دير الجماجم وما أدراك ما دير الجماجم !
عاد جيش الطواويس مرتدا بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى العراق ، وبينما هم في الطريق كانت أخبار عودة الجيش الثائر قد وصلت إلى الحجاج فأرسل للخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في دمشق يستنجد به وكيف لا يستنجد ومن أين له القدرة على مواجهة الجيش الذي سلحه وأحسن تسليحه ، وتجاوب الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فأرسل للعراق جنود الشام الذين اعتمد عليهم الحجاج في مجابهة هذا التمرد العاتي.(تاريخ اليعقوبي)
تقول بعض المصادر أن ابن الأشعث عاد في مائتي ألف فارس ومائة ألف راجل (الوافي بالوفيات) وقد علمنا من مصدر سابق أن الجيش الذي غادر العراق نحو بلاد رتبيل كان عدده أربعين ألفا ، وهنا يقول المصدر أنهم عادوا مائتي ألف فارس ومائة ألف راجل ، فهل هو تضارب في الروايات أم أن كل عدو للإسلام ومنافق في تلك الأصقاع التي كانت حديثة عهد بالإسلام انضم إلى ذلك الجيش المتمرد ؟!
وبدأت المعارك والجيش المتمرد يجتاح البصرة :
بدأت الهزائم تترى على قوات الحجاج إلى أن اجتاح جيش الطواويس البصرة في 10 ذي الحجة 81هـ وخطب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على منبر البصرة ، واستمرت المعارك حتى محرم 82هـ حين وقعت معركة كبيرة سميت معركة الزاوية بين الحجاج وابن الأشعث وبعدها حدثت سلسلة من المعارك افتتحت بمعركة كبيرة مشهورة سميت معركة دير الجماجم استمرت مائة يوم كاملة ، وسيطر جيش المتمردين في مرحلة من المراحل على الكوفة عاصمة ولاية العراق ، إي أن الحجاج في مرحلة معينة فقد كل المراكز الحضرية المهمة في العراق ، وقتل في عشرات المعارك عشرات الآلاف من المسلمين من الجانبين ، وفي مرحلة من المراحل الصعبة أرسل الخليفة الأموي أخيه محمد بن مروان و ابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان للتفاوض مع المتمردين بل وعرضوا عليهم عزل الحجاج من ولاية العراق فرفضوا بعد أن أغرتهم الانتصارات وقاموا برفع سقف مطالبهم.
أين كان سعيد بن جبير في كل هذا الخضم؟
كان مقاتلا ومحرضا فاعلا في جيش الطواويس الذي خرج من العراق منذ عامين وكان هو مسئول ماليته.
وينقل لنا أحد مصادر التاريخ مشهد سعيد بن جبير وهو يحرض على القتال خلال معركة الجماجم 14 جمادي الآخرة سنة 83 هـ : ( وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين ، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، و استذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة ) (تاريخ الرسل والملوك)
فاقت وقائع دير الجماجم الثمانين موقعة انهزم فيها الحجاج كلها ما عدا الأخيرة : (فالتقى الحجاج وابن الأشعث بالموضع المعروف بدير الجماجم، فكانت بينهم وقائع نيف وثمانون وقعة تَفَانى فيها خلق، وذلك في سنة اثنتين وثمانين ) (مروج الذهب)
وفي رواية أخرى : ( فحدثني أمية بن خالد عن عوانة أنه قال : كانت بينهم بالجماجم إحدى وثمانين وقيعة كلها على الحجاج إلا آخر وقعة كانت على ابن الأشعث فانهزم ، وقتل عدد كثير من القراء بدير الجماجم كانوا مع جيش الطواويس ، وفي المعركة الأخيرة انكشف ابن الأشعث من دير الجماجم فأتى البصرة وتبعه الحجاج فخرج منها إلى مسكن من أرض دجيل الأهواز واتبعه الحجاج فالتقوا بمسكن فانهزم ابن الأشعث وقتل من أصحابه ناس كثير وغرق ناس كثير)
انكسار التمرد ولجوء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى رتبيل :
انهزم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث من دير الجماجم ، وهرب سعيد بن جبير إلى أصبهان (حاليا أصفهان في إيران) ، أما عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فلجأ شرقا إلى بلاد السند إلى رتبيل وفقا لخطة اللجوء التي كان قد دبرها عندما كان ينوى التمرد قبل عامين.
أما الحجاج فقد أخذ يتلقط أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ويضرب أعناقهم، و قتل خلقاً كثيراً حتى أطمأن إلى إخماد التمرد والقضاء على الثائرين .
خطبة الحجاج (وكان مفوها بليغا ) في أهل العراق بعد انكسار شوكة التمرد :
قال عاصم: خطب الحجاج أهل العراق بعد دير الجماجم فقال : يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع، والأطراف ، ثم أفضى إلى الاصماخ والأمخاخ، والأشباح والأرواح، ثم ارتع فعشش، ثم باض وفرخ، ثم دب ودرج، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وأشعركم خلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤتمنا تشاورونه و تستأمرونه ، فكيف تنفعكم تجربة، أو ينفعكم بيان ؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث منيتم المكر واجتمعتم على الغدر، واتفقتم على الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا والله أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا.
ويوم الزاوية وما يوم الزاوية ، مما كان من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ، ونكوس قلوبكم إذ وليتم كالإبل الشاردة عن أوطانها النوازع ، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه ، حين عضكم السلاح، وقصفتكم الرماح. ويوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم، بها كانت المعارك والملاحم: بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ، يا أهل العراق يا أهل الكفران بعد الفجران، والغدران بعد الخذلان ، والنزوة بعد النزوات، إن بعثناكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون نعمة، ولا تشكرون معروفا، ما استخفكم ناكث، ولا استغواكم غاو، ولا استنقذكم عاص، ولا استنصركم ظالم، ولا استعضدكم خالع، إلا لبيتم دعوته، وأجبتم صيحته، ونفرتم إليه خفافا وثقالا، وفرسانا ورجالا. يا أهل العراق هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره ؟ يا أهل العراق ألم تنفعكم المواعظ ؟ ألم تزجركم الوقائع ؟ ألم يشدد الله عليكم وطأته، ويذقكم حر سيفه، وأليم بأسه ومثلاته ؟
ثم التفت الحجاج إلى أهل الشام يثني عليهم : يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذباب. يا أهل الشام ! أنتم الجنة والبرد، وأنتم الملاءة والجلد، أنتم الأولياء والأنصار، والشعار والدثار، بكم يذب عن البيضة والحوذة، وبكم ترمى كتائب الأعداء ويهزم من عاند وتولى.(البداية والنهاية)
كانت التركيبة البشرية للعراق معقدة شديدة التنوع وتحتاج لدراسة كاملة وعانى منها سيدنا علي بن أبي طالب والحسن بن علي والحسين بن علي وزيد بن الحسين بن علي ، وكل من حكم وصارت العراق مقرا لحكمه عانى من تلك التركيبة المتنوعة الصعبة المراس .
سنة 83 هـ - الحجاج بن يوسف الثقفي يعلن العفو العام بشروط :
في سنة 83 هـ بعد أن اطمأن الحجاج من كسر شوكة المتمردين والقضاء على كل من استطاع الإمساك به من القيادات ، أعلن عفوا عاما مشروطا و نادى مناديه في الناس : من رجع فهو آمن ومن لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمن ، وكان سبب ذلك أن قتيبة بن مسلم كان يقود في ذلك الوقت جبهة جهادية أخرى تحت إمرة الحجاج في غياهب آسيا الوسطى ، فلحق بمسلم خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث فأمنهم الحجاج، ومن لم يلحق به شرع الحجاج في تتبعهم، فقتل منهم خلقا كثيرا .
قصة الحجاج مع عامر الشعبي والعفو عنه :
كان عامر الشعبي وهو أحد كبار علماء التابعين المشهورين حتى يومنا هذا ممن كان في جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وشارك في التمرد وفي كل مراحل القتال ، وحين أعلن الحجاج عفوه العام المشروط كان عامر الشعبي في من توجه إلى مسلم بن قتيبة ، وفي ذات يوم تذكره الحجاج يوما وسأل عنه فقيل له: انه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب إلى مسلم: أن ابعث لي بالشعبي.
لنترك الشعبي هنا يقص قصته مع الحجاج .
قال الشعبي: فلما دخلت عليه سلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق ، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق كائنا في ذلك ما كان، قد والله تمردنا عليك، وخرجنا وجهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد، فلك الحجة علينا.
هذا هو قول الشعبي ، ولك أن تعجب أشد العجب حين تقرأ في كتب التاريخ أن الشعبي قد نجا من الحجاج لأنه كان يؤمن بالتقية ، فأين هي التقية في ما قاله للحجاج ؟
فقال الحجاج: أنت والله يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي.
قال الشعبي : فانصرفت فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله قد أمنت يا شعبي فاطمأنت نفسي.
قال الحجاج : كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي ؟ -قال الشعبي (وكان لي مكرما قبل الخروج عليه) : أصلح الله الأمير، قد اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهل، واستوخمت الجناب، واستجلست الخوف، واستحليت الهم، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.)
قال انصرف يا شعبي، فانصرفت.
ويتضح من قصة الحجاج مع الشعبي أن الحجاج قد منح عفوا عاما لكل من شارك في التمرد بشرط الذهاب إلى مسلم بن قتيبة بالري فاستفاد الشعبي من هذه الفرصة فذهب إلى مسلم بن قتيبة ، ثم بعد ذلك ناله عفو خاص من الحجاج باستدعائه له ، وهو استدعاء لا يمكن إلا أن يفهم أنه جاء في سياق احترام خاص يكنه الحجاج للشعبي لعلمه ومكانته.
كما يتضح من قصة الحجاج مع الشعبي تقدير الحجاج لفضيلة الصدق والوضوح رغم شدته وهذا يظهر منه في الكثير من الموقف التي داعي لذكرها حتى لا نخرج من السياق.
فلماذا لم ينل سعيد بن جبير العفو مثلما ناله الشعبي في ذلك الوقت المبكر ؟ الإجابة في غاية الوضوح : لأن سعيد بن جبير لم يبدر منه ما يفيد رغبته في الحصول على العفو أو الندم على مشاركته في تمرد جيش الطواويس ، بل ظل يتنقل متخفيا بين البلدان لمدة اثني عشر عاما حتى حانت لحظة القبض عليه عام 95هـ في مكة المكرمة وإرساله للحجاج في العراق ، وسنقص تفاصيل وملابسات تلك النهاية الحزينة المشهورة ، و سنقص قبلها كيف كانت نهاية عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .
ونواصل إن شاء الله تعالى
التعليقات (0)