مواضيع اليوم

سعيد بن جبير والحجاج ... القصة كاملة (7)

عبدالرحمن محمد

2011-05-20 05:09:45

0

الحلقة (7) - المشهد الأخير

وصل ركب سعيد بن جبير أسيرا إلى العراق إلى واسط لأول مرة منذ أن غادرها بعد قمع تمرد جيش بن الأشعث سنة 83هـ ، ونتوقف في لحظة يتوقف فيها الزمن والحجاج بن يوسف الثقفي يشاهد فيها وللمرة الأولى سعيد بن جبير منذ أن قام بتوديعه سنة 80 هـ مغادرا إلى سجستان مسئولا عن النفقات في جيش الطواويس بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
نتوقف هنا في هذه اللحظة من الزمن ونحاول أن ندلف إلى داخل عقل الحجاج وهو يشاهد الرجل الذي اجتمع به منذ سنة 75 هـ حين قدم للكوفة واليا وعرفه قبل ذلك حين كان في مكة واليا عليها بعد مقتل عبد الله بن الزبير ، ولكن في مرحلة الكوفة تعمقت العلاقة بين الرجلين وأحب الحجاج أن يستفيد من ذخيرة الرجل العلمية ، فكان ما ذكرناه في حلقة سابقة رقم (2) من تعيينه له نائبا للقاضي ، ثم استعان به بعد ذلك في مسئولية تنفيذية في غاية الخطورة وهي أن يكون مسئولا عن نفقات الجند في جيش يخرج للغزو في أصقاع بعيدة ، هذا وسعيد بن جبير لم يكن ذا انتماء قبلي ربما يطمع الحجاج في كسبه مثلما كان الحال مع أمثال عبد الرحمن بن سعيد بن الأشعث الكندي الذي كان ينتسب إلى ملوك كندة ومن أسرة تميزت بالشرف مما ساعدها على التقرب من الحكام والتعود على تغاضيهم عن هفواتها مستندين في هذا التعود على شرف متوارث ، فرأينا كيف صفح أبو بكر الصديق عن الأشعث بعد ردته بل وزوجه أخته فأنجب منها محمد ، ورأينا كيف صار الأشعث بعدها من المقربين لعلي بن أبي طالب ثم صار إبنه محمد والد عبد الرحمن من المقربين لعبيد الله بن زياد والي الكوفة حين قتل الحسين بن علي سنة 61هـ ورأينا كيف تغاضى الحجاج لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث نكوصه عن قتال شبيب الخارجي فعاد لاحقا ليسند له قيادة جيش الطواويس ، فماذا كان سعيد بن جبير يملك من كل تلك المقومات المادية من مال وجاه ونسب مما يعتد به في تلك المجتمعات العربية في العراق التي وإن كانت قريبة عهد بالبعثة المحمدية إلا أنها كانت ما زالت تحمل الكثير من صفات التعصب والجاهلية أيضا ؟
كان سعيد بن جبير أسود اللون حبشي الأصل ، قيل في نسبه : سعيد بن جبير: الوابلي مولاهم الإمام الحبر المقرئ المفسر المحدث التابعي الجليل أبو عبد الله الكوفي. الشهيد قتل سنة 95.(ديوان الإسلام) ، وقيل : وكان سعيد بن جبير منهم - كان عبد رجل من بني أسد اشتراه من ابن العاص فأعتقه (الأوائل للعسكري) ، ولا نورد هذه النصوص انتقاصا من هذا التابعي المشهور ، حاشا لله وكلا ، ولكنا نوردها تحقيقا لمعلومة تاريخية بحتة كان لها تأثيرها ولا شك ويجب أن تقيم في تحليل الأحداث.

التقى الرجلان إذن بعد فراق دام ما يقارب الخمسة عشرة سنة ، فهل لنا بعد أن ألممنا بتفاصيل العلاقة العملية الممتدة بينهما منذ سنة 75هـ حين قدم الحجاج واليا على العراق أن نستخدم عقولنا للمقارنة بين الروايات العديدة التي وثقت ذلك المشهد الأخير ؟
لقد أتت كل رواية بعبارات وجمل ومشهيات ومثيرات لا توجد في الروايات الأخرى ، فهل لنا أن نستخدم عقولنا متسلحين بمعرفتنا بخلفيات كل ما سبق لتحليل وتمحيص ذلك المشهد الأخير حتى نتعرف على أية واحدة من هذه الروايات تبدو أقرب للتصديق و أكثر اتساقا مع التدرج والسياق الطبيعي للقصة؟
وحيث أنه من الصعب جدا أن نورد جميع الروايات التي وثقت ذلك المشهد الأخير ، فإننا وبغض النظر عن اختلاف التفاصيل والحوارات بين هذه الرواية وتلك ، أمكننا أن نفرز وبشكل عام منهجين لروايتين توثق كلا منهما للحوار الذي دار بين الرجلين في مسارين مختلفين جدا لكنه انتهى لنفس النهاية : إعدام سعيد بن جبير.
المنهج الأول : يبدأ من لحظة دخول سعيد بن جبير على الحجاج فيبادره الحجاج بأسئلة عنيفة مباشرة مستفزة يقابلها سعيد بن جبير بشجاعة وإجابات من تأكد أن القتل مقبل عليه فقويت عزيمته أن يغادر الحياة مرفوع الرأس قوي الشكيمة يرفض أن ينهزم.
وهذه هي نصوص هذا المنهج إجمالا :
حدثني أبو الصهباء قال: بينما أنا عند سعيد بن جبير، قال له رجل: ما تقول فيما يقوله الحسن؟ قال: وما يقول؟ قال: إن الحجاج كان أخذ الرجل قال: أكفرت حيث خرجت علي؟ قال: فإن قال نعم، خلا سبيله، وإن قال: لا، ضرب عنقه، قال: رحم الله الحسن لا تقيه في الإسلام، ثم إنه أبتلي وأخذ من العام المقبل في ذلك الشهر في ذلك اليوم، فركبت في سبعة أو تسعة حتى قدمنا واسطا، فأتي بسعيد بن جبير، فخرج الحجاج فقال: يا بن جبير أكفرت حين خرجت علي؟ قال: ما كفرت منذ أسلمت.
قال الحجاج: فاختر بأي قتلة تشتهي أن أقتلك.
قال سعيد: اختر أنت لنفسك فإن القصاص أمامك، قال: فقتله فما قتل أحدا بعده.(بغية الطلب في تاريخ حلب)
ورواية أخرى بنفس المنهج ومصادرها (مروج الذهب) و ( مرآة الجنان) و(المتوارين):
لما دخل سعيد بن جبير على الحجاج قال له ما اسمك
قال سعيد بن جبير
قال الحجاج: بل شقي بن كسير
قال سعيد بن جبير: أبي كان أعلم باسمي منك ، قال الله أعلم بي إذ خلقني
قال الحجاج: لقد شقيت وشقي أبوك
قال سعيد: الغيب إنما يعلمه غيرك
قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى
قال سعيد بن جبير: لو علمت أن ذلك بيدك ما اتخذت إلهاً غيرك
قال الحجاج:فما قولك في الخلفاء ؟
قال سعيد بن جبير: لست عليهم بوكيل
قال الحجاج: فاختر أي قتلة تريد أن أقتلك
قال سعيد بن جبير: بل اختر يا شقي لنفسك ، فواللّه ما تقتلني اليوم بقتلة إلا قتلتك في الآخرة بمثلها ، وقال سعيد : إنني أعوذ منك بما عاذت مريم بنت عمران بالرحمن إن كنت تقيا
قال الحجاج : لأقتلنك
فأمر به الحجاج، فأخرج ليقتل، فلما ولى ضحك ، فأمر الحجاج برده، وسأله عن ضحكه، فقال: عجبت من جراءتك على اللّه وحلم الله عنك
فلما ذهب به للقتل قال دعوني أصلي ركعتين
قال الحجاج : وجهوا به القبلة واقتلوه
فلما فعلوا به ذلك قال سعيد :وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين
قال الحجاج : حولوا وجهه عن القبلة فحولوه وجهوه لقبلة النصارى
فلما وجه قال سعيد بن جبير : فأينما تولوا فثم وجه الله
فلما كبَّ لوجهه قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحد لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الحجاج غير مؤمن بالله ثم قال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد يقتله من بعدي.
قال رجل من حرس الحجاج أن سعيد بن جبير لما سقط رأسه إلى الأرض قال لا إله إلا الله ثلاث مرات قال مرتين كلاما بينا وقال الثالثة بلسان منكسر.
هذا هو المنهج الأول في توثيق المشهد الأخير في قصة سعيد بن جبير والحجاج .
ونواصل إن شاء الله تعالى

