلبي دروب لها ...لا شيء هنا ولا شيء هناك ... وفيما اضحكُ من تساؤلي كانت ليندا تفتحُ بابَ الكوخ تدلف منه وقد عادت وابنتها من المدرسة ...تنظرُ إليَّ في شوقٍ ودهشة وهي تبتسمُ كعادتها وفي يدها زهرةٌ صغيرة بيضاء، أقبلت بها إليَّ تطبعُ قُبلة على الشفاه قائلة: نعم هكذا احبك سعيداً مرحاً ... وفيما كنتُ أحضنها بيدي كانت اليد الأخرى تُلقي بالمظروف إلى النيرانِ أمامها ... تُسائِلُ عيناها عيناي عمَّا به لتُجيبها عيناي أن لا شيء به سوى اضغاثُ أحلام فيما كانت النيرانُ تلَتهَمُ في ثوانٍ ما كتبتهُ الأيام والليالي .... النهاية
التعليقات (0)