مواضيع اليوم

سعيد بن جبير والحجاج القصة كاملة (4)

عبدالرحمن محمد

2011-04-17 19:46:16

0

الحلقة (4)
تمرد جيش الطواويس
لم يكن اختيار الحجاج لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث لقيادة الجيش موفقا ، خاصة بعد أن جربه في قتال الخوارج ، إضافة إلى خلفيات السيرة الذاتية لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس التي لم يكن مثل الحجاج ليجهلها بكل تأكيد ، فما هو السر في هذا الاختيار ؟
على كل ، حدث ما حدث وكان أمر الله مفعولا ، واجتهد الحجاج في تمويل وتزويد الجيش بكل ما يحتاجه ، و سمي ذلك الجيش جيش الطواويس لحسن تجهيزه.
إعداد جيش الطواويس بقيادة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
أولا : استأذن الحجاج من عبد الملك بن مروان في أن يبعث جيشاً كبيراً بلغ عدده أربعين ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة وأنفق عليه ألفي ألف (مليونين) سوى أعطيات المقاتلين وبالغ في تجهيزه بالخيول الروائع والسلاح الكامل (الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار) ولهذا سمي الجيش بجيش الطواويس لحسنه (الكامل في التاريخ)
ثانيا : قام الحجاج بتعيين سعيد بن جبير مسئولا عن مالية الجيش وأعطيات الجنود ، وهذا يعني أن سعيد بن جبير كان المدير المالي لذلك الجيش ، إضافة إلى أن تعيينه الذي جاء من قبل الحجاج مباشرة يعطيه نوعا من الاستقلالية عن قائد الجيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فلو كان تعيينه في هذا المنصب المهم قد جاء بواسطة قائد الجيش لكان سهلا عليه أن يعزله متى شاء كما قام بتعيينه ، وهذا أمر بديهي في علوم الإدارة قديما وحديثا.
وما من شك أن قائدا مثل الحجاج حين كان يختار سعيد بن جبير للإشراف على مالية الجيش كان يضع في اعتباره المكانة الأدبية والعلمية لسعيد بن جبير تلميذ عبد الله بن عباس ، وبهذا يضمن عدم حدوث أية انحراف أو تلاعب في كيفية الإنفاق ، وربما كان وجود سعيد بن جبير في ذلك الجيش وذلك المنصب القيادي من العوامل التي جعلت الحجاج يتغاضى عن تحذيرات وصلته حول شخصية قائد الجيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، وكان أقوى هذه التحذيرات من إسماعيل بن الأشعث عم عبد الرحمن.
فمن هذه التحذيرات :
تحذير إخوة عبد الرحمن للحجاج : جاءت إخوة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث منهم قيس وإسحاق والمنذر والصباح حتى دخلوا على الحجاج فقالوا: لا توجه عبد الرحمن في هذا الجيش، فإنا نتخوف أن يخرج عليك ! قال: ليس هذا أول حسد الإخوة، وإنما أنتم حسدتموه لأنه ليس من أمكم...(وانظر الإمامة والسياسة 2 / 37).(الطبري)
كذلك أتى إسماعيل بن الأشعث عم عبد الرحمن للحجاج وقال له: لا تبعثه فو الله ما جاز جسر الفرات فرأى للوالي عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري (الكامل في التاريخ)
وتفيد بعض المصادر أنه كانت هناك كراهية دفينة بين الحجاج وعبد الرحمن بن الأشعث ، وتقول هذه الروايات أن الحجاج قال يوما في شأن عبد الرحمن بن الأشعث : ما رأيته قط إلا أردت قتله. وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به ، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه ، ويبدو والله أعلم أن من أسباب هذه الكراهية إحساس الحجاج بتواطؤ كان بين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عن قتال شبيب الخارجي كما أسلفنا .
ولكن مهما كانت صحة هذه المعلومة إلا أن الواضح أن الحجاج لم يحرم عبد الرحمن بن الأشعث من الوصول إلى أهم الوظائف القيادية في ذلك الزمان وهي قيادة الجيوش ، فبالرغم من فشل عبد الرحمن بن الأشعث في التجربة الأولى في قتال شبيب الخارجي فها هو الحجاج يمنحه فرصة ثانية في قيادة جيش أضخم وأعظم وهو جيش كان متجها لقتال لا شبهة فيه : جهاد الأمم الكافرة.
وربما يتجه الظن والله أعلم أن قيام الحجاج بتكليف سعيد بن جبير الإشراف على مالية الجيش كان من العوامل التي جعلته يطمئن إلى أن وجود مثل سعيد يمكن أن يكبح أية تطلعات وطموحات ذاتية لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، والحق يقال ، لم يكن سعيد بن جبير الوحيد ذو المكانة العلمية المرموقة في ذلك الجيش ، بل كان فيه عدد كبير من القراء (الحفظة) وكان في الجيش تابعي آخر مشهور هو عامر الشعبي ، ومر عامر الشعبي لاحقا في هذا الجيش بنفس ما مر به سعيد بن جبير من مشاركة في الثورة ، لكن الشعبي انتهى مع الحجاج نهاية مختلفة جدا سنتطرق لها في حينها.(سنة 99هـ : عامر الشعبي قاضيا على الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز ، فتأمل !!)
وصل جيش الطواويس إلى سجستان (أنظر الخارطة في الحلقة 3) و سار يريد رتبيل ملك البلد وحقق انتصارات في البداية ، ولكن الجيش كان لكما أوغل كلما ازدادت المهمة صعوبة بسبب الإحترازات والكمائن التي كان يعدها رتبيل ، فتوجس عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث من أن تتحول الانتصارات إلى هزيمة ، فكتب إلى الحجاج يعلمه برجوعه إلى مدينة تسمى بست في تلك الأصقاع ، وأخبره أنه قرر أن يؤخر الهجوم على رتبيل إلى العام المقبل.
رفض الحجاج هذا التراجع ، وكتب إلى الرحمن بن محمد بن الأشعث كتاباً يرفض فيه طلبه بمهادنة رتبيل ، وأغلظ له القول وتوعده قائلا : (إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغناؤهم عظيماً، وإنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم ) ثم أردف الحجاج بكتابً آخر بنحو ذلك، وفيه : ( أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم ) ثم كتب إليه ثالثاً بذلك، ويقول له: ( إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس).(الكامل في التاريخ)
وحين تقرأ بتمعن تعليمات الحجاج فلا شك أنك تجد فيها تفكيرا استراتيجيا بعيد المدى ، فقوله مثلا : (فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم) ، يعني أن الجيش المسلم ستصير أرزاقه تدريجيا من إنتاج زراعتهم في تلك البلدان وسيقل اعتمادهم تدريجيا على انتظار المدد المالي من العراق أو الشام عاصمة الدولة ، إضافة إلى أن الانشغال بالزراعة كفيل بأن يوفر للجنود عملا مؤقتا يبعد عنهم الإحساس بالضجر نتيجة الانتظار المتطاول لشهور أو أسابيع دون قتال .

الثورة و الخطاب التحريضي :ألا أن قائد الجيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث حين وصلته كتب الحجاج لم يقبل تعليماتها الصارمة وأسلوبها الزاجر،و برزت الشخصية الأصلية فخطب في الجنود قائلا ومحرضا : أيها الناس إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر، وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي (رتبيل) بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني و يأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ( الحجاج ) ولا نسمع له ولا نطيع.
فكان أول من تكلم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، وله صحبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع.
هنا تنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي ( وشبث بن ربعي والد عبد المؤمن كان من الذين خذلوا الحسين بن علي حين حضر إلى كربلاء وكان صاحب مواقف متقلبة جدا في سيرته مع علي بن أبي طالب ) فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود ( أي أنه سيجعلكم تستوطنون هذه الأصقاع ويمنعكم من العودة إلى دياركم) ، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم.
و تجمير البعوث معناه حبس الجنود في الثغور ومنعهم من العودة إلى أهليهم (وفي حديث عمر، رضي الله عنه: لا تُجَمِّروا الجيش فتفتنوهم؛ تجمير الجيش جمعهم في الثغور وحبسهم عن العود إِلى أَهليهم - لسان العرب)
فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له، ولم يذكر الخليفة عبد الملك بن مروان. (الكامل في التاريخ)
وهنا لا يملك المرء إلا أن يتعجب من منطق الثوار ومن أن تكون مجرد هذه الرسائل القاسية من الحجاج سببا في تمرد ينكص على أثره ذلك الجيش الطواويسي على عقبيه ويعود ليقاتل نفس الجهة التي أرسلته قتالا قاسيا رهيبا يفنى فيه آلاف المسلمين في قتال كان من الأفضل أن يكون ضد رتبيل وقومه من الكفار مهما كانت نتائجه هزيمة أو نصرا، إضافة إلى أن كل الفتوحات الإسلامية في ذلك الزمان ما كان لها أن تنجح في نشر الإسلام إلا لأنها جمعت بين الفتح والهجرة والاستقرار في الأراضي الجديدة ، فقد اتسعت رقعة الفتوحات ولم تعد محصورة داخل جزيرة العرب حيث كان بإمكان المجاهدين الوصول إلى هدفهم وتحقيقه ثم العودة إلى مكة أو المدينة أو أوطانهم الأصلية أيا كانت ، كانت الفتوحات في ذلك الزمان كانت قد خرجت خارج جزيرة العرب إلى فضاءات ثقافية وجغرافية بعيدة وشاسعة لا يمكن نشر الإسلام واللغة العربية فيها إلا من خلال استيطان بعض الفاتحين الجدد وتمازجهم مع أهل البلاد بالتجارة والتزاوج وغيرها من المنافع ، فما هو المنطق في أن يكون التجمير سياسة للحجاج يرفضها القوم لا لشيء إلا لأنه قد بلغهم أن فرعون هو أول من جمر البعوث ؟!
الكارثة : عهد اللجوء الاحتياطي بين عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ورتبيل
توافقت الآراء إذن على أن يعود الجيش في الاتجاه المعاكس للهجوم على الحجاج في العراق ، وليت الكارثة توقفت عند هذا الحد ، بل إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وضع خطة في غاية الغرابة حتى يضمن لنفسه السلامة واللجوء الآمن مستقبلا إذا ما فشلت الثورة ضد الحجاج.
كانت خطة التأمين المستقبلي هذه تعتمد على العودة واللجوء إلى رتبيل ملك السند الكافر الذي أخرجهم الحجاج مجاهدين ضده ومولهم بكل ما يحتاجون من مال وعتاد .
قال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث : (نسير إلى العراق، ونكتب بيننا وبين رتبيل كتاب صلح فإن تم أمرنا وقفنا عنه، ورقبنا له ، وإن كانت الأخرى اتخذناه ملجأ)
فتم رأي القوم على ذلك، وكتب بينه وبين رتبيل كتابا بهذا الشرط ، وهو شرط في غاية الانهزامية والانتهازية ولا شك ، فهو يعني أن ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ضد الحجاج إذا كتب لها النصر فإن الحكم الجديد في الكوفة يتعهد بعدم شن أية حرب مستقبلية ضد رتبيل وقومه ، ولكن هذا الشرط في مقابل ماذا ؟ في مقابل أنه إذا هزمت الثورة فإن رتبيل يضمن لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه لجوءا آمنا في بلادهم من مطاردة الحجاج !!
وهنا يحق للمرء أن نتساءل : أين كان سعيد بن جبير في تلك الأوقات ؟ وهل كان يجهل بهذه الشروط ؟ وهل أجاز أن يقوم عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس بعقد هدنة مع الملك الوثني الذي أرسل للجهاد ضده من أجل أن يعود متمردا ضد الحاكم المسلم مهما كان ظالما غشوما ، وهو نفس الحاكم الذي أرسلهم وجهزهم بكل ما يحتاجونه من مال وتجهيزات ؟
ليس ذلك فقط ، بل يكون من شروط الهدنة ترتيبات مستقبلية تضمن لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أن يعود لاجئا إلى بلاد رتبيل إذا فشل تمره ضد الحجاج !!! وهذا ما حدث بالفعل لاحقا ولكن كان فيه هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث كما سنرى لاحقا !
وهل كان لمثل هذا التمرد أن ينجح بهذه السهولة إذا كان قد وجد معارضة واضحة من المسئول المالي للجيش ؟
الحرب الإعلامية ضد الحجاج : لما أجمع ابن الأشعث المسير إلى العراق دعا أبا عمرو بن ذر الهمداني فكساه ووصله وأمر أن يحضض الناس فكان يقص كل يوم وينال من الحجاج ثم ساروا وقد خلعوا الحجاج ولا يذكرون خلع عبد الملك
وبدأت مسيرة جيش الطواويس في الاتجاه المعاكس و ياله من اتجاه معاكس !!
ونواصل إن شاء الله تعالى




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !