كان بإمكان رجل الدين السعودي عبدالمحسن العبيكان أن يكون النسخة السنية الجديدة من "خميني إيران" لو تحمّس لما قاله له رفيق دربه السابق أسامة بن لادن حين اقترح عليه في إحدى اجتماعاتهم في مدينة جدة، على ساحل البحر الأحمر، الخروج من البلاد والاقتداء بالثورة الخمينية التي أسقطت نظام الشاه الملكي.
بيد أن هذه النصيحة التي أقتنع بها العبيكان في البدء ما لبثت وأن تلاشت من مخيلته سريعاً على اعتبار أنه "مع التصحيح وليس مع الثورة والدماء" حسب ما جاء في حديث الأصولي السابق مع كبير محرري "واشنطن بوست" السيد ديفيد آتووي الذي تم في قصر العبيكان في حي حطين شمال العاصمة الرياض.
وتروي هذه المقابلة غير المنشورة، حتى الآن، بضعة فصول مهمة من قصة الشيخ العبيكان وتحوله من كونه متطرفاً وداعية تحريضياً ضد الدولة، إلى أن أصبح واحداً من أبرز رجال الدين الذين يعملون في برنامج المناصحة الذي يستهدف إقناع الشبان المتطرفين بالعدول عن أفكارهم العنيفة.
التقى العبيكان ببن لادن مرتين على الأرجح؛ وربما تبادلا الاتصالات الهاتفية أكثر من مرة إحداها كانت مكالمة عاصفة أشتكى فيها بن لادن من أنه ممنوع من السفر وعبر بصراحة لا حدود لها عن نقمته على من وصفهم بأنهم "علماء السلطان" وهم رجال الدين المؤيدون للحكومة.
كما أنه تلقى دعوة لزيارة مراكز المجاهدين في بيشاور وشارك بشكل رمزي في إطلاق عدة طلقات من قذائف الآر.بي. جي حسب ما جاء في هذه المقابلة التي تنشر "إيلاف" مقتطفات منها. عن ذلك التصرف العسكري قال :" كان الهدف منه رمزيا وكنت ارغب بتشجيع الشباب وتجريب الشعور بلذة الجهاد في سبيل الله".
في تلك الزيارة ألقى محاضرة مدتها ثلاث ساعات في معسكر الفاروق حيث تم جمع المقاتلين والمتدربين في المعسكر للاستماع إليه. كان ظلام الليل مسيطراً ولم يكن هناك سوى سراج واحد بالكاد مكّنه من رؤية الصف الأول من الحضور الكثيف.
تحدث في تلك المحاضرة عن "فضل الجهاد وعظيم منزلته لدحر الروس". كما تحدث "عن خطورة التكفير" وعن "الإقتداء بالنبي وبالسلف العظام". كان الجو ساحراً أعاد الحاضرين قروناً إلى الوراء، إلى عصور الصحابة وليالي الذكر العامرة بالقرآن، وتنهدات المؤمنين الخائفين وبكائهم.
كانت نتائج المحاضرة "طيبة جداً وأحدثت تغييراً كبيراً في قناعات الحضور خاصة بعد إيراد النصوص الشرعية والبحث الدقيق لهذه المسألة" بحسب العبيكان.
إلا أنه لم يُرض جميع الذين حضروا للاستماع إلى محاضرته في معسكر الفاروق فقد علت بعض الهتافات المعادية له من قبل بعض من المجاهدين الفلسطينيين والسوريين والجزائريين والمصرين والليبيين وبعضاً من السعوديين كذلك الذين لم يعجبهم حديثه الودود داعين إلى ضرورة تكفير حكام الدول والمشايخ.
ويبدو أن هذا الفكر هو ما كان يميل إليه أسامة بن لادن المطلوب العالمي رقم واحد.
في لقاءه الأول مع بن لادن كان حديث الأخير منصباً على الجهاد الأفغاني وضرورة تدخل الحكومة السعودية لإجراء مصالحات بين القادة الأفغان الذين تناحروا بعد خروج الروس.
أما المقابلة الثانية فهي العاصفة الحقيقية.
زار بن لادن، الذين كان ممنوعاً من السفر إلى الخارج، العبيكان في الرياض للحديث معه عن شؤون الدعوة والوضع السياسي للمملكة مركزاً على ضرورة تصحيح ما أسماه بـ "أخطاء الحكومة السعودية ولو استلزم الأمر اللجوء إلى القوة".
وبعد نحو ساعة من حديث بن لادن عن الفساد وانعدام الكفاءة والانحراف عن الدين والاعتماد على "الأمريكان الكفرة" كما وصفهم، رمى باقتراح مثير كمن حسم أمره وألقى النرد على الطاولة مما أثار تعجب سامعه الذي أعتدل في مقعده مذهولاً وهو يستمع إلى العرض اللادني الغريب.
عرض بن لادن على العبيكان الخروج إلى أفغانستان للبدء في ما بدأه الخميني بأن يلقي العبيكان خطباً لتهييج الناس ضد الحكومة واعداً إياه بأن يقوم بثورة في المملكة على غرار الثورة الإسلامية الإيرانية.
قال العبيكان لديفيد آتووي مراسل "واشنطن بوست" عن هذا الاقتراح : "فكرت في الأمر مليا وكدت أن استحسن الفكرة لحظات ولكنني في النهاية رفضت لعدم قناعتي بهذا الأسلوب .. إنني مع التصحيح ولست مع الثورة والدماء".
وكان ذلك هو الاجتماع الأخير بين الرجلين فقد خادع بن لادن الحكومة السعودية وحصل على أذن بالسفر إلى السودان، ولم تكد قدماه تطأ أرض مطار الخرطوم حتى أعلن عن عداءه للحكومة، وعلى إثر ذلك تم إسقاط الجنسية عنه في عام 1994 في إجراء نادر لم تقم به المملكة حتى بحق رجال المعارضة السياسية الذين يعيشون في الغرب.
ومن كونه "خمينياً سعودياً" إلى أن أصبح "عميلاً أميركياً" ، حسبما يصفه به الأصوليون، فإن هنالك فاصل زمني كبير تغيرت فيه أشياء كثيرة داخل الأوساط الدينية التي تحرّك المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد المحارب الأسطوري عبد العزيز آل سعود.
والعبيكان واحد من الوجوه التي برزت عقب الحادي عشر من سبتمبر ضمن مجموعة من نقاد الظاهرة الدينية الذين خرجوا من المدرسة المتطرفة ذاتها وانقلبوا عليها ليعملوا على تعريتها فكرياً.
وفيما يتهرب كثيرون من الحديث عن تحولاتهم إلا أن العبيكان ليس واحداً من هؤلاء الذين يهربون من مواجهة الماضي.
يقول عن إن كانت مبادئه قد تغيرت:" لم يتغير فكرى وفهمي للجهاد فهو طريقة للإصلاح الإداري وإصلاح القضاء ومحاربة الرشوة والفساد وقد مارست أسلوب الجهاد العلني في المملكة من خلال الخطب الحماسية والنقد الشديد للحكومة آنذاك أما بالنسبة للجهاد فلم يكن التطرق إليه إلا بما كان يتعلق بأفغانستان وذلك دفعاً لاعتداء الروس عليهم".
والعبيكان داعية إسلامي سعودي معروف. التحق بكلية الشريعة بمكة المكرمة وكانت آنذاك تابعة لجامعة الملك عبد العزيز بجدة ؛ لكنه لم يمكث فيها سوى أربعة أشهر ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض، وأتم فيها المرحلة الجامعية.
وكان قد عين عام 2005 مستشاراً بوزارة العدل بالمرتبة الممتازة, وعضواً في مجلس الشورى. ألّف كتاباً في الفقه المقارن أسماه (غاية المرام شرح مغني ذوي الإفهام ) الذي يعتبر موسوعة فقهية طبع منه سبع مجلدات، كما ألّف كتاب ( الخوارج والفكر المتجدد) وكتاب (خوارج العصر).
ولا يزال يثير الجدل سواء بنشاطه التجاري أو فتاواه الدينية التي يغلب عليها الطابع السياسي أحياناً، وصولا إلى تصرفاته في حياته العامة حين انتقد لأنه رقص رقصة شعبية في زواج أحد أقاربه.
وعلى الرغم من إنني في لقائي السابق مع آتووي تحدثنا فقط عن كتابه الجديد عن بندر بن سلطان إلا أن هذه المقابلة جاءت إلى يدي بطريقة ما، وكان المقصود من نشرها الإطلاع على تجربة رجل أثار الجدل ومن المتوقع أن يثيره أكثر حين يرتقي منصباً جديداً في شؤون القضاء ودهاليزه.
التعليقات (0)