ســرقـــة المــال العام
الحلقة الثانية
الـــذيـول:
أكبر وأطول ذيول سرقة المال أنه ومن جانبه الديني يعتبر ((ظلما)) و ((جور)) ، لأنه يؤثر سلبيا على الفرد في المجتمع وبشكل مباشر من حيث نقص الخدمات .. ويعين على سوء توزيع الدخل ، ويبعثر ثروة المجتمع وأموال الشعب التي كان من المفترض أن تذهب إليه في توزيع عادل للثروة ، وخلق فرص توظيف لعدة آلاف ؛ فإذا بها تذهب بدلا من ذلك إلى أيدي قلة محدودة ، تصرفه ببذخ وتفاخر على الزوجات والبنين والبنات وربما العشيقات الذين تنهمر عليهم أموال من حيث لا يعرفون أو (( يعرفون ويتغابون)) ، فيبعثرونها (كأنها نار تشتعل في الأيدي) وبمذهب يذهب الحرام حيث أتى ، فيما لا طائل من ورائه سوى التفاهة وقلة العقل والمفاخرة أمام الأهل والأقران ، في حين يكون هناك عدة ملايين من المواطنين قد حرموا من حقوقهم في هذا المال لو تم استغلاله ، وتوزيعه على نحو عادل وأمين لتحقيق رفاهية المجتمع ، وتوجيهه نحو منافذ إنفاقه السليمة لخدمة التنمية ومتطلباتها من صحة وتعليـم وأمـن .. إلخ.
وفي مثال بسيط فإن حصول موظف حكومي عام على ((عمولة)) تقدر بملايين الدولارات أو ((اليورو)) من رجل اعمال ما ؛ نظير تسهيله إرساء مقاولة ، او عطاء ، سيكون مؤداها ان رجل الأعمال هذا سيجد لنفسه المسوغ لإضافة أضعاف مقدار هذه العمولة إلى قيمة العطاء . الأمر الذي يعني كمحصلة نهائية لكل عملية مشابهة لهذه ، هدر المزيد من أموال الشعب وحقوقه ، التي كان من المفترض أن تذهب جدلا نحو تقديم خدمات ضرورية لأفراده كالعلاج والتعليم والأمن ومشاريع البنية التحتية .....
من لسارق المال العام من شكوى هؤلاء يوم القيامة؟
فعلى سبيل المثال إذا رصدت وزارة المالية لوزارة الصحة ميزانية محددة لبناء وتسيير مركز صحي يقدم خدمة عامة لأفراد المجتمع ، فإن العمولات التي يقدمها المقاول الذي يرسى عليه البناء مثلا ، قد تلتهم فيما بعد كل الميزانية المخصصة لتشييد المبنى وتشطيبه وتجهيزه بالمعدات والتركيبات والأجهزة والأثاث .. مما يعني تخصيص مبالغ إضافية عاجلة على حساب خدمات أخرى ، تقدمها الوزارة للجمهور ، إضافة إلى الهدر الذي حدث بالفعل وذهب إلى يد قلة لا تستحق ممن يمتلكون مفاتيح القرار.
ثم أنظر في الجانب الآخر ماذا حدث ؟؟ حصل مسؤول عمومي وحده أو مع عصابته من ذوي القمصان البيضاء على عدة ملايين لا يستحقها ... وحصل السمسار أو من يسمونه بـ ((الوسيط)) على نسبة لا يستحقها .... حصل المقاول وحده على أضعاف ما دفع من عمولة .... وفقد الملايين من افراد الشعب حصصهم وحقوقهم في اموالهم التي كان بالإمكان حصولهم عليها في شكل خدمات صحية وتعليمية وإنارة ومياه نظيفة وأمن .... إلخ ...
غياب آلية المساءلة والمحاسبة:
والغريب أنه لا توجد آلية فاعلة ، او حتى الرغبة في تفعيلها إن وجدت لمساءلة المسئول عن اسباب ثرائه الفاحش المفاجيء ، مما يعني أن وراء الأكمة ما ورائها ، وأن الأمر لا يخلو في كثير من الأحيان من وجود مافيا وشبكة معقدة الغرز والخيوط ، تحمي افرادها وتزود عنهم وعن مصالحهم ، وتكفيهم شر عين الحسود والحاقد وكيد ولسـان كل غامز لامز هـمّـاز مشّـاءٍ بـنميم ..... بل وتمنع حتى الصحافة ورجال الدين من التطرق بصراحو ووضوح من فوق المنابر لهذه الظاهرة.
الرائحـة تفـوح:
..... وكما يقال ؛ فإن الفقر لا يستطيع صاحبه ان يستره وكذلك المال والثراء لا يستطيع صاحبه أن يخفيه وينكره ، فسرعان ما تظهر دلائل النعمة والدعة والترطيب على حال المسئول العمومي المذكور ، بعد أن كان بالأمس القريب شبه شحات مقطّع و مشلهت لا يتوفر له ثمن ما يغسل به سرواله أو يحلق به الرأس واللحيه والعانة . وتكاد زوجته تزغرد مستبشرة وترقص ((اللّول لول)) وتطير فرحا وبهجة ، إذا استأجر لها ركشة لتوصيلها إلى منزل عزيز لديها ، توفى لتـوه وساعـته ولم يدفن بعد.
ثم تبدأ ((الطفـرة)) بشروعه في بناء بيت جديد للأسرة ، في أحد الأحياء الراقية ، وفرشه بأبهى أنواع الأثاث والسندس والحرير والاستبرق ، وشراء سيارة كورية الصنع ، ومصاغ ذهبية لزوجته ، وبضع ثياب جديدة لها وله من السوق المحلي. ولا شك أن فلذات الأكباد سيكونون في معيتهم .......
ووفقا لحقيقة أنه ((لا يملأ جوف إبن آدم إلا التراب)) ؛ فإن مطالب الأسرة ستزداد تعقيدا وسقفها إرتفاعا . وربما دخل اهل الزوجة وأهل الزوج على الخط يطمعون في نصيب وصلة أرحام. فيبدأ المسؤول العمومي المذكور في طلب المزيد ؛ بل و((خلق)) المزيد من عطاءات الأعمال للحصول على مزيد من العمولات ، وتصبح المسألة مثل إدمان اشد أنواع المخدرات. وبعد أن كان يحلم الفاسد المرتشي في بيت وسيارة كورية الصنع ؛أصبح يتطلع إلى أربعة فلل فاخرة يؤجر ثلاثة منها إلى سفارات وبعثات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات إغاثة مشبوهة تدفع بالدولار الأخضر الشافع النافع اللامع المغيث عند الكرب والملمات .... ثم لا بأس بعد ذلك من عدة عمارات وأبراج .... وبعد أن كانت السيارة واحدة ، يصبح لابد للمدام (التي كانت بالأمس القريب مجرد وليـّـه و أم وليدات ) من سيارة يابانية وألمانية وسائق خاص ..... ونفس الطلبات لكل واحد من فلذات الأكباد ...
الـرحـلـة المحـرّمـة:
وبعد أن كانت المدام وفلذات الأكباد (في قمة المنحنى) يتسوقون في عفراء مول وما شاكله من منافذ بيع محلية ، فإنهم وبعد الطفرة ، واختلاطهم بطينة الأثرياء من الفالحين ، الشواطين ، الشاطرين سيرتفع سقف تطلعاتهم ويطلبون من رب الأسرة المسئول العمومي المذكور استخراج تأشيرات سفر سياحية للخليج بقصد التسوق والفرجة على الدنيا السعيدة خارج الحدود. وسرعان ما يجاب الطلب على الرحب والسعة والراس والعين ، فالعمل في سبيل الجماهير مرهق ، ولابد للمسئول المذكور من إجازة للترويح عن نفسه ، وعلى نحو لا يشترط فيها أن تكون على نسق ((أرحنا بها يا بلال)) ، ثم إن طلبات الهانم ((التي كانت بالأمس القريب ولية وام وليدات)) قد اصبحت بعد الطفرة وتوافر الأموال أوامر ، ولا بد من مكافاتها على صبرها في احتمال الجوع والعطش وذل السؤال وديون تجلب الذل بالنهار والهم بالليل والبشتنة ومشاركة رقاد العناقريب واللحاف فيما مضى مع المارقود والبق والباعوض وحولها ناتستعين به في زيادة الدخل من الحمام والدجاج ... وبعد أن كانت تذاكر ((الباص)) إلى مسقط الراس في الأقاليم ، تشكل هما وتفلق هام ميزانية الأسرة سنويا ، أصبحت تذاكر الجو بالدرجة الأولى وأجنحة فنادق الخمسة نجوم ، من فرائض السفر وسنن السياحة ونوافل الإجازة. ..... ولا باس من الهبوط في الطريق على مدينة جدة لأداء مناسك عمرة VIP بمزايا سيـاحيـة.
من ضحايا سرقة المال العام ..... أبناء وادي النيل وأضخم مخزونات المياه الجوفية لا يجدون ماء
.... وبعدها يحط الطائر الميمون في إمارة دبي ، وحيث الأبراج التي تتطاول على بعضها في البنيان ، ويرتفع بعضها لتناطح السحاب ..... وحيث تتجمع هناك فروع أرقى الماركات العالمية وافخر انواع التياب من موضات الراتي والحرير الأصلي والريحة البلدي من محلبية وصندلية وغيرها لزوم الدلكة والخمرة وحفرة الدخان والفركة والقرمصيص..... ثم آخر منتجات كريستيان ديور وعواصم صناعة العطور الأوروبية ...... ثم حدث ولا حرج عن دهانات تفتيح لون البشرة والتقشير ، وحقن الكولاجين والبوتكس والميروثيرابي والتخلص من الدهون الزائدة والسليوليت للزوجة التي كانت بالأمس القريب حبيسة المطبخ والطناجر والكنس والمسح ؛ وأحدث موضات القمصان والفانيلات والجينز الملتصق والبلوزات والتنورات الضيقة الملتهبة التي تحرّض على كشف المستور من أجساد البنات ولتستدير نحوها عيون الشباب من كل حدب وصوب ... ولا مناص (من أجل خاطر وإرضاء ست الكل) من الطواف على مجمعات متاجر الذهب التي تعرض ارقى وأحدث موضات وصرعات المشغولات الذهبية العالمية ، التي تسبي القلوب التي في الصدور ، وتخلب الألباب وتطير لها العقول وتخرج لأجلها عيون النساء من محاجرها ... هذا إلى جانب أن سعرها فيها لأنها مضمونة العيار وخالية من الصفر والنحاس ورائحة الكير والغار وشوائب ((سوق تمبول)) ... .... والله يرحـم ايـام زمـان ، كما يقولون ......
وهكذا يمضي الحال من حلم كبير إلى آخر أكبر، ومن طمع إلى جشـع . ولا يتوقف نزيف المال العام من جسد الأمة وهدر حقوق الملايين على بضعة أفراد ، إلا بإزاحة المسئول العمومي المذكور عن منصبه بعد أن تفوح رائحته ويصبح من العسير إخفائها ، ولكن بعد أن يكون قد أسس لنفسه ما يقيه غوائل الزمن وفضيحة الحاجة والفاقة ، والوقوف على الأبواب وسؤال الجاحد وناكر الجميل واللئيـم الذي كان بالأمس القريب طوع البنان ورهن الإشارة....
ثم يأتي مسؤول جديد يبشر بعهد ونزاهة سيرة ، ونظافة أيدي الرسل والأنبياء وأولياء الله الصالحين ... ولكن بعد بضعة شهور ينجرف المسؤول الجديد لأطماع سلفه المرفوت ، ويسير على نفس خط السرقة حديد ، وتبدأ الساقية في الدوران من جديد .... وهكذا .
بداية خراب مالطا:
كل ما حصل عليه المسئول العمومي المذكور ، ثم الذي يليه من عمولات ، سيكون بالطبع خصما على الميزانية العامة ، التي ما تنفك تتضخم ، وربما يجري السحب على المكشوف ، بسبب التباين في مقدار الانفاق الفعلي مع المقدر .... فعادة ما يأتي رجل الأعمال في منتصف الطريق إلى المسئول المذكور، يتباكى ويتعلل بازدياد تكلفة المواد وأجور العمالة المفاجيء ، ويطلب رخص استيراد مباشر وإعفاءات جمركية ، وتوصية بتأجيل وتخفيض إلى أدنى نسبة ممكنة في الضرائب ، باعتباره يؤدي خدمة وطنية ويضحي بـ ((الغالي والنفيس)) ، دون أن ينسى المطالبة برصد مبالغ إضافية له ، تعويضا عن خسائره الماضية ، مذكرا المسئول المذكور بالعمولة التي دفعها له زمان ، وما سيتم دفعه له لاحقا لو استجاب لمطالب المقاول الجشع ، إضافة إلى عمولة مؤخر الصداق وفك الإشتباك بعد حفل الافتتاح وقص الشريط للمشروع الخدماتي الحكومي الذي تضخمت ميزانيته فجأة من عشرات إلى مئات الملايين من العملة الصعبة ... فيتحمس المسؤول وتبدأ المساومات اللجوجة على نسبة العمولة الجديدة ، ولم لا ؟ فقد أصبح اخينا المسئول العمومي المذكور صاحب خبرة و معلّم و فارس لا يشق له غبار في فنون حسبة العمولات وفرض الأتاوات .. وفي الختام يطلب من رجل الأعمال طلب بسيط ، هو كتابة رسالة شارحة للموضوع برجاء النظر بعين العطف والاعتبار، يتم بعدها الرفع إلى اللجنة المشكلة المختصة وإقناعها بما له من صلاحيات ونفوذ ثم البحث عن ((دفـّار)) ليصعد ويخلص الموضوع ويأتي بالموافقة النهائية.
ذاك كان من حال بضعة منتفعين من المال العام فما بالك بالآلاف منهم ؟؟ .......... وفي المقابل على الجهة الأخرى ، حيث العامة من الشعب فربما نرى خريج جامعي (ومثله آلاف ) ذكي متفوق عصامي ، تحرج بامتياز مع مرتبة الشرف ، ولكنه حرم من مواصلة تعليمه ما فوق الجامعي لأن ميزانية الدولة لا تسمح بذلك سواء في الداخل او بالابتعاث إلى الخارج .... وهناك مواطن مريض (ومثله عشرات الآلاف) لايجد الدواء أو سرير خالي في المستشفى او طبيب يشخص المرض ، بسبب ان ميزانية الدولة لا تكفي ، فقنع من العلاج بالموت راحة له من الظلم وشفاء من شقاء الحياة ... وربما اندفعت فتاة عفيفة شريفة (ومثلها عدة آلاف) إلى بيع شرفها كي توفر لوالدتها تكاليف العلاج ، وثمن الدواء في المستشفيات الخاصة لأن مستشفى الحكومة لا يشفي ، والسبب أن ميزانية الدولة لا تكفي .... وهلم جرا من أمثلة لا يتسع المجال لتعدادها ...... وذنب وحق هؤلاء جميعا وغيرهم يوم تحين ساعة الحساب ، معلق على رقاب من كان السبب في إهدار ميزانية الدولة ، وحيث يعض الظالم على يديه، ولات حين مناص............... فالعمولات التي تلقاها الموظف العمومي المذكور لم تكن في حقيقة الأمر خصما على أرباح رجل الأعمل والمقاول ، ولكنها كانت خصما على ميزانية الدولة التي كان من الممكن توجيهها إلى خدمات لعامة الشعب ممن هم في أمس الحاجة إليها ، بوصفها حد أدنى لأقل ما يمكن الحصول عليه من حقوق ، وقد ضيعها بضعة أشخاص في بذخ ولهو وسفه على أنفسهم وزوجاتهم ونسائهم وأنجالهم وأحفادهم.
وعلى ذلك فليقم كل فرد بوضع مقياسه وتقديره الخاص في كافة الأمور ، وعلى كافة المستويات والإخفاقات ، حتى مسببات حوادث الحركة والمرور وتأخير المصالح وغرق القرى بفعل السيول وإنهيار المباني العامة والخاصة والسكنية على رؤوس الساكنين أو العاملين والمتواجدين والمارين ... كل هذا سببه الرشوة وسرقة المال العام وأن أموال الدولة المرصودة بدلا من أن تصرف على منافذ صرفها الحقيقية الصحيحة ، ذهبت إلى جيوب بعض ((المحظوظين)) ((الفالحين)) ((الشواطين)) من الموظفين العموميين ، وتكدست في حسابات وسطاء ورجال أعمال بعينهم أعماهم الجشع وغياب الضمير ، ليضاعفوا أرباحهم على حساب حياة غيرهم من البشر دون وجه حق ، ودون أن تطرف لهم عين من واقع أنها مغموسة في دماء البشر.
ولأجل ذلك تشدد الإسلام في مسألة سرقة المال العام ، من جانب رجال الأعمال والمسئولين ، أو الاعتداء عليه بالتخريب من جانب العامة .. وإن كان تخريب العامة ليس بذلك القدر من التأثير الجذري ، ولكنهم أيضا محاسبون عليه. ولو كان على سبيل المثال رمي المخلفات والقمامة على قارعة الطريق.
(يتبع حلقة أخرى بإذن الله)
التعليقات (0)