مواضيع اليوم

سعيد بن جبير والحجاج .... القصة كاملة (6)

عبدالرحمن محمد

2011-05-04 06:16:15

0

سنة 84 هـ نهاية عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وملابسات القبض على سعيد بن جبير
في سنة 83هـ هزمت قوات عبد الرحمن بن محمد بن الأِشعث في المعركة الأخيرة ، وكما يقال فالأمور بخواتيمها ، وتشتتت قواته وتفرقت السبل بحلفاء الأمس .
وكما ذكرنا آنفا ، فإن ابن الأشعث كان قد احتاط لهذه اللحظة ، فيمم وجهه ومعه أربعة آلاف ممن تبقوا معه شرقا نحو بلاد رتبيل لاجئا حتى وصل إلى هراة (في أفغانستان الحالية) وهناك قال له أحد قادته ويدعى علقمة بن عمرو الأودي : ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلكم .( الكامل في التاريخ) وهذا هو ما حدث فعلا.
واصل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث طريق شرقا حتى دخل لاجئا لبلاد رتبيل , وأقام عنده في أمن وسلامة، ووفى له رتبيل بما كان بينه وبينه (اليعقوبي) ، ولكن إلى حين ، فهيهات هيهات أن يكون لمثل رتبيل أمان دائم .
علم الحجاج بلجوء بن الأشعث إلى رتبيل فتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل يطالبه بتسليم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قائلا: أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.( الكامل في التاريخ)
وبعد مساومات استطاع الحجاج إقناع رتبيل بأن يقوم بتسليم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مقابل أن يكف المسلمون عن مهاجمة بلاده سبع سنين وأن يعفيه من الخراج لمدة عشرة سنوات ، حينئذ غدر رتبيل ، وأرسل إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وثلاثين من أهل بيته فحضروا فقيدهم ليرسلهم الحجاج ، ولم تتحمل نفس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث هذه النهاية فألقى بنفسه من سطح قصر، فمات فاحتز رتبيل رأسه وأرسله إلى الحجاج، وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج.(الكامل في التاريخ)
ولما وصلت الرأس إلى الحجاج أرسلها الحجاج إلى الخليفة الأموي في دمشق عبد الملك بن مروان وهكذا طويت صفحة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي.
ترحال سعيد بن جبير
أما سعيد بن جبير فلم يتوجه إلى قتيبة بن مسلم كما فعل عامر الشعبي ، بل ظل يتنقل بين البلدان : الري ، أصبهان ، قزوين وغيرها ، ثم اخيرا : مكة المكرمة التي قبض عليه بها عام 95هـ
وكل هذه البلدان التي ظل يتنقل فيها سعيد بن جبير كانت في حقيقة الأمر تحت سلطة الدولة الأموية ، ويلاحظ المتتبع لسيرة سعيد بن جبير خلال سنوات الترحال من عام 83هـ إلى 95هـ أنه ظل مرصودا من قبل سلطات وعيون الدولة الأموية وولاتها في مختلف تلك البلدان ولكنه ظل مغضوض الطرف عنه.
فالروايات الكثيرة تفيد أن العديد من الناس كانوا يقابلون سعيد بن جبير في مختلف البلدان وفي مكة في العديد من المناسبات ، ومن هذه الإثباتات على سبيل المثال لا الحصر :
منها أن المصادر التاريخية كانت تذكر سعيد بن جبير ضمن الفقهاء المعروفين في زمن خلفاء بني أمية ، خذ مثلا هذا النص عن أيام عبد الملك بن مروان : (وكان الفقهاء في أيامه عبد الرحمن بن حاطب، سعيد بن المسيب، عروة ابن الزبير، عطاء بن يسار، أبا سلمة بن عبد الرحمن، القاسم بن محمد، سعيد بن جبير، مجاهد بن جبير مولى بني مخزوم – تاريخ اليعقوبي) ، وبكل تأكيد فإن سعيد بن جبير لا يمكن أن يذكر ضمن الفقهاء إلا إذا كان له ظهور ولو في نطاق ضيق وكان يقابل أناسا يأخذون عنه العلم وهذا يعني أن تواري سيعد بن جبير من الحجاج أو من سلطات الدولة الأموية لم يكن صارما ولا تاما.
ومن هذه الأمثلة : قال مسعود بن مالك: قال لي علي بن الحسين ( وهو على زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب): تستطيع أن تجمع بيني وبين سعيد بن جبير؟ قال: قلت: ما حاجتك إليه؟ قال: أشياء أريد أن أسأله عنها، إن الناس يأتوننا بما ليس عندنا.
ومنها أيضا : قال مسعود بن مالك: قال علي بن حسين: ما فعل سعيد بن جبير؟ قال: قلت: صالح، قال: ذاك رجل كان يمر بنا فنسائله عن الفرائض وأشياء مما ينفعنا الله بها، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء، وأشار بيده إلى العراق (مختصر تاريخ دمشق)
وهذه الروايات وغيرها كثير تؤكد أن مقابلة سعيد بن جبير لم تكن صعبة المنال للذين كانوا يسعون لمقابلته في مكة .
ولعل التأمل في مسألة تنقل سعيد بن جبير بين البلدان خلال سنوات الترحال تعطينا إضاءات عن طبيعة الحكم اللامركزي في ظل الدولة الأموية حيث كان والي الولاية يتمتع بسلطات واسعة وفي نفس الوقت لا يتدخل في المسائل التي يرجع اختصاصها لوالي الولاية الأخرى ، ولعل هذا يفسر تغاضي ولاة الولايات التي تنقل فيها سعيد بن جبير عنه باعتباره مشكلة تخص ولاية العراق وواليها الحجاج بن يوسف ، ولهذا السبب لم يقوموا بتكليف أنفسهم عناء القبض عليه أو محاكمته بدلا عن الحجاج بن يوسف بالرغم من أن مشاركته في تمرد جيش الطواويس سنة 81هـ - 83هـ كان أساسا وفي حقيقة الأمر ضد الدولة الأموية ولم تكن ضد الحجاج وحده أو ولاية العراق وحدها .
الآثار السلبية لتمرد جيش الطواويس بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
ونتوقف لحظة نتأمل فيها الآثار السلبية الكارثية التي تسبب فيها تمرد جيش الطواويس بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وهي كثير جدا نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
منها مقتل عشرات الآلاف من المسلمين في قتال داخلي بينهم ، ففي الوقت الذي حرض فيه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الجنود وهم في بلاد رتبيل بأن الحجاج يريد أن يلقي بهم إلى المهالك فإن القتال الذي دار بينهم وبين جيوش الحجاج بالعراق لاحقا كان شرسا جدا وكلف المسلمين أكثر بكثير مما كان سيكلفه أية قتال بينهم وبين كفار السند.
ومنها تعطيل فتوح السند وقتال ملكها رتبيل لمدة 12 عاما بسبب هذا التمرد ولم يتمكن الحجاج من استئناف الفتوحات إلا عام 92هـ وهذه المرة كانت بقيادة ابن عمه محمد بن القاسم الثقفي وكان عمره 17 عاما فقط فأبلى أحسن البلاء وعوض الإسلام والمسلمين عن ذلك النكوص الرهيب كما سنرى لاحقا.

 


تتالت السنوات ، وفي سنة 87 هـ قدم عمر بن عبد العزيز واليا على الحجاز ، وكان قدوم عمر بن عبد العزيز واليا على الحجاز مقدمة لسلسلة الحوادث التي أدت إلى ألقاء القبض على سعيد بن جبير ، فقد قدم إلى الحجاز وبالمدينة ومكة العديد من أهل العراق الهاربين من بطش الحجاج وتنكيله ببقايا متمردي جيش بن الأشعث.
ودخلت سنة 92هـ زمن خلافة الوليد بن عبد الملك – وفيها كان فتح الفتوح : فتح الأندلس , و في هذه السنة استطاع الحجاج وبعد عقد كامل من الزمان تمويل حملة جديدة نحو بلاد رتبيل بقيادة ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي إلى السند، (تاريخ اليعقوبي) فأحسن الفتوحات وأخلص فيها وأصلح ما أفسده عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكان عمره 17 عاما فقط (عيون الأخبار)
وعظمت فتوحات محمد بن القاسم الثقفي ، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم ( 60 مليون درهم ) ، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، ( مائة وعشرون مليون درهم) فقال: ربحنا ستين ألفاً وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر.( الكامل في التاريخ)

ملابسات القبض على سعيد بن جبير في مكة وإرساله إلى الحجاج بالعراق
ذكرنا أن عمر بن عبد العزيز قدم إلى الحجاز واليا سنة 87هـ في زمن خلافة الوليد بن عبد الملك ، وذكرنا أن الكثيرين من أهل العراق وبسبب قمع تمرد بن الأشعث سنة 83 هـ واجتهاد الحجاج في ملاحقة ذيولهم غادروا العراق نازحين إلى المدينة ومكة المكرمة ناقلين معهم مقدراتهم وخبراتهم التحريضية المتوارثة منذ زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وحين عين عمر بن عبد العزيز واليا على الحجاز ولمسوا فيه طيبة وخلقا أخذوا في تحريضه على الحجاج حتى كتب في سنة 93هـ إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يقص عليه أفعال الحجاج بالعراق وما هم فيه من ظلمه وعدوانه .
وصل خبر رسالة عمر بن عبد العزيز إلى الحجاج بالعراق ، و استنتج الحجاج أن هناك تحريضا ضده من قبل العراقيين المقيمين في الحجاز ، ومن الواضح أن هؤلاء المحرضين كانوا يعولون على أموية عمر بن عبد العزيز في التأثير على مركز الخلافة في دمشق أملا في الانتقام من الحجاج .
ولكن نتائج التحريض جاءت عكسية فما حدث هو أن الحجاج كتب إلى الخليفة الوليد في دمشق قائلا : إن كثيرا من المراق وأهل الشقاق قد انجلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة ومنعهم عمر (عمر بن عبد العزيز ) وذلك وهن ، فكتب الوليد إلى الحجاج يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة، فأشار عليه بخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن حيان، فولى خالداً مكة، وعثمان المدينة، وعزل عمر عنهما. (الكامل في التاريخ) ، ولم يتوقف الأمر على عزل عمر بن عبد العزيز عن ولاية الحجاز ، بل اتخذ الخليفة الوليد بن عبد الملك قرارا بإخلاء الحجاز من أهل العراق وإعادة ترحيلهم إلى العراق.
ما أن سمع الناس بتعيين خالد بن عبد الله القسري واليا على مكة حتى سارعوا بتحذير سعيد بن جبير قائلين : إنه رجل سوء فلو سرت عن مكة. فقال والله لقد فررت حتى استحييت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي (الكامل في التاريخ) وكان واضحا أن سعيد بن جبير سئم حياة التنقل من مكان إلى مكان هربا من انتقام الحجاج.
قدم الوالي الجديد خالد بن عبد الله القسري إلى مكة وما أن وصلها حتى كتب إليه الخليفة الوليد يأمره بترحيل النازحين من أهل العراق إلى الحجاج ، فأخرج من كان بها من أهل العراق كرها وتهدد من أنزل عراقيا أو أجره دارا و من هؤلاء الذين عمهم الشر كما يقال كان سعيد بن جبير ، إذ سرعان ما قام خالد بن عبد الله القسري باستدعائه قائلا له : أنت ممن يطلب أمير المؤمنين وأنت مقيم في جواري فبعث به إلى الحجاج (المتوارين)
إذن فإن التأمل في هذه الملابسات يجعلنا نستنتج أن سعيد بن جبير لم يتم إلقاء القبض عليه منفردا في إطار ملاحقة أو مطاردة ، بل في إطار تداعيات تسببت فيها شكوى والي الحجاز السابق عمر بن عبد العزيز للخليفة من قسوة الحجاج في العراق وهي شكوى تسبب فيها تحريض العراقيين المقيمين بالحجاز لعمر بن عبد العزيز ، وفي ذلك السياق كان سعيد بن جبير ضمن من تم إخراجهم من مكة من أهل العراق (تاريخ بن خلدون) ،
ليس ذلك فقط ، بل نجد ما يفيد أن الحجاج كان يعلم أن سعيد بن جبير كان مقيما في مكة ولم يسع إلى ملاحقته ، فحين وصل ركب المرحلين من أهل العراق وفيهم سعيد بن جبير إلى الحجاج ورأى الحجاج سعيدا ، قام بشتم خالد بن عبد الله القسري قائلا : (لعن ابن النصرانية ، لقد كنت أعرف أنه بمكة وأعرف البيت الذي كان فيه )(البداية والنهاية - تاريخ الرسل والملوك- تاريخ بن خلدون).
و ابن النصرانية هو خالد بن عبد الله القسري كانت أمه نصرانية رومية.
وربما كان عدم سعي الحجاج إلى القبض على سعيد بن جبير لأسباب ، منها أن مكة كانت إداريا خارج ولاية الحجاج ، ولهذا نرى أن إخراج سعيد بن جبير منها إلى العراق أتى في سياق التنفيذ لأوامر صدرت من الخليفة في دمشق إلى خالد القسري والي مكة ، الأمر الذي أعاد سعيد بن جبير إلى سلطة الحجاج ، أو ربما لأن الحجاج ربما لم يكن راغبا في إظهار نفسه في مظهر الحاقد شخصيا على سعيد بن جبير خاصة مع المكانة العلمية والأدبية لسعيد بن جبير.
سعيد بن جبير رفض محاولات الوساطة لمنع إرساله للعراق.
وهذه قصة أخرى أيضا تفيد أن سعيد بن جبير كان معروفا في مكة للعديد من الناس ومنهم من عرض وساطته لمنع قرار إرساله للعراق ، ومن هؤلاء محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
قال محمد بن علي لسعيد بن جبير : اختر مني واحدة من ثلاث: إن شئت مضيت بك إلى أبي محمد وقد عرفت مكانه من عبد الملك فآخذ لك أمانا، قال سعيد بن جبير: لا أريد هذا.
قال محمد بن علي : فإن هؤلاء على سوء رأيهم ما هتكوا لنا حجابا قط فادخل مع نسائي فإنهم لن يتعرضوا لك، قال سعيد بن جبير : ولا أريد هذا.
قال محمد بن علي: فهاتان راحلتان وألف دينار وهو كل ما أملكه على وجه الأرض فخذه والحق بأي الأرض شئت، قال سعيد بن جبير : لا، ولا أريد هذا.
قال: فما تريد ؟ قال: تسأل أن تفتح لي الكعبة حتى أدخلها فأوخذ من أعظم حرمة من حرمات الله، فبعث إلى الحجبي وكان صديقا له، ففتح له الكعبة فدخلها، فأخرج منها.(أخبار الدولة العباسية)
في هذا السياق ألقي القبض على سعيد بن جبير وتم إرساله إلى سلطة الحجاج مرة أخرى : العراق ، وحين وصل الركب وفيهم سعيد بن جبير ورآه الحجاج قال : لعن الله ابن النصرانية (خالد بن سعيد القسري )، لقد كنت أعرف أنه بمكة وأعرف البيت الذي كان فيه ، وكأن قيام والي مكة بترحيل سعيد بن جبير للعراق قد ورط الحجاج في محاكمة للرجل على سابق تمرده قبل اثنتي عشرة عاما وهي محاكمة ما كان يرغب أن يتورط فيها وإن كانت من صميم صلاحياته وسلطته بل ومسئولياته التنفيذية .
وفي الحلقة القادمة نستعرض الروايات المتعددة لذلك اللقاء الأخير بين الرجلين الذي لا يمكن تقييمه والحكم عليه إلا على ضوء المعرفة بتفاصيل ما ذكرناه في الحلقات الخمس الماضية.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !