سـرقـة المــال العــام
الحلقة الثالثة
اقـتـراح :
في البداية ، اقترح على الجهاز التنفيذي للحكومة ، ان يشترط على كل من يتم ترشيحه لمنصب عمومي ، يتيح له ويمنحه ويخوله سلطة إتخاذ القرار ورئاسة اللجان ، أن ينجح هذا المرشح في امتحان تحريري أمام مفتي الديار أو من يمثله ، تتلخص أسئلته في مفهوم المال العام وسلبيات إهداره وسرقته والاستيلاء عليه على اي نحو وأي شكل من الأشكال ، وكذلك حفظ ثلاث آيات تحرم سرقة المال العام وإيراد خمسة احاديث نبوية على الأقل ، حول حرمة المال العام والعقوبة التي تنتظر مرتكب هذه الجريمة عند العرض على الميزان يوم الحساب..... ثم بعض الفتاوي التي صدرت من الأئمة الأربعة عن حرمة سرقة أو مد اليد للمال العام ....... وحتى إذا كان هذا المرشح للمنصب من غير المسلمين فلا نشك أن كافة الأديان السماوية الأخرى وحتى الوثنية الوضعية قد حرمت سرقته . لأنه لا يستقيم أن يبرره أو يحلله دين أو مذهب.
أحد زبانية العذاب كما تتخيله بعض الديانات الوثنية
كذلك أقترح على وزارة التربية والتعليم صياغة باب خاص عن المال العام ضمن منهج التربية الإسلامية ، يتم تدريسه وتلقينه للتلاميذ في مراحل سنية مبكرة ، فالتعليم في الصغر كالنقش في الحجر وحتى تنغرس في عقولهم حرمة هذا المال قبل ان يكبروا ويفوت الأوان فيظلموا أنفسهم وزوجاتهم وأبنائهم.
مسئولية الدولــة:
لا يجوز بأية حال من الأحوال ، أن تعفي الدولة عن نفسها مسئولية ملاحقة البعض من سارقي المال العام على نجو خاص ، وهناك العديد من القوانين القائمة التي يمكن تفعيلها أو التي يمكن ابتداعها ، وربما يكون من الأفضل إنشاء مكتب إدعاء دائم مستقل يطلق عليه مسمى ((مكتب المدعي الوطني)) يعمل وفق قانون، يخول له تلقي شكاوى من المواطنين أو الدولة تجاه أي مسئول عمومي أو رجل أعمال بشأن سرقة المال العام ، وحق فتح تحقيق بشأن هذه الشكاوي ، ويكون له حق إقامة الدعوى وتوجيه تهم الثراء الحرام من منطلق ((مـن أين لك هــذا)) ؟؟؟؟ ....
وحبذا لو يجبر المسئول العمومي قبل تعيينه ، على تقديم كشف حساب إلى ((مكتب الدعي المشار إليه) مصدق عليه من مصلحة الضرائب وديوان الزكاة والأراضي والبنوك ، بما يفيد عن ممتلكاته وأرصدته في البنوك وأسهمه في الشركات العامة .. إلخ وكذلك ممتلكات زوجته ومن يعول ، قبل توليه منصبه. ثم تلقي كشف حساب سنوي من المسئول ، ومراقبة النمو في هذه الممتلكات والأرصدة والتحويلات المالية إلى بنوك الخارج .. إلخ من أساليب مراقبة وقواعد محاسبة.
مسئولية الإعـلام:
المجتمع لا يخلق وعيه بنفسه ، ولكن من واجب الجهاز الإعلامي المساهمة في خلق مفاهيم جديدة ، يغرسها في عقل الأفراد ، وبحيث تنغرس قناعات تشجب وتدين وتلفظ مرتكبي سرقة المال العام، بدلا من الاحتفاء بهم ، ووصفهم بألأذكياء والمحظوظين والفالحين واستقبالهم بتعظيم سلام ..... إن مجرد إجراء مقابلات مع المسئولين لمناقشتهم أو محاسبتهم بشأن تقصير هنا أو حادثة هناك ليست شافية ، وليست هي بالمقصود ، لأن مسئولية الإعلام تمتد أيضا إلى مرحلة درء المفاسد ، وتغيير أو تعديل القناعات والمفاهيم على أقـل تقـدير.
مسئولية منابـر الجمعـة:
تكاد منابر خطب الجمعة في المساجد ، تخلو تماما من تناول ظاهرة وجريمة سرقة المال العام وموقف الشرع الحكيم منها، باعتبار أن هذا المال حق أساسي من حقوق العباد ، لا تقبل التوبة النصوح منه وفق ميزان العدل الإلهي ، إلا وفق شروط أربعة أهمها إعادة الحق إلى أصحابه ، أو بمعنى آخر أن يعيد سارق المال العام جميع ما سرقه من مال بمختلف أشكاله وأساليب سرقته إلى خزينة الدولة مع الأرباح ، وتسليم نفسه إلى ساحة القضاء حتى يقول فيه كلمته.
ربما تكون هذه مجرد "ضحضاحة" على طرف جهنم
إن حرص خطباء المنابر ، ومن باب الإيحاء بأنهم منفتحين وعصريين وغير متشددين ، ومن باب تجنب اتهامات ومقولات العامة الجهلة في الشارع العام وترديدهم لشعار ((بشروا ولا تنفروا)) ..... هذه الشعارات العامة التي يرددها البعض في اختزال واضح لمعانيها ، ودون فهم وإدراك لشروطها وكيفية ومتى يجري تطبيقها ، نجدها قد أثرت تأثيرا سالبا بالفعل على توجهات المنابر الدينية ، ومسار النبرة الدعوية وموضوعاتها.
لقد أصبح الكثيرون يكتفون في خطبهم بالترغيب ويتحاشون الترهيب ... وحبذا لو جند خطباء المنابر أنفسهم لشرح المقصود الشرعي بمقولة ((بشروا ولا تنفروا)) فهي على نحو مؤكد بعيدة كل البعد عن ما يفهمه العامة .. ولولا خوف الإطالة والوقوع في مطب الشطحات لقمت بتبيان ذلك بالتفصيل ، وربما أعود لها في مناسبة أخـرى... ولكنها على اية حال لا تعني المجاملة في الـدين و التطنيـش ، وأن يعيش العبد على الهوى ويتمنـى بعد ذلك على الله الأمانـي.
إنها كارثة وميوعة فكرية وعقائدية أن ينحرف بعض خطباء المنابر عن المطلوب في خطبة الجمعة ، وجرجرة المصلين الجالسين القرفصاء المغلوب على امرهم إلى دهاليز ما يحدث من مكائد سياسية في الخارج ، وما يجري في كوريا الشمالية وجزر سليمان وفيجي ، ومكائد المحافظين الجدد والنعجة دوللي وأطفال الأنابيب وزواج المثليين والجندر ... وهلم جرا من موضوعات لا تناسب المكان ولا تتسق مع المناسبة ؛ بل وكأنهم يخطبون في ساحة الطرف الأغر وباحة البيت الأبيض وعلى شاشات ألـ BBC أو ألـ CNN ......... تاركين متجاهلين عن عمد وسبق إصرار وترصد مايدور في الداخل ، وما هو عاجل وملح وملتصق بهموم الناس ، وكذلك حاجتهم إلى جرعات روحانية ترفع معدل الإيمان في صدورهم أو تهديهم إلى سواء السبيل.
ربما يكون تجنب إحراج كبار المسئولين والأثرياء من المليارديرات هو سبب تحاشي وتهرب الوعاظ وخطباء المنابر وأهل الدعوة من تناول مسألة سرقة المال العام بكثرة وشفافية . وحيث الأصابع دائما ما تكون موجهة إلى هؤلاء المسئولين الحكوميين وأصحاب المليارات عند الحديث عن سرقة المال العام ......
التـوبـة من سـرقة المال العام:
من الأفضل لكل من اعتاد على سرقة المال العام وتلقي الرشى واستغلال النفوذ ، وغير ذلك من جور وظلم للخلق والعباد ، أن يتوقف فورا في البداية عن الاستمرار في ارتكاب هذه الجرائم... ولو من باب تقليل حجم الخسائر في ميزان أعماله يوم القيامة وساعة يحين الحساب.
هذا شجاع من ثعابين الدنيا فما بالك بشجاع الآخرة الذي يطارد ويتلقف ويبتلع ويعصر ويكسر عظام لصوص المال العام في جوفه .. كلما ماتوا لفظهم وأعاد مطاردتهم وعضهم وإبتلاعهم .. وهكذا دواليك؟
ولكن فيما يتعلق بأمر التـوبة من ما تم ارتكابه سابقا من جرائم سـرقة المـال العـام ، فإن التوبة ممكنة لكنها صعبة حسب النصوص الواردة على لسان الفـقهاء:
جاء في رياض الصالحين : قال العلماء : التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي ، فلها ثلاثة شروط:
أحدهما: أن يقلع عن المعصية ، والثاني : أن يندم على فعلها ، والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها ابدا.
فإن فقد أحد الثلاثة ، لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي ، فشروطها أربعة ، هذه الثلاثة (المذكورة أعلاه) وأن يبرأ من صاحب حق صاحبها ، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه ، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه او طلب عفوه ، وإن كانت غيبة استحله منها ، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب ، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند اهل الحق من ذلك الذنب ، وبقى عليه الباقي.
استقامة ميزان العدل الإلهي:
البعض من العصاة ومجرمي المسلمين ، يمضون سادرين في غيهم ، وعند إحساسهم بين حين وآخر بتأنيب الضمير، جراء سماعهم لخطبة جمعة أو تشييع جنازة ((زميل)) لهم ؛ فإنهم عادة ما يولمون لبعض أئمة المساجد والمؤذنين ، راغبين في أن يحدثهم هؤلاء بعد الوليمة الدسمة والتحلية ، وأثناء الرشف من اقداح الشاي عن مغفرة الله عز وجل الواسعة ، وأنه يغفر الذنوب جميعا وأن كل من قال لا إله إلا الله محمدا رسول الله دخل الجنة رغم أنف أبي ذر وغير أبي ذر .....
رسم لأحد أبواب الجحيم كما يتخيله غير المسلمين ... واضح أن أبواب جهنم لديهم أبسط من الواقع الذي يصوره الإسلام بكثير
وربما يكون هؤلاء على حق في جانب من الجوانب ، ولكن الأمور لا تؤخذ بهذه السذاجة والبساطة .. وقد يدخل المسلم الجنة في نهاية المطاف نعم .... ولكن بعد أن ياخذ الحق والعدل مجراه ، ويلقى العقوبة المناسبة لما أذنب فالمسألة ليست بأن يذنب المسلم ويلهو ويلعب ثم يتمنى على الله الأماني ..... هناك رصد لكل ما يفعله الإنسان من خير او شر وهناك فتنة في القبر وعذاب ثم بعث وحساب وهناك شفاعة ، وهناك حرق في النار ثم هناك شفاعة تشفعها الملائكة للمسلم العاصي والمذنب بعد دخوله النار ، وبعدها يغفر الله عز وجل ويعفو عن من يشاء كل بحسب ذنوبه حتى لا يبقى في جهنم مسلم .... ولكن متى يجيء هذا العفو والإخراج من النار ؟؟؟؟؟ تلك هي المشكلة ......
وقد اتفق العلماء السلف والمحدثين ان الحقوق لا تقبل التوبة عنها إلا برد المظالم إلى اهلها؟؟؟ فهل يكون العفو بعد قضاء يوم أم شهر أم سنة في النار ؟؟ أم بعد 40 سنة ؟؟ أم بعد 50,000 سنة ؟؟ الله أعلم.
يقول الله عز وجل ((إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين)) آية 12 سورة ياسين.
وفي أحد قولان تكتب بأمر الله ما قدم هؤلاء الموتى من الأعمال التي باشروها خلال حياتهم بأنفسهم والآثار التي ترتبت عليها من خير أو شر .. ثم قوله عز وجل في ختام الاية ""وكل شئ أحصيناه في إمام مبين"" يشرحه قوله عز وجل ((ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياوليتنا مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا)) .... وهي آية تشرح نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى مزيد تفصيل سوى الإشارة إلى خطورة الموقف والحرص في المحاسبة بتقديمه عز وجل ((الصغيرة)) على ((الكبيرة)) في هذه الآية مما يدل على أن المسألة ليست لهو ولعب أوأن هناك تطنيش وتفويت ومجاملات سوف تحدث ، ويتم تمريرها من أسفل باب ((غفور رحيم)) ..... وفي قوله عز وجل ((ولا يظلم ربك احدا)) ما يفيد القضاء العدل للطرفين الجاني والمجني عليه ، الظالم والمظلوم ، وأن الله عز وجل سيستمع لكل مظلمة ، لأن عبارة ولا يظلم ربك احدأ تفيد هنا أن هناك من الخلق ممن سيتقدم بشكواه ومظلمته ، ومنهم شعب بأكمله وربما أجيال بعده تطالب بحقها المسلوب من المال العام والقصاص لعذاباتها في الحياة الدنيا (والله عز وجل يقدّر ما فات هذه الأجيال من حقوق كونه عز وجل يعلم ما كان وما سيكون ولو لم يكن لو كان كيف يكون) وكذلك يحرص كل مظلوم في التقدم بمظلمته بهدف الحصول على مزيد من الحسنات في الآخرة ، تمكنه من النجاة من النار قبل تاهليه للدخول في الجنة .... بل وستكون قلوبهم وقتها مليئة بالغضب والغل ، لاسيما وأن هذا الغل في قلب الإنسان لن ينزعه الله عز وجل إلا من قلوب اهل الجنة بعد دخولهم إليها.
التعليقات (0)