المنهج الثاني في عرض المشهد الأخير:
قال الفضل بن سويد الضبي : دعاه الحجاج وأنا شاهد فأقبل يعاتبه معاتبة الرجل ولده (معرفة القرآء الكبار)
ثم أقبل عليه فقال الحجاج: يا سعيد، ما أخرجك على؟
فقال سعيد بن جبير: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة
قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره (تاريخ الرسل والملوك)
فقال له الحجاج: يا سعيد فعلت وفعلت ، حتى ظننت (الظن من الفضل بن سويد الضبي ) أنه سيخلي سبيله
قال الحجاج: أما قدمت الكوفة وَلَيْسَ يؤمّ بِهَا إلاّ أعرابيّ فجعلتك إماماً ؟
سعيد بن جبير : بلى
الحجاج: أما ولّيتك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربيّ فاستقضيتُ أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وأمرته أن لا يقطع أمراً دونك؟ يا شقي بن كسير ألم أولك القضاء فضج أهل الكوفة و قالوا لا يصلح القضاء إلا لعربي فاستقضيت أبا بردة و امرأته أن لا يقطع أمراً دونك ( البدء والتاريخ)
قال سعيد بن جبير: بلى.
قال الحجاج: أما أعطيتُك مائة ألف درهم تفرّقها عَلَى أهل الحاجة فِي أوّل مَا رأيتم؛ ثُمَّ لم أسألك عن شيء منها؟
سعيد بن جبير: بلى
قال الحجاج: أما جعلتك فِي سُمّاري وكلّهم رؤوس العرب؟
سعيد بن جبير: بلى
قال فما أخرجك عليّ؟
فانفلتت من سعيد كلمة فقال : إن ابن الأشعث عزم علي (معرفة القرآء الكبار)
وفي رواية قال سعيد بن جبير: بيعة كَانَتْ فِي عنقي لابن الأشعث!
فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه (تاريخ الرسل والملوك)
فقال الحجاج : يا سعيد. ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك!
قال سعيد: بلى
قال الحجاج: ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية!
قال سعيد بن جبير: بلى
قال الحجاج: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك (تاريخ الرسل والملوك)
ثم قال الحجاج: الله أكبر حل دمك بيعة قبل بيعة أمير المؤمنين ؟(أخبار واسط) أفما كَانَ لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فِي عنقك بيعة من قبل؟ والله لأقتلنّك! يَا حرسيُّ اضربْ عنقه!
فاعتذر سعيد رحمه الله و تضرع و ترحمه بصغار بناته
فقال الحجاج : اختر أي قتلةٍ شئت
قال سعيد بن جبير :بل اختر أنت لنفسك فإن القصاص أمامك .
فقتله الحجاج ثم لم ينتفع بعده بعيش إلى أن مات.( البدء والتاريخ).


يمكننا أن نقول في الختام وبعد قراءة القصة من أولها إلى آخرها أن المنهج الثاني في توثيق المشهد الأخير يبدو اقرب إلى القبول والمنطق، فهو يقص مشهدا متسقا مع سياق القصة ومعاتبة كانت متوقعة من الحجاج ، ولكن هذا المنهج غير محبذ لدى من يرغبون دائما في تفضيل التشويق على التحقيق لأن المنهج الأول يستغل الصورة الذهنية الراسخة عن الحجاج وهي صورة الطاغية المستبد المتعطش لسفك الدماء دون سبب أو لأوهى سبب ، فيبدو أقرب للقبول لمن لا يريد أن يتعب نفسه بتتبع القصة من بداياتها .
أما الروايات الواردة على المنهج الثاني فتصور لنا الحجاج وقد بدأ يعاتب سعيدا حتى ظن الشاهد أنه سيعفو عنه ، ثم حدث التحول المفاجئ حين ورط سعيد بن جبير نفسه في تبرير مبايعته لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ولم يستطع أن يستند على حجة فقهية مقنعة في الخروج على بيعتين كان قد ألزم بهما نفسه تجاه الخليفة الأموي .
إن الرواية في المنهج الثاني تصور لنا الحجاج وهو يصدر قراره بإعدام سعيد بن جبير مستندا على تأويل لفقه البيعة ، وهي تصور لنا أيضا أن سعيد بن جبير وإن كان لم يتراجع أو يعتذر بشكل واضح فقد حاول أن يسترحم الحجاج ببناته الصغار.
طويت صفحة سعيد بن جبير في الحياة ولم تطو بالطبع من سجلات العلوم .
وظلت لسعيد بن جبير مكانته العلمية محفوظة ، وظلت سمعة الحجاج محفوظة كذلك .
وبقيت معضلة تكييف النهاية دون حل يغطيها ركام كثيف من الروايات البكائية التي تركز على المشهد الأخير بناءا على المنهج الأول الذي أشرنا إليه آنفا.
نعم ، ففي تقديري أن قصة الحجاج بن يوسف الثقفي وسعيد بن جبير تمثل مثالا نموذجيا لمعضلة العلاقة بين العالم والسلطة ، فالعالم له قبوله وله احترامه لدى العامة والخاصة ، لكنه حين يرضى لنفسه أن يقتحم غمار مسئوليات الدولة التنفيذية فإنه يصير حينئذ مسئولا مثله مثل غيره عن واجباته واستحقاقاته أمام من ليس بالضرورة عالما مثله ، وإن كان الحجاج بن يوسف الثقفي على شدته على درجة من العلم والمعرفة بالنصوص لا ينكرها إلا جاهل.
عمر سعيد بن جبير حين قتل : وله نحو من خمسين سنة (العبر)
قال محمد بن عبد الرحيم: سألت علياً عن سعيد بن جبير ؟ قال: قتل وهو ابن اثنتين وأربعين سنة ونحن نستبعد هذا لأنه يعني أن سعيد بن جبير كان عمره 16 عاما فقط حين توفي عبد الله بن عباس.(المعرفة والتاريخ)
و عَن واصل عَن عَبْد اللَّهِ بْن سعيد بْن جبير قَالَ: قتل أَبِي وله تسع وأربعون سنة.(أنساب الأشراف للبلاذري).
نماذج من أقوال العلماء في مقتل سعيد بن جبير:
كنت عند سعيد بن جُبير" سعيد بن جُبير من أكابر التابعين علماً وورعاً وفقهاً، وهو من تلاميذ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قتله الحجّاج بن يوسف الثَّقفي قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وبقتله أُصيبت الأمة بفقد عالم من أجلِّ علمائها.(إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد)
و سعيد بن جبير شهيدا قتله الحجاج لعنه الله (تاريخ الخلفاء) ، وفي شعبان قتل الحجاج قاتله الله سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي المقرىء الفقيه المفسر أحد الأعلام ( العبر)
هكذا هي النصوص المتواترة ، كلها تلعن الحجاج لأنه قتل سعيد بن جبير ولكن لا أحد يقول لك ماذا كان على الحجاج أن يفعل إزاء سعيد بن جبير بعد كل ما حدث بينها ، إنها حقا معضلة العلاقة بين العالم ورجل السلطة التنفيذية .
وبعد أيام من قتل سعيد بن جبير حانت لحظة الحجاج .
ماذا كان سبب موت الحجاج ؟ قيلت عدة روايات منها
1) مرض السل : ذكر أنه أخذه السل و هجره الرقاد فلما أحتضر قال لمنجم عنده هل ترى ملكاً يموت قال أرى ملكاً يموت اسمه كليب فقال أنا و الله الكليب بذلك سمتني أمي قال المنجم أنت و الله تموت كذلك دلت عليه النجوم قال له الحجاج لأقدمنك أمامي فأمره فضرب عنقه و مات الحجاج في ولاية الوليد بن عبد الملك بن مروان و قد بلغ من السن ثلاثاً و خمسين سنة و ولى الحجاز و العراق عشرين سنة و كان قتل من الأشراف و الرؤساء المذكورين مائة ألف و عشرين ألفاً صبراً سوى عوام الناس و من قتل في معارك الحروب و كان مات في حبسه خمسون ألف رجل و ثلاثون ألف امرأة (البدء والتاريخ)
2) الكوليرا : قام أعشى همدان و هو غلام يومئذ حدث إلى علي عليه السلام و هو يخطب و يذكر الملاحم فقال يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة فقال علي عليه السلام إن كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ثم سكت فقام رجال فقالوا و من غلام ثقيف يا أمير المؤمنين قال غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها يضرب عنق هذا الغلام بسيفه فقالوا كم يملك يا أمير المؤمنين قال عشرين إن بلغها قالوا فيقتل قتلا أم يموت موتا قال بل يموت حتف أنفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد – شيعي)

وتقول الروايات أن خبر قتل سعيد بن جبير بلغ الحسن البصري فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج فما بقي إلا ثلاثة، وقع في جوفه الدود ومات.(بغية الطلب في تاريخ حلب)

عاش الحجاج خمس عشرة ليلة بعد قتله سعيد بن جبير وقعت الأكلة في بطنه ، فدعا الطبيب لينظر إليه، فلما نظر إليه دعا بلحم منتن، فعلقه في خيط، ثم أرسله من حلقه وتركه ساعة ، ثم استخرجه وقد لزق به من الدم، فعلم أنه ليس بناج (مغاني الأخيار)

وواضح جدا الواضح المبالغة في أعداد الذين قتلهم الحجاج وتقديرهم بمائة وعشرون ألفا عدا الذين قتلهم في المعارك ، فقد حكم الحجاج العراق لمدة 20 عاما وهذا يعنى أن عدد الذين كان يقتلهم صبرا في حدود 16 شخصا يوميا ، فهل يعقل ذلك ؟ بل إن عبارة الذين قتلهم في المعارك تجعل الحجاج مسئولا عن جميع قتلى معاركه بصفته الشخصية !!

وتمثل كل الروايات والنصوص التي تصب اللعنات على الحجاج بسبب قتله سعيد بن جبير معضلة فقهية تبقى دون حل ، لأنه ما من أحد يخبرنا عن الرأي الفقهي الصريح في تمرد الجيش الذي قاده عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ولا عن حدود مسئولية شخص مثل سعيد بن جبير في ذلك التمرد وما تلاه من تنقله في البلدان وعدم طلب العفو أو حتى محاولة الوصول لتسوية لوضعه بطريقة شرعية واضحة مع السلطة الحاكمة ، وهذا يقودنا بدوره إلى سؤال معضل : هل تكفي العالم أو الفقيه سلطته المعنوية المكتسبة من فقهه وورعه وسمعته وغيرها لأن تحول بينه وبين المساءلة والمحاسبة فيكون ميزانه مختلفا عن باقي الناس؟
بل لعل عقل الإنسان المسلم العادي مثلي يصاب بالرهق والحيرة وهو يطالع النصوص العديدة وهي تصف موت الحجاج وكأنه استجابة لأدعية الصالحين وعقوبة عاجلة له لقتله سعيد بن جبير بغض النظر عن الحيثيات والوقائع السابقة بينهما ، بل تبلغ الحيرة مداها وهو يطالع النصوص التي تصور الحجاج بن يوسف الثقفي نادما وهو يهذي في مرض موته : مالي ولسعيد بن جبير ... مالي ولسعيد بن جبير !!
على ماذا ندم الحجاج ؟ أندم على أنه ظلم سعيد بن جبير بالرغم من أنه استند على فقه شرعي في إصدار الحكم بالقتل ضد سعيد بن جبير ؟ أم أنه ندم لأنه لم يعف عنه لأن السنوات قد مرت وهدأت نيران الغضب وقد استرحمه ببناته الصغيرات بعد طول تنقل في البلدان ؟ وشتان ما بين ندم وندم.
فلسفة الحجاج تجاه الموت
أرجف الناس بموت الحجاج فخطب الحجاج وقال: إن طائفة من أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا مات الحجاج ومات الحجاج فمه، وهل يرجو الحجاج الخير إلاّ بعد الموت، والله ما يسرُّني أن لا أموت وأنّ لي الدنيا وما فيها، وما رأيت الله رضي التخليد إلاّ لأهون خلقه عليه: إبليس حيث قال: إنك من المنظرين، فأنظره إلى يوم الدين ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، فأعطاها الله البقاء فما عسى أن يكون أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل، كأني والله بكل حيٍّ مني ومنكم ميتاً وبكل رطب يابساً ، ثم نقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولاً في ذراع عرضاً فأكلت الأرض لحمه ومصَّت صديده وانصرف الحبيب من ولده فقسم الحبيب من ماله. إن الذين يعقلون يعقلون ما أقول ثم نزل (الوافي بالوفيات)
فلسفة الحجاج تجاه الصدق والكذب :
راجع قصة الحجاج مع الشعبي في الحلقة رقم (5) ، وكيف أنه كان يعفو عن كثير من الناس لأنهم كانوا صادقين ولم يخفوا عداوتهم وكرههم له ، وهذا يعني أن العداوة والكره كانت بنظره لا تستحق العقاب إلا إذا تحولت إلى عمل مسلح ضد الدولة.
من أدعية الحجاج في مرض موته :
يا ربِّ قد حلف الأعداء واجتهدوا ... ... بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم ... ... ... ما علمهم بعظيم العفو غفار

وقال محمد بن المنكدر: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجّاج فنفس عليه بكلمةٍ قالها عند الموت: اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون أنك لا تفعل.(الوافي بالوفيات)
مات الحجاج فقيرا :
ولم يخلِّف الحجاج لما مات غير ثلاثمائة درهم ومصحفاً وسيفاً وسرجاً ورحلاً. وكان يقول عند احتضاره: ما لي ولك يا سعيد بن جبير. ولما مات لم يعلم بموته أحد، حتى أشرفت جاريةٌ فقالت: ألا إن مطعم الطَّعام ومفلَّق الهام وسيد أهل الشام قد مات (الوافي بالوفيات)
وصية الحجاج :
بعث إلي المنصور أبو جعفر فقال: حدثني بوصية الحجاج بن يوسف، فقلت: أعفني يا أمير المؤمنين، قال حدثني بها، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف: أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك عليها يحيى، وعليها يموت، وعليها يبعث وأوصى بتسعمائة درع حديد: ستمائة منها لمنافقي أهل العراق يغزون بها، وثلاثمائة للترك.
قال: فرفع أبو جعفر رأسه إلى العباس الطوسي، وكان قائما على رأسه، فقال: هذه والله الشيعة لا شيعتكم.(بغية الطلب في تاريخ حلب)
أم كلثوم حفيدة فاطمة الزهراء كانت من زوجات الحجاج :أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، وأمها زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأم زينب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جمهرة أنساب العرب لابن حزم)
أراد عبد الله بن جَعْفَر أن يزوج الحجاج، فأرسل إلى عمر بن علي ابن أبي طالب أن أحضر حَتَّى تزوجه؟! فأرسل إِلَيْهِ عمر: أن أخر ذَلِكَ إلى الليل فإني أكره أن يراني الناس فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزوج الحجاج!! فأرسل إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يبق أحد يستحيا منه، ولو كان أحد يستحيا مِنْه لَمْ نفعل هَذَا!!! قَالَ: وَكَانَ عمر ذا عقل ونبل (أنساب الأشراف للبلاذري)
الخارطة الزمنية للأحداث

ونختم بعرض لنماذج من كيفية التركيز المخل على المشهد الأخير لقصة سعيد بن جبير والحجاج
مازن السرساوى :
http://www.youtube.com/watch?v=29DXt0mbRnc

http://www.youtube.com/watch?v=CqZluzZ6rNU
أيمن صيدح :
http://www.youtube.com/watch?v=-ULj-hmBLQw

http://www.youtube.com/watch?v=wr45ujjoUn0
الشيخ نبيل العوضي :
http://www.youtube.com/watch?v=1gLqYfLI4ss&feature=related

انتهت ولله الحمد والفضل والمنة
كمال حامد عبد الرحمن
Kamalhamid1957@gmail.com




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !