في الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات الناخبين المؤيدين للنائب سعد الحريري حول أسوار دارته المشهودة في صيدا، حيث عقر نفوذ آل الحريري وعقارهم، فإن أصواتاً أخرى، تفوح منها رائحة النقد، بدأت تتعالى في البلد الذي كونت فيه عائلته ثروتها ومجدها، أي في المملكة العربية السعودية.
ويعتمد الحريري، الأكثر نفوذاً في صفوف المسلمين السنة في لبنان حالياً، على الدعم السياسي والمالي الذي تقدمه له الرياض بسبب تاريخ مشترك ربطها مع والده رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، فضلاً عن روابط تجارية تجمعه مع أعضاء مؤثرين في الأسرة الحاكمة.
وفي أتون معركته الانتخابية، التي جاءت بعد أربع سنوات عجاف من الصراع بينه وبين المعارضة المدعومة من سوريا، قد يحدث ما هو أكثر إزعاجاً بالنسبة له من خسارته مقعداً في مجلس النواب، ألا وهو خسارة مقعده كحليف موثوق به بالنسبة للحكومة السعودية وكذلك ضياع رصيده الشعبي في المملكة.
وأدت هيمنة شركة "سعودي أوجيه" العائدة ملكيتها إلى آل الحريري على مشاريع التنمية والإسكان في المملكة، التي تغرق في بحر فوائضها من أرباح النفط، إلى تساؤلات شعبية حول الوقت الذي يمكن فيه طرح أسهم هذه الشركة للاكتتاب كي تصبح أوراقها وملفاتها مكشوفة للجميع.
وتأكدت من مصادر وثيقة الإطلاع أن ملف شركة "سعودي أوجيه" تتم دراسته على أعلى المستويات في الدولة وسيتم فتح جميع ملفاته وأوراقه قريباً الأمر الذي قد يمهد إلى تحويلها إلى شركة مساهمة عامة.
ووصلت هذه الأصداء الناقدة إلى الصحف الأولى حيث طالب كاتب سعودي بتحويلها إلى شركة مساهمة كي تعود بفائدة على الاقتصاد المحلي بدلاً من تعمل في الظلام.
وكتب محمد آل الشيخ، وهو كاتب معروف المملكة، في مقالة نشرتها صحيفة الجزيرة عن هذه الشركة :" أغلب العاملين فيها، وبالذات إدارتها العليا، وكذلك المستويات الإدارية والفنية المتوسطة هم - كما يقولون - من جنسية عربية معينة، الأمر الذي يحرم الشباب السعودي من الاستفادة المهنية واكتساب الخبرة من مثل هذه المشاريع".
ويضيف قائلاً عن هذه المشاريع الضخمة: "لو تدرب فيها السعوديون، وأُتيحت لهم الفرصة للاستفادة من الخبرات الأجنبية، لساهمت مستقبلاً في صناعة الإنسان السعودي القادر على الاضطلاع فنياً وإدارياً على إدارة مثل هذه المشاريع العملاقة".
إلا أن الإشارة اللافتة في المقال هو تساؤله عن "الطريقة التي حصلت بها على كل هذه المشاريع" وهو ما لقي آذاناً صاغية دلت عليها عشرات الاتصالات التي تلقاها الكاتب من شبان سعوديين مستاءين من تهميشهم في شركة تدار بأموالهم ولا يستفيدون منها.
وتلجأ البلدان، النامية منها على وجه الخصوص، عادة إلى ترسية مشاريعها ذات الحساسية الأمنية المفرطة إلى شركات بعينها بدلاً من طرحها في منافسة عامة. غير أن ذلك تحدده قوانين بالغة الصرامة لا ينطبق عليها سوى تلك المشاريع التي ربما تحمل تهديداً للأمن القومي.
وفي حال خسارة الحريري لمكانته السعودية شعبياً وسياسياً فهذا يعني أن الشرفات الأولى في قلعته، وهي كما هو معروف الأولى والأخيرة، قد بدأت في فقد دعاماتها الأساسية وأمر سقوطها قد يبدو قريباً حتى وإن كانوا يرونه بعيداً.
وتأسست هذه الشركة، التي يسيطر على جل وظائفها العليا أشخاص يحملون جنسية عربية واحدة، في الرياض عام 1978، وأسند لها منذ ذلك الوقت حتى الآن عشرات العشرات من المشاريع الحيوية في البلاد منها مطارات دولية ومستشفيات ومدارس ومجمعات حكومية وصناعية.
وتعتزم الشركة شغر أكثر من عشرين ألف وظيفة في السعودية بموظفين من الجنسيات الشرق آسيوية بينما تشكل نسبة البطالة في صفوف الشبان السعوديين أكثر من عشرة بالمائة.
وليس هذا هو المأخذ الوحيد على هذه الشركة المهيمنة بل أن الإشكالية الأخرى هو أن محاباة بعض الأجهزة الحكومية لها أسهم في تلاشي معظم الشركات التي يملكوها المواطنون السعوديون وكانت خلال فترة وجودها تعين القطاع العام في توظيف الشبان العاطلين عن العمل.
وكتب داوود الشريان في زاويته اليومية في صحيفة "الحياة" عن هذه الأزمة :" إن عدد الشركات التي تستحوذ على المشاريع الكبيرة لا يزيد عن شركتين «سعودي أوجيه» و «بن لادن»، ولا احد سواهما.. أما بقية الشركات، فهي أما سجلات على الورق بعد إفلاسها، أو مؤسسات صغيرة تعاني من العقبات".
والفرق بين شركة "بن لادن" و "سعودي أوجيه" رغم أن الهيمنة هي قاسمهما المشترك أن الأولى سعودية من العظم حتى النخاع موظفين وملاكاً وعاملين فيها وعليها، بينما الثانية تعبر فيها الأموال السعودية كما تعبر الطائرات في السماء ولا تترك خلفها سوى الأبخرة وأحيانا لا شيء.
ويمثل قطاع المقاولات في السعودية 7.5 من الناتج المحلي.
وقدّر رئيس لجنة المقاولين في الغرفة التجارية في الرياض فهد الحمادي في حديث مع "الحياة" حجم الاستثمارات، لهذا العام، بأكثر من 200 بليون ريال في مختلف المشاريع، مشيراً إلى إن عدد الشركات المسجلة في قطاع المقاولات يتجاوز 206 آلاف سجل تجاري.
وعن غياب المقاولين السعوديين عن ساحة البناء والاستفادة من الطفرة التي تمر بها بلادهم أضاف الشريان في مقالته :" كنت أتمنى من المسئولين الحديث عن الأسباب التي حالت دون استمرار المقاولين السعوديين بالقوة السابقة ... بسبب الإجراءات المالية المعقدة في صرف حقوقهم، ما دفع معظمهم إلى الإفلاس والخروج من السوق".
كما أن العديد من التقارير التي تدأب على نشرها مواقع الكترونية محلية في المملكة زعمت وجود تجاوزات تقوم بها "سعودي أوجيه" من خلال حصولها على مشاريع ضخمة بملايين الدولارات ثم تقوم بترسيتها على مقاولين من الباطن بمبلغ أقل عشرات المرات من المبلغ الذي حصلت عليه من الحكومة.
وهذا يتسبب في هدر تقدر قيمته بمئات الملايين من الدولارات سنوياً يفقدها المال العام.
إذاً هذه هي الأزمة الحريرية من منحاها الاقتصادي بينما تبدو على المنحى السياسي أكثر تعقيدا وذلك لأن تخبط "تيار المستقبل" الذي يقوده سعد الحريري تسبب عدة مرات في إحراج المملكة وجرها جراً إلى عدة حروب الأزقة الخلفية التي كان من الممكن تجاوزها دون إضاعة الوقت والجهد والمال.
وقبل أشهر مضت كانت نظرة واحدة على الصحف السعودية تمكنك من معرفة إلى أي ستكون وجهة بوصلتها. إنها إلى الشمال، كما هي العادة، وتحديداً إلى دمشق التي تحاول بعدة طرق أن تجر إعلام الدولة النفطية الكبرى جراً إلى معركة ليست بذات جدوى في وقت انكشفت فيه عورة النظام السوري أمام حلفاءه قبل أعداءه.
ولكن هذه المحاولة من قبل دمشق وحلفاءها في لبنان قد واجهت فشلاً ذريعاً رغم التجييش الذي أستمر عدة أسابيع متوالية روجت فيه وسائل إعلامية مقربة من دمشق العديد من القصص الملفقة عن الأمراء السعوديين، بينما على المقلب الآخر من الخريطة كانت صحف الرياض مشغولة بنشاط بلادها الاقتصادي المحموم.
وفي تلك المرة ليست دمشق وحدها من يتحمل مسئولية محاولات العودة السعودية الوجلة إلى المعركة بعد أن أنقشع غبارها، بل أن غباء "تيار المستقبل" اللبناني قد جعل حليفه الكبير مجروراً دون رغبة منه إلى مقارعة فئتين: الأولى لبنانية تغير جلودها لا أفكارها، والثانية سورية بقيادة رئيس ضعيف عديم المعرفة.
ولا تريد المملكة هذه المرة الدخول في معركة تعرف نتيجتها في النهاية في وقت حسمت فيه أمرها بأن لا وجود لدمشق لا في "الاتصالات ولا الحسابات"، بل الإبقاء على هدنة يمكن لها أن تخلق عملاً توافقياً يعود بمردوده الإيجابي على العمل العربي المشترك.
ضعف تيار المستقبل يفتح بوابات الأسئلة في الرياض وتحديدا في أروقة ماكينة الحكم حول مدى أحقيته بالدعم وماذا كان من الممكن التفتيش عن حليف جديد ودعمه كي يتمكن من ملأ الفراغ السني في لبنان.
وهذه الفكرة ليست في السعودية وحدها بل أن القاهرة وعمّان يشاطران الرياض قلقها من أن تبرز سوريا وإيران في المقام الأول كحاكمين لا شريك لهما على الملف الشامي اللبناني.
التعليقات (0)