كاظم حسوني
المحطات تنبئ عن الغياب ، وتقول بالرحيل ، وتهيئ للغربة والمنفى ، وتذكر بالموت ، وهي ايضاً تنبئ عن اللقاء ، وتقول بالعودة وتمنح الطمأنينة والحب وتجهر بالحياة ، المحطات تطوي في هدير قطاراتها مفارقة الوجود . . وثمة توصيفات اخرى للمحطات دونها القاص المبدع سعد محمد رحيم ، في العديد من قصصه ، كونها اي المحطات امكنة مشبعة بخطى العابرين ، ومكاناً مؤقتاً للقاء الغرباء والمسافرين ، يضمهم حين من الوقت ، في انتظار قد يطول او يقصر ، في افنيتها وغرفها المهملة ، يحدث ان يقصون احياناً شيئاً من مغامراتهم او حكاياتهم ، سيرهم او اسفارهم ، وربما يحتويهم الصمت ، او يحتويهم الحنين او العشق العابر ، قبل ان تغيبهم عربات القطار عند حلوله في المحطة ، فيختفون ، يرحلون ، تاركين رغباتهم واحلامهم معلقة في فضاء صالات الانتظار العتيقة المتربة ، الملطخة بخربشات تواريخ الاسى والوداع ، (فالمحطات سلة وعود ، ومتبدأ عوالم ، ورهان حتى على المستحيل) تلكم المحطات نجدها في مجاميع سعد محمد رحيم القصصية (هي والبحر) و (المحطات القصية) و (زهر اللوز) جاعلا منها مفترقات طرق يقصدها الغادون والرائحون بانتظار الرحيل ، قد يفصحون في توقفهم المؤقت لبعضهم البعض عن هواجس وهموم ، وتطلعات ، في برهة وجيزة من الزمن ، قبل ان يأتي القطار ويمضون ، يقطع تواصلهم عنوة صفيره المباغت وضجيج عرباته الثقيلة . . هذه الامكنة اي المحطات تختزن مرموزات كثيفة اشبه ما تكون بالبئر تحوي في قعرها الاحلام والاسرار والذكريات واللقاءات ، والرغبات الدفينة ، واشياء اخرى لأطياف العابرين . . اذ لا تخلو اغلب قصصه من المحطة وسكة الحديد ، التي تخترق المدينة او تقوم على تخومها ، ، حيث انحفرت تلك المشاهد في ذاكرته منذ طفولته الباكرة ، ولعل حضور المحطات في نصوصه يأتي استحضارا لطفولته المضمخة بغبار عربات القطارات ، حيث ولد في بيت يصحو فيه كل يوم على دوي القطار في غدوه ورواحه من والى محطة السعدية مدينته ، ، لذلك لن يتوقف القاص عن تشكيل صور المحطات وابتكارها في قصصه (لن اتملك طفولتي مالم ارسم خطاها على مسار السكة الحديد التي تنحني بين وحول ، حقول السعدية وبساتينها) فأخذ يستعيد حضورها بقوة الكتابة ، خاصة وان هذه الامكنة المشبعة بالميثولوجيا تثير الخيال ، تمنح دفقاً جمالياً لأسلوبية الكتابة النثرية . . وعند القاء نظرة سريعة على عنوانات قصصه نرى استئثار تلك الامكنة دون غيرها بالنسبة للكاتب ، خصوصاً في مجموعته القصصية (هي والبحر) التي احتوت على قصص منها (محطة الثلج) و (محطة الغياب) و (محطة الشروق) و (محطة الرغبة) و (محطة التيه) ومحطات اخرى ، فحينما تلتقي شخصياته في (محطة الثلج) الشيخ والمرأة العجوز والفتاة ، والجنود الثلاثة ، بمكان قصي هو المحطة الثلجية ، تعتري بعضهم الرغبة للتحدث عما يعتمل في نفوسهم ، فتشكو العجوز من وحدتها ، ويهمهم الشيخ متبرماً من عزلته ، الآخرون ساورتهم ذات الرغبة للبوح ، فـ(محطة الثلج) بقعة متجهمة نائية وباردة ، اشجارها جرداء ، وسماؤها داكنة يتساقط منها نثيث الثلج ، ، لعل طبيعتها تأتي انعكاساً ومعادلاً موضوعياً لما يعتري اولاء الابطال ، وما يشعرون به من اغتراب وفقدان ، اذ عمل القاص عبر ذلك على استنطاق الاشياء والموجودات ، فالثلج ايحاء دال على حالة الشيخ ، وغربة العجوز ، وحزن الفتاة ، والمصير القاتم للجنود الذاهبين قسرا الى الحرب ، كذلك سلكت المحطات الاخرى الطريق ذاته في مدلولاتها المشابهة لـ(محطة الثلج) ، (فالتيه) و (الرغبة) و (الغياب) و (الشوق) وبقية المحطات تستمد كل منها قيمتها من موحياتها المتمثلة بجغرافية البقعة ، ومن ايحاء تسميتها ، ودلالة المكان والبيئة ، ومن الرؤية الفنية والأسلوبية للقاص سعد محمد رحيم الذي يشكل نتاجه الابداعي حضورا فاعلا ، فكتابة القصة والمقالة لديه تتمتعان بمهارة واناقة عاليتين ، تشيران الى موهبة وعمق ثقافي ، اذ يتميز اسلوب الكتابة عنده بالشاعرية ، وجمال العبارة القصصية والتقنيات السردية المحكمة ، هذا ما نجده واضحاً خاصة في مجموعته (زهر اللوز) الصادرة 2009 . فقصص مثل (في اقصى الفردوس) و (رؤيا رفل) و (نزوة الطرائد) و (الغجر . . ان يجيئوا ثانية) ، وهي تنتمي الى فضاءات مغايرة لقصص المحطات التي احتلت مساحات واسعة في تجربة لقاص . هذه القصص تميزت بتنوعات اسلوبية ، واشكال فنية حملت مضامين جديدة، وتنوع الأزمنة ، فالأحداث تروى في الماضي ، لكن السارد القاص ، او البطل الذي يروي ما حدث ويعيد تشكيله وتأليفه من جديد ، يحيله الى زمننا الحاضر ، تتلاقى الأزمنة مندمجة في زمن السرد ، فيبدو الماضي حاضراً في نسق الحكاية . .
التعليقات (0